رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

إبراهيم رضوان يكتب: حلمي شرشر (4)

بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان

كعادتي لا أنام ليلا.. انتهيت من جولتي الليليه التي أقابل خلالها مئات المعتقلين.. الإخوان المسلمين.. المكفراتية.. الشيوعيين وكل أطياف معتقل طرة السياسي ومنهم بالطبع (حلمي شرشر).

في الفجرأتابع  سيارات السجن الصندوقية  تعج بمئات السجناء تأتى من سجن مزرعة طرة لتنظيف المعتقل ثم العودة بهم إلي المزرعة بعد انتهاء مهمتهم..توطدت العلاقه بينى وبين بعضهم ومنهم السجين المعروف (ب.الونش).

صليت الفجر مع الإخوان.. عدت إلى عنبر النشاط المعادي الذي وضعوني على قوته بعد أن رفضت أن أكون علي قوة الشيوعيين.

أثناء مروري كان الأستاذ (صلاح عيسي) يجلس علي الأرض وأمامه منضدة صغيرة ومجموعه من الأوراق أمامه.. وبجوارها طبق رص عليه بعض السجائر المقسومة علي اثنين أو أكثر وعلبة كبريت.

كنت قد عرفت منه  أنه يكتب سيرة الثورة العربية.. جلست معه كعادتي لبعض الوقت و كان يعاني من ضعفا في نظره.. تركته يكمل الكتابة.

كان عنبر الشيوعيين خارج حدود عنابرنا.. قبل السادسة.. وقبل أن تنطلق الصفارات كنا نعود إلي عنابرنا..يدخل (صلاح عيسي) معنا حيث تغلق الأبواب الحديدية علينا باستثناء عنبر الشيوعيين الموجود في الفناء.

والزنازين الفردية التي يسكن فيها الشاعر (محمود الماحي)، و(محمود نصر) شقيق (صلاح نصر)، و(فاروق) ابن الرئيس السابق (محمد نجيب) الذى سجن معنا لمدة ستة اشهر فقط خرج بعدها محطما مريضا بالقلب ليتوفى بعد خروجه بفترة قصيرة.

كان مصيره لايختلف كثرا عن مصير أخويه (يوسف وعلى).. فعلى كان معروفا بكرهه لليهود، وفي المانيا تم مطاردته بسيارة هبط منها رجال ثلاثة قاموا بضربه حتى الموت، وتم إعادته ليدفن في مصر.

وقد طلب (محمد نجيب) الخروج من منفاه ليشارك دفن ابنه عام 1968، ولكن تم رفض طلبه، أما (يوسف) الذى كان يعمل موظفا بإحدى شركات القطاع العام فقد تم فصله ليعمل سائقا على تاكسى حتى وفاته .

صلاح عيسى

أقرب لجلسات العصاري

تركت (صلاح عيسى) بعد أن عاتبني للمرة الألف لأنني لم أنضم لعنبر الشيوعيين.. وحرمت نفسي من الندوات الثقافية التي يقيمها كل ليلة تقريبا.

كانت هذه الندوة أقرب لجلسات العصاري تسمى (ندوة البطانية)، حيث أن جميع الحضور يجلسون على بطانية تم فرشها على الأرض، بينما شخص واحد فقط من حقه الجلوس على كرسى ليعلو الرؤوس، وهو الشخص المحاضر لندوة اليوم.. حيث يتم طرح سؤال في الفن أو الأدب، وكثيرا ما تتحول إلى ندوة شعرية.

أخبروني أن سيد حجاب كان معهم منذ فترة قصيرة.. وأن (الأبنودي) كان معهم أيضا لكنهم كرهوه وشكوا فيه عندما شاهدوه تليفزيونيا في ندوة سياسية، وهو يجلس بجوار (شعراوي جمعة) الذي أشعل للأبنودي سيجارته.

عدت إلى عنبر النشاط المعادي.. التفت إلى مرتبة (حلمى شرشر) لأطمئن على نومه فوجدته جالسا مؤرقا..

– مالك يا (حلمي شرشر)؟

– مش جايلي نوم

– ليه ؟

– مش عارف!

 رغم حاجتى الشديدة  للنوم.. لاحظت أن (حلمي شرشر) يريد أن يتكلم معي.. أحب كلامه جدا فهو إنسان مثقف.. أخبرني أن مكتبته في الأسكندريه بها مئات الكتب.. جلست معه.. تلفت في حذر.. التفت لى هامسا :

  • نتكلم بره أحسن .

خرجت مع (حلمي شرشر) نسير بموازاة سور المعتقل.. تبادلت مع عساكر الحراسة  المسلحة المتناثرة  فوق السور التحية.

  • خير يا (حلمي شرشر)؟

أخذ نفسا عميقا: أنا مش عارف أنا في المكان المهبب ده ليه؟

  • ما انت حكيتلي على الفلاح اللي قابلك في التورماي وخدك على القسم واتهمك بشتيمة الحكومة.

فكر (حلمي شرشر) قليلا: أنت فاهم غلط.. الموضوع مش كده نهائي

  • أومال ايه الحقيقة؟
عبد الناصر

الكوكب على وشك الانفجار

فكر (حلمي شرشر) أيضا بعض الوقت ثم قال لي بروية وصوت خفيض: هقول لك.. أصل أنا و(جمال عبد الناصر) كنا على كوكب واحد.. فوق.. في السما دى.. كنا بنقسم اللقمه مع بعض.. بيننا عشرة عمر طويلة.

الكوكب فجاة بقى على وشك الانفجار.. كان معايا أكتر من براشوت.. اديت  واحد لعبد الناصر.. نطينا من الكوكب قبل ما ينفجر بدقيقه.

تخيل دقيقة واحدة وماكانش هيكون فيه (عبد الناصر) لولا البراشوت بتاعى.. تخيل انى ساعتها فضلت (جمال) على نفسى!

– ازاى ؟

– اديته البراشوت اللى الحبل بتاعه سليم ويعرف يوجهه، وأنا خدت البراشوت البايظ.. هو هبط على سطح عمارة فوقها تلاجات وتليفزيونات.. عمارة نضيفة.. وأنا هبطت علي سطح عمارة تانية كلها كنب خشب مكسر و أقفاص قديمة..

– آه.. وبعدين؟

– الناس أصحاب العمارة اللي نزل (عبد الناصر) على سطحها اتبنوه.. كانوا ناس أغنياء.. أغنيا قوى يعنى.. فخلوه يكمل تعليمه ودخلوه الكلية الحربية لحد ما اتخرج وبقي ضابط.

– اممم .. وانت؟

– للأسف.. الناس اللي أنا نزلت علي سطحهم كانوا فقرا.. ودوني المعلمين وبقيت مدرس.. بس اللى مجننى دلوقت، وحازز في نفسى ازاي (عبد الناصر) يعمل فيا كده واحنا عشرة عمر؟

انفجر (حلمي شرشر) يبكي و هو يعاتب (عبد الناصر) لأنه فعل فيه ذلك، رغم صداقتهم. و يشهدنى على غدر الأصدقاء وظلم الناس بعضهم بعضا.. حاولت تهدئته.

اتجهت به إلي الشيخ (حسن الهضيبي) مرشد الإخوان المسلمين.. والحاج (صالح أبو رقيق) العضو البارز في الجماعة.. أعاد عليهم (حلمي شرشر) قصة غدر صديقه عبد الناصر به مرة أخرى.

أخبرني الشيخ (الهضيبي) أنه قد يكون مشوشا من قلة النوم.. نصحني بأخذه إلي الدكتور في مستشفى المعتقل  ليعطيه حقنه مهدئة.. نام بعدها بالفعل نوما عميقا وذهبت أنا إلي صومعتي كى أنام بعد أن كنت أسمع شخيره عاليا جدا.

استيقظت في الصباح الباكر جدا.. اكتشفت أنني لم أنم جيدا.. لأنني كنت قد  تعودت على قضاء الليل متجولا بين العنابر.. هربا من الحشرات التي تسيطر علي المكان.. لذلك كنت أفضل النوم المتقطع  فترة النهار.

عنبري الشيوعيين والإخوان

عنبر النشاط المعادي

وضعت الفوطه على كتفي.. والصابونة في يدي متجها إلى الحمام الذى يبعد نصف كيلو متر.. مشيت بين معتقلين العنبر الموجود به، وهو عنبر النشاط المعادي الذي لا تجد فيه مثقفا واحدا، أو أي شخص يفهم في السياسة.

كان النشاط المعادى عنوانا عاما لتهمة قوية اللصق.. كل من في العنبر يعوم في عالم آخر.. يصدرون أصواتا عالية ومزعجة وهم نائمون.. كنت ما زلت متأثرا للغاية بحالة (حلمي شرشر) و قصته مع عبد الناصر.

بعد عودتى من دش بارد رجعت إلى العنبر لأرتدي بيجامه كاستور.. حتى أخرج من الجوالنفسى البغيض الذى تفرضه على بدلة المعتقلين الصفراء.

هممت بالخروج من العنبر.. التفت إلى البرش الذي عليه مرتبة (حلمي شرشر) فلم أجده.. لاحظت القفص الخاص به مقلوبا.. المرتبه ممزقة.. المكان تسيطر عليه الفوضي رغم أن (حلمي شرشر) من خلال تعاملي البسيط معه إنسان مرتب للغاية.

أيقظت المعتقل الذي ينام على يساره.. فأخبرني أنه لا يعرف عنه شيئا.. في قلق  ظللت أتجول في أنحاء المعتقل بحثا عن (حلمي شرشر).. تعبت قدماي من السير.. جلست على كرسي قديم ملقي في فناء المعتقل.. أين ذهب؟.. هل هرب؟.

كان المعتقل الفلسطيني (أبو حصيرة) و زميله وبلدياته (عصفور) قد لحقا بي.. أخبراني أنهما كالعادة انتظراني على الإفطار.. وعندما تأخرت خرجا للبحث عني.. أخبرتهما أنني سأحضر لهما بعد دقائق.

سألتهما قبل أن ينصرفا عن (حلمي شرشر).. أجابا  أنهما لا يعلمان عنه أي شئ.. بعد انصرافهما.. التفت يمينا.. لمحت شخصا يشبه هيئة (حلمي شرشر) يمشي في الشمس.

يحمل في يده كتابا.. يقرأ فيه للحظات.. ثم يضعه خلف ظهره لحظات أخرى.. قمت سريعا إليه.. كان هذا الشخص يحمل ملامح (حلمي شرشر) لكنه ليس (حلمي شرشر).. كان مرتعشا.. عروق وجهه تكاد تنفجر.. عيناه  غائرتان.. وجهه في لون حبة الطماطم .

  • (حلمي شرشر).. انت فين من الصبح؟

لم يلتفت.. و لم يرد!

  • (حلمي شرشر): مالك؟
شرشر نط.. أكل البط

شرشر نط.. أكل البط

مشيت بجانبه.. لم يعر وجودى اهتماما.. كانت  أشعة الشمس حارقه.. راقبته.. كان يقرأ في الكتاب صامتا ثم يسمع لنفسه ما قرأ مرددا: (شرشر نط.. أكل البط).

يعاود القراءة صامتا.. ثم يسمع لنفسه بعد أن يأخذ الكتاب ثانية خلف ظهره!: (فلفل قال.. عال عال).

 ظل (حلمي شرشر) يردد هذه الجملة بحرص وكأنه في الدقائق قبل الأخيرة لدخوله امتحانا.. استمر على ترديده لها طوال الساعات التي سرت معه فيها.. نظرت الى الكتاب الذي يحمله.. كان كتاب المرحلة الأولى من المدارس الابتدائية.

أصابتني حالة من الذهول.. (حلمي شرشر) خريج معلمين.. و قد حصل على جائزة المدرس المثالى منذ أيام قليلة قبل وصوله إلى هنا.. أدركت المصيبة.

وضعت يدي على ظهر (حلمي شرشر) في حنان.. طبطبت عليه..انتفض (حلمي شرشر) فجأة ضاربا  يدي بقوه.. دفعني بقسوة أطاحت بى أرضا.. انطلق يجرى في أنحاء المعتقل يردد بصوت عال مؤكدا: (شرشر نط ..أكل البط.. فلفل قال..عال عال.. شرشر نط.. اكل البط.. فلفل قال.. عال العال.

حمزة البسيوني

حمزة البسيونى

فى المعتقل.. ضربنى ..

وسب دين أبويا

من دم الروح حلبنى..

وسحبنى من قفايه

…………………………

(فطوطة) ازاى هايشبع ..

دا كل يوم بيضرب

مليون سلام مربع..

للخنزير المربرب

…………………………

ع المُهرة البيضه داخل..

ما بين الزنزانات

فى ضلوع (إخوانى) ناخل..

وأمرنا بالسكات

…………………………

(الخرتيت) اللى نايم.

ع الكرسى.. مش نضيف

بينجس النسايم..

وبيدبح الشريف

…………………………

يا عم حمزة يا اللى..

(ناصر) جابك عشاني

لو يوم حاولت أصلى..

فى شرعك أبقى جاني

…………………………

 عقلة صباع.. دنئ ..

دايس على كل شئ

ياكُل فخاد عذارى..

ويكون للكون مسئ

…………………………

بالبدلة العسكرية..

والكرباج المصدِّى

دايما تفخت عنيّه..

وتدوس بالجزمة فرضي

…………………………

جابك منين صاحبنا..

وقدرت ازاى تكون

حيوان دنئ.. ضاربنا..

ومخلى الكون سكون

…………………………

الخنزير اليهودى..

وقع بشكل عادى

مش دارى بشئ.. وحاول..

يلغى أصلا وجودي

…………………………

ياعم حمزة لازم..

تسيب كل الحياة

بتقول أنا برضه لازم..

هاخَوِّف الإله

…………………………

(حمزه البسيونى) سافل..

وكافر بالإله

فضحنا فى (المحافل)..

ونجس الحياة

…………………………

يا أغبى شيئ صادفنا..

يا أسفل العباد

صوتك فى الليل قِرفنا..

وأخَّر الميلاد

…………………………

مرفوض من رب باقي..

مرفود من كل نور

زارع خطوات طريقي..

بالكدب وتهمه زور

…………………………

إزاى تِسِب ديني..

يا فاقد الديانة

الله بينك وبينى..

يا (أسانس) للخيانة

…………………………

عامل إله علينا..

وبتطعن فى الشريف

عمرك ما كنت فينا..

إلا حيوان مخيف!

من كتاب (مدد.. مدد)

سيرة ذاتية لبلد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.