رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد شمروخ يكتب: حوار العبث والعبوس في فيلم (المليونير) !

بقلم: محمد شمروخ

في بدايات فيلم إسماعيل ياسين (المليونير) الذي تم إنتاجه في سنة 1952، كثيرون انتبهوا إلى تلك الجملة العارضة في الحوار بين (عاصم الاسترليني) وشبيهه (جميز)، عندما عرف المنولوجست جميز نفسه رداً على (عاصم الاسترليني)، ساخراً من فقره قائلاً: جميز دولار!.

ولما استفهم منه (عاصم الاسترليني)، فسر جميز سخريته بأن أجره اليومى الذي يتقاضاه في الكازينو بالعملة المحلية، يوازى (دولار أمريكي) وهو بحساب تلك الأيام، يساوى ما قيمته “ريال” أي عشرين قرشا مصرياً.

ولا أظن أن المؤلف (أبو السعود الأبياري) صاحب قصة فيلم (المليونير)، كان يقصد بشكلٍ مباشر او غير مباشر، أن يؤرخ اقتصاديا لتلك المرحلة من تاريخ مصر.

إقرأ أيضا : رسالة جمال عبدالناصر التى نفذها إسماعيل ياسين في الأسطول

ولكنه فعل ذلك حقيقة ولو بدون قصد، إذ صار حوار جميز وعاصم، شريحة تاريخية مبسطة تعطى بعض الملامح الاقتصادية والاجتماعية عن الحياة في مصر في تلك الفترة وتصلح أن تكون عينة توضع تحت عدسة ميكروسكوب اقتصادى لتحليلها تحليلا دقيقاً.

لكن مع ذلك ستدخلنا نتائج التحاليل في حيص بيص سيقف علماء الاقتصاد والخبراء المثمنين أمامه طويلاً قبل أن يصيبهم المال ليخرجوا علينا بكلام لن نفهمه لأنهم هم أساساً فشلوا غي استيعابه!.

والأمر ليس مجرد مقارنة كنوع من التحسر بين سعر الدولار بالعملة المحلية اليوم، أو في أى عهد تال لفترة فيلم (المليونير)، لكن هناك أكثر من ملمح أسفرت عنه هذه النكتة الحوارية الجميزية، فلو حسبناها بطريقة ما، لوجدنا أن الدولار هو الذي هبط هبوطاً حاداً وليس الجنيه المصري وحده نو الذي انهار!

 فالدولار اليوم سواء كان بسعر الصرف الرسمي في البنوك والذي لا يقاس عليه عمليا (ما يزيد عن ثلاثين جنيه أو حسب السوق السوداء وهو حوالى خمسين جنيه يزيد أو ينقص قليلاً) لا يهم.

المهم أن الدولار أو الريال أو العشرين قرشاً في سنة 1950، كانت تكفي للحد الأدنى لمعيشة إنسان واحد ليوم واحد، أكل وشرب ولبس وسكن ومواصلات وعلاج، وإن كانت في الحدود الدنيا، ولكنها على أى حال تصلح لحياة أرقى من حياة المعدمين بدرجة واحدة على الأقل.

الجنيه المصري كان يوازى حسب سعر صرف عصر جميز وعاصم خمسة دولارات في فيلم (المليونير)

جميز في فيلم (المليونير)

لكن الدولار اليوم بأى سعر، رسمي أو سوق سوداء، لم يعد يكفي ليقيم الكفاف في معيشة إنسان واحد لمدة يوم واحد، كما كان يحدث مع جميز في فيلم (المليونير).

أما الجنيه المصري الذي كان يوازى حسب سعر صرف عصر جميز وعاصم خمسة دولارات، فكان لا يكاد يحلم باجتيازه أو حتى باحتيازه، أحد من طبقة جميز، لأنه يعنى أن صاحبه سيعيش معيشة تفوق معيشة جميز بخمسة أضعافها!.

وإذا تتبعنا الأفلام القديمة سنجد الكثير على مثال هذا الحوار بما لا يمكن حصره، إن هناك تعقيداً في المعادلة الاقتصادية يجعل المقارنة قد تبدو عبثا.

إذ أن الجنيه المصري في تلك الفترة ذاتها ولمدة كبيرة بعدها، كان يزيد عن الجنيه الذهب، بخمسة تعريفة، أى خمسة وعشرين مليما، والخمسة تعريفة هذه كانت يومية فلاح مصري يأكل ويشرب ويلبس ويمرض هو وأسرته بها!

لكن بسعر صرف الذهب تصبح يومية (جميز) بحسب فيلم (المليونير) تساوى على الأقل خمسة آلاف جنيه مصري الآن أو يزيد.

إقرأ أيضا : فى ذكرى رحيله الـ 49 .. (إسماعيل ياسين بوليس حربي) بأمر عبدالناصر

حيث أخبرتنا بورصة الذهب خلال الأسبوع الماضي، أن الجنيه الذهب لامس سعر ٢٦ ألف جنيه، بل زاد عليها بإضافة حساب المصنعية!

أى أن الحياة في تلك الفترة كانت باهظة التكاليف بحساب الذهب، حيث يعد (جميز) فيلم (المليونير) في عداد الفقراء مع أن دخله حسب الجنيه الذهب، يساوى 5200 جنيه وهى ما لا نحلم به الآن كأجر يومى!

(ومش بعيد عن ربك الرزاق)

ومع ذلك فجميز يشكو الضنك ويسخر من دخله أمام دخل عاصم الاسترليني) وهو (المليونير)، مع حساب أن الجنيه الاسترليني كان يساوى بالعملة المصرية في ذلك الحين، 97 قرش صاغ فقط لا غير!

إذن فقد انهار الدولار وكذلك الاسترليني بحساب سعر الذهب!

أعرف أن الأمر به نوع من العبث ولكن ذلك هو ما تقول به الآلة الحاسبة بأسعار صرف الدولار والإسترلينى بين العهدين!.

أى أن العبث لم يكن من (جميز) ولا منى، ولكنه من الآلة الحاسبة الصماء التى لا تعرف عملياتها عبثا ولا سخرية!

لكن العبث والسخرية يتفاقمان إذا ما أدخلنا في المعادلات، الماثلة أمامنا، أسعار السمن والزيت والسكر والبيض والبصل والفراخ والسمك واللحمة على نفس المعايير الدقيقة!

فى تلك العهود كان يسمى (المليونير) من يملك مليون جنيه أو أكثر

(المليونير) من يملك مليون جنيه

وحتى تدرك كم هى الأمور عابثة بنفس درجة جدية الآلات الحاسبة ومؤشرات البورصات العالمية وداو جونز وتصنيفات مودز، قارن ما بين معيشة المليونير في ذاك العهد وحتى أربعين عاماً بعدها، وبين معيشة الملياردير الآن.

سواء كان ملياردير بالمصري أو بالاسترلينى أو بالدولار، ففى تلك العهود كان يسمى (المليونير) من يملك مليون جنيه أو أكثر، وأحيانا كان يطاق اللقب على صاحب النصف مليون جنيه ويجوز إطلاقه بارتياح على صاحب الربع مليون في الريف وأطراف المدن!

غير أن صاحب (المليار) ومضاعفاته فقط، هو من يستحق الآن لقب (الملياردير)، بينما لا ينال هذا الشرف، من كون ثروة بالنصف أو بالربع مليار، فهو لم يزل في عداد المليونيرات الغلابة!

لكن صاحب (المليار) لا يمكن له أن يعيش عيشة مليونير زمان، وملياره هذا لن يكفي الحياة في قصر مثل قصر (المليونير) عاصم الاسترليني، ولا أن يكون لديه كل هؤلاء الخدم، حتى من غير سكرة.

فلن يكفيه مليار واحد فقط، لكى يصرف على كل هذا (الجرمأ) من العمالة خدامين وسواق وقصب أفندى وعمال مزارع، مع إضافة فواتير الكهرباء والماء والغاز والزبال!

………………

………………

إقرأ أيضا : ننشر لأول مرة صور مسرح إسماعيل ياسين وسر غضبه!

الأمر لم يكن قاصراً على بدايات الخمسينات، ففي فيلم (مين فينا الحرامي) بطولة عادل إمام، وهو من إنتاح سنة 1984، كان نصف مليون جنيه لم يزل مبلغا مقنعا يصلح مبررا بل ويستحق أن تدار حوله قصة فيلم بحاله.

وكذلك كان مبلغ ثلاثة أرباع مليون دولار في مسلسل (أحلام الفتى الطائر) سواء في نسخته الإذاعية الأقدم تحت عنوان (بلدى المحبوب) من بطولة (توفيق الدقن وعمر الحريري).

أو في النسخة التلفزيونية الشهيرة بطولة (عادل إمام وعمر الحريري)، أيضا اشترك فيه أيضاً الفنان (توفيق الدقن) بدور ثانوى!.

هذه الأمثلة جاءت عفو الخاطر ولكن هناك ما لا حصر له من الأفلام والمسلسلات الإذاعية والتلفزيونية والمسرحيات والسهرات وحتى برامج المسابقات كان للمائة وللألف جنيه وكسورهما شنة ورنة!

تنبه كثيرون من هواة التحسر على (زمن جميز وعاصم) في فيلم (المليونير)

زمن جميز وعاصم (المليونير)

بالذمة لو تم إنتاج مسلسل الآن حول مبلغ مليون دولار يعنى خمسين مليون جنيه مصري، ينفع يقنعك أن يلعب كل هؤلاء الأبطال أدوارهم من أجل هذا المبلغ بالدولار أو بالجنيه بسعر البنك أو سوق سودا؟!

(مسموح لك أن تضحك وتبكى معا!).

………………

………………

أعلم أنى أرهقت نفسى وأرهقتك في الحسابات والمقارنات وأنت تحاول ان تستكشف غرضى من كتابة كل هذا في المقال الماثل أمامكم!

اطمئن ليس لى أغراض بأن أحسرك على ما يسمونه بالزمن الجميل سواء كان جميلاوحقيقة أو بالتوهم او بالمقارنة، ولا أقصد – وحياة دى النعمة – أن أوغر صدرك على عهود ماضية أو حالية.

والمصحف الشريف ما قصدى، لكن هى تداعيات حوار في مشهد لفت انتباهي منذ فترة كما تنبه له كثيرون من هواة التحسر على (زمن جميز وعاصم) في فيلم (المليونير).

فاعلم هداك الله أن جميع الحسابات مهما بلغت دقتها فهى خادعة، وأن جميع المؤشرات لا تزيد عن معلومات عابثة، لكنها تجرى في سلك منتظم يزداد قتامة بعرضه بواسطة الوجوه العابسة!

فنحن نعيش ما بين العبث والعبوس، ما بين تجهم (المليونير) عاصم الاسترليني ومسخرة جميز دولار!

لكن صدقني لو سألتك من هو المعبر الحقيقي عن الشخصية العامة التى تمثل الإنسان المصري ومن هو الطبيعي المعبر عن الشخصية الخاصة بإسماعيل ياسين، هل هو عاصم أم جميز؟

بالطبع (جميز دولار) هو الحقيقي في العام أو في الخاص!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.