رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

وعى المشاهد أسقط شعار (الجمهور عاوز كده) !

بقلم : محمد حبوشة

أثبت الجمهور المصري بتفاعله الجاد والشغوف مع مسلسلات (الاختيار، هجمة مرتدة، القاهرة – كابول) حالة من السقوط المدوي لعبارة (الجمهور عاوز كده) التي أطلقها المنتجون قبل سنوات، في محاولة لتبرير إنتاجهم من بعض أعمالهم الرديئة من نوعية العنف والبلطجة  والعشوائية والجنس والمخدرات والتخاريف والسحر والشعوذة وغيرها من أعمال اجتماعية مكرورة لم تمسها عين المشاهد المصري إلا لماما أو من باب العلم بالسيئ ليس إلا في لوحة دراما رمضان، مثل (ملوك الجدعنة، نسل الأغراب، وكل ما نفترق، لحم غزال، إللي مالوش كبير، حرب أهلية، كله بالحب)، وهى كلها أعمال صرفت عليها مئات الملايين دون جدوى أو هدف أو رسالة.

ولقد عبر كثير من الجمهور على السوشيال ميديا بطريقة ساخرة ردا على سذاجة بعض تلك المسلسلات الغارقة في العنف والبلطجة، حيث جاء على لسان بعض رواد تلك المواقع عبارات استنكار واستهجان لتلك النوعية من المسلسلات التي وصفت بالردئية وانتشرت العديد من الإفيهات الساخرة منها بسرعة بين الناس وأصبحت حديثهم لأيام طويلة في بداية رمضان مع انطلاق الحلقات الأولى، كنوع من الاعتراض تارة، وفي إسقاط واضح تارة أخرى على أفيهات للفنان أحمد العوضي بشخصية (الخديوي) التي يقدمها في مسلسل (اللي مالوش كبير)، وأفيهات أخرى يطلقها الفنان (عمرو سعد) في مسلسل (ملوك الجدعنة)، فضلا عن انتشار (بوستات) تستعرض صورا لـ (محمد رمضان، أحمد السقا، أمير كرارة، عمرو سعد، مصطفى شعبان، أحمد العوضي) وغيرهم من شخصيات ووصمهم بالعار حتى أن البعض وصفهم بشياطين الأنس التي تظهر في رمضان في غياب شياطين الجن التي يتم تقيدها في هذا الشهر الكريم.

من خلال متابعتي للشوسيال ميديا، أدركت أن كثير من روادها يتسمون بحاسة نقد لاذعة تعبر عن متطابات جمهور أصبح يتوق للأعمال الوطنية الهادفة، والتي تحمل رسائل مبطنة تؤكد على الهوية الوطنية، وأيضا الأعمال الاجتماعية التي تحمل في طياتها مضونا هادفا لايسئ للمجتمع المصري، ومن ثم اعتبر كثيرون من رواد مواقع التواصل الاجتماعي أن نوعية مسلسلات العنف زادت في جرعتها هذا العام وهو مايسئ للدراما المصرية التي أصبحت قبلة الأعمال الوطنية في العالم العربي، بعدما خاضت تجارب من هذا النوع قبل 5 سنوات وكثفت الصناعة هذا الموسم في تأكيد واضح وصريح على دور القوى الناعمة في دعم جهود الدولة المصرية.

ولأنه يبدو ظاهرا الآن أن العنف سيكون هو العنوان المحوري للنسبة الأكبر من إنتاجات الدراما التلفزيونية في الفترة القادمة، فبعد سنوات من هيمنة القصص والحكايات العاطفية والرومانسية، ها هى ظاهرة الأعمال الدرامية التي تعتمد موضوع (العنف) تجتاح القنوات والمنصات التلفزيونية العربية، لقد كانت التلفزيونات الرسمية والخاصة تتحفظ على مشاهد العنف، ولكن سرعان ما تغير مزاج المشاهد تأثرا بالنسبة الأكبر من الأعمال السينمائية والتلفزيونية القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وشرق آسيا .. حيث (تيمة) العنف هى الحاضر الأساسي، ويصدر المسلسل معضلة الفن الأعمى، الفن الذي يفتقد للغاية والقدوة ونموذج البطل، وأكثر ما يمكن أن يضرب منطق العمل في مقتل، وما يشابهه من أعمال تسلط الضوء على توظيف البلطجة وتبرير شق طريق الإنسان في المجتمع المصري عبرها.

وهنا أهمس في أذن صناع الدرما المصرية قائلا: لعلمكم : (ثبت عمليا أن الجمهور أوعى منكم ومن نقاد الغفلة الذين يصرون على أن الدراما تعبر عن الواقع) ، مصر ياسادة في حاجة ماسة الآن إلى إعادة تشكيل وجدان جيل بدأ يشعر بتضحيات الجيش والشرطة في سبيل هذا الوطن والتأكيد أيضا على بناء الشخصية القومية بعد كل التشويه الذي تتعرض له من خلال آليات تشكيل البطل المضاد، القائم على العنف والبلطجة والفساد، ربما يكون المجتمع المصري قد حظي بعدة جرائم مروعة وقعت في الفترة الأخيرة، ومن ثم يجب أن تشغل تلك الظاهرة علماء الاجتماع والدراسات الإنسانية، وفي الواقع كانت العديد من تلك الأصوات قد حذرت من شيوع نموذج البلطجي معتاد الإجرام في الدراما التلفزيونية والسينمائية المصرية خلال السنوات الماضية، والتي وصلت لذروتها هذا العام في رمضان بست مسلسلات على الأقل، وأوضحوا أثر ذلك على سيكولوجية العنف الجماعي وشيوعها في المجتمع المصري.

وقد لاحظت من خلال مشاهداتي المكثفة هذه الأيام أن هذه تلك النوعية من الأعمال تعتمد على المنطق الاجتزائي، أو سرقة مقطع محدود من الحياة الاجتماعية الواسعة وتحويله لمحور ومركز للكون في مصر، على عكس الواقع المفعم بالتدافعات وحلم معظم الطبقة الوسطى بالقيم الإنسانية العليا، ولهذا تربط العديد من الدراسات العلمية بين الفن وصورة البطل التي تظهر به، وبين تشكيل وعي وثقافة الإنسان/ المشاهد، فقديما كان الإنسان يكتسب معارفه وثقافته عن طريق الأسرة والعائلة والأصدقاء والجيران والمدرسة بالخبرة والممارسة والاحتكاك، لكن الدراما المصورة والأعمال السينمائية أصبحت من أكثر الآليات الاجتماعية المعاصرة إلحاحا وتكرارا وقدرة على تشكيل الوعي الجماعي، وربما يصف البعض العملية بغسيل المخ الجماعي وتوجيه السلوك المجتمعي.

إن الدراما المصرية مصر ياسادة في حاجة لإعادة تشكيل وتصدير البطل المضاد، القائم على العنف والبلطجة والفساد ومنطق تبرير القبح والجريمة، وبنظرة فاحصة وسريعة نحو المسلسلات المقدمة في موسم رمضان الحالي يظهر لنا تراجعا واضحا للدراما الاجتماعية، وذلك لصالح أعمال وصفها الكثير من النقاد بالهجينة والعصية على التصنيف، فإما أن تكون شبه بوليسية من تلك التي تعج بالعنف والمطاردات والتحقيقات المتمحورة حول جرائم المخدرات والسرقة والفساد والدعارة بنكهة أميركية منتهية الصلاحية، أو أن تكون مسلسلات تغازل الماضي، سواء كان قريبا أو بعيدا، علاوة على أعمال تقدم نفسها ككوميديا فانتازية أحيانا أو (عائلية) أحيانا أخرى، فلا نكاد نعثر على ما يضحك فيها سوى الأداء المتواضع والفكرة الباهتة.

وفي النهاية : ألفت نظر المنتجين إلى النظر بعين الاعتبار إلى مواقع التواصل حيث  الجمهور يحاكم دراما العنف في هذه الأيام يوميا على الهواء مباشرة بشكل واضح وصريح ، خاصة بعدما اتضح تأثيرها السلبي والسيئ على فئات المجتمع كافة؟، وذلك وسط تساؤل كثير من الناس عن المسؤول عن انتشار مثل هذه الأعمال: المنتج الباحث عن الربح، أم المخرج الباحث عن الإثارة، أم الفنان الباحث عن الشهرة والانتشار؟ .. تساؤلات يمكن أن يجد لها المنتجون إجابة وافية بعد أن تم وضع الجميع في قفص الاتهام، دون استثناء..! وذلك بعد أن  رفع الجمهور شعار (لا للتخويف، لا التنفيس بطريقة شريرة أو قبيحة، لا للتحريض على العنف والكراهية) وكلها ظواهر سلبية تعلى من شأن البطل البلطجي الغارف في براثن العنف والتردي والر زيلة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.