المنصات الرقمية تقلب موازين الإنتاج والمشاهدة
بقلم: محمود حسونة
دخول المنصات الرقمية على خط عرض الأعمال الدرامية والسينمائية والبرامج التليفزيونية، لا بد أن يترك بصمته على صناعة الفن والإعلام، وأن يغير من ملامح هذه الصناعة التي تبرمجت خلال السنوات الماضية حسب إرادة رؤساء القنوات التليفزيونية ورغبات المنتجين؛ ورغم أن المسؤولين عن المنصات الرقمية هم أنفسهم مسؤولي الشبكات التليفزيونية، إلا أن الوسيط الجديد فرض قواعد مختلفة للعبة الإنتاج والعرض.
المنصات الرقمية وسيط جديد، ولو أنه يسير على نهج المحطات التليفزيونية فلن يكون له تأثير في خريطة تزداد فيها المنافسة شراسة بين الوسائط التقليدية، ممثلة في المحطات التليفزيونية، وبين الوسائط الإلكترونية، ناهيك عن التنافس بين المنصات وبعضها سواء عربية أو أجنببية.
الوسيط الجديد يعتمد في تمويله على اشتراكات الراغبين ويتيح للمشاهد متابعة ما شاء وقتما شاء، من دون التطفل الإعلاني الذي كان يصل إلى حد الإزعاج قبل أن ينصرف معلنون كثر عن التليفزيون وتخصيصهم قدراً لا يستهان به من ميزانياتهم لمواقع التواصل الاجتماعي وكل ما هو إليكتروني، أما الوسيط التقليدي فهو يعتمد تمويلاً على الإعلانات، ويفرض على المشاهد وقت وأسلوب المشاهدة، ولا يمنحه مساحة الحرية المكفولة له من المنصات الرقمية.
لعله ليس خافياً على أحد أن المنصات الرقمية تسحب البساط تدريجياً من تحت أقدام القنوات التي قد يكون وجودها المستقبلي مهدداً، شأنها شأن الصحف التقليدية التي تعاني انصراف قطاع عريض من القراء عنها والاعتماد على أجهزتهم الإلكترونية كبديل لتلقي الأخبار لحظة بلحظة وقراءة مقالات وتحليلات الكبار حول العالم في أي وقت.
في ظل كل ذلك، تخلت المنصات الرقمية عن فرض عدد حلقات معينة للمسلسلات، والخروج من إطار الـ 30 حلقة، سواء كانت قماشة العمل تحتمل ذلك أم لا، وأصبح الأهم عند هذه المنصات هو أن تعرض أعمالاً تخلو من المط والتطويل التي استهلكت أوقات المشاهدين فيما لا ينفع ولا يسلي ولا يثير سوى الملل والإزعاج.
احترام وقت المشاهد، سياسة تتبعها المنصات لإدراكها أنها إن لم تفعل ذلك، سوف ينصرف عنها الناس وتقتل التجربة في مهدها، لذا لم تفرض المنصات عدد حلقات معين فيما تعرضه، بل تركت الأمر مفتوحاً، وكلما كان المسلسل قصيراً كان الأمر أفضل، والمهم هو الموضوع وسرعة الإيقاع ونقاء الصورة وزوايا التصوير وأداء الأبطال، وهو ما لمسه مشاهدو المنصات في الأعمال التي تنتج خصيصاً لهم أو في الأعمال التي يحصلون على حق العرض الأول لها.
لمسنا ذاك في الأعمال التي تعرضها (نتفليكس) مثلاً، والتي يمكن أن نطلق عليها سيدة المنصات الرقمية عالمياً، حيث أنها الأولى التي لديها مشتركين من مختلف دول العالم وتعرض ما يعبر عن ثقافات مختلفة ويهوى القائمون عليها اختراق المحظور وإثارة الجدل، مثلما حدث بعد إنتاجها أكثر من عمل عن المسيح، ومسلسل “جن” الأردني الملئ بالألفاظ الخارجة والمتجاوزة والذي يدور حول شعوذات الجن وعلاقته مع المراهقين ومساحات الحرية الممنوحة للشباب والفتيات والذي وقع في 5 حلقات فقط، وقد أثار الكثير من الجدل حول نوايا هذه المنصة الخبيثة والساعية لرفع سقف الحرية الاجتماعية والسياسية ولو على حساب القيم والموروث.
نفس المنصة عرضت خلال الفترة الماضية المسلسل الإماراتي (المنصة)، والذي وقعت أحداثه في 12 حلقة ليثير جدلاً حول الإرهاب الإلكتروني واستهداف المعلومات حول العالم، وتستعد لعرض مسلسل مصري تحت اسم (ما وراء الطبيعة) مأخوذًا عن كتابات الراحل أحمد خالد توفيق خلال الخريف الحالي ومتوقع أن يأتي مختلفاً شكلاً ومضموناً عما اعتدناه في مسلسلاتنا.
هذا لا يعني أن (نتفليكس) لا تعرض أعمالاً طويلة، فهي تعرض أعمالاً مملة ليست من إنتاجها، أما شروطها فلا تنطبق إلا على ما تنتجه خصيصاً للعرض على مشتركيها، وأحياناً ما تبث من خلاله سماً في العسل.
نهج منصة (شاهد) التي أصدرتها شبكة أم بي سي، لا يختلف كثيرا عن نهج (نتفليكس)، حيث عرضت خلال الفترة الماضية مسلسل (كل أسبوع يوم جمعة) في 12 حلقة، والمهم أن أحداثه جاءت مكثفة عن رواية بنفس الاسم للأديب (إبراهيم عبد المجيد) وبطولة (منة شلبي وآسر ياسين)، ومسلسل (الآنسة فرح) المأخوذ عن مسلسل أجنبي وجاء في 22 حلقة، ولعبت بطولته (أسماء أبو اليزيد ورانيا يوسف)، ولكنه لم يخل من وباء المط الذي أصاب معظم الأعمال العربية خلال السنوات الماضية، أما مسلسل (أمينة خليل وهالة صدقي وشيرين رضا ومحمد الشرنوبي) الذي يحمل عنوان (ليه لا) فقد جاءت أحداثه في 15 حلقة واعتبره البعض دعوة للفتاة المصرية للتمرد على قيم الأسرة والاستقلال بحياتها بعيداً عن القيود التي يفرضها الوالدين.
منصة “ووتش إت” المصرية تحاول أن يكون لها مكان في العالم الجديد ولذا فإنها تلهث في أن يكون لها إنتاج خاص وآخر عمل انفردت بعرضه كان “شديد الخطورة” لأحمد العوضي، ومسلسل (إلا أنا) عبر مجموعة من الحكايات التي تنتهي في عشر حلقات فقط، فضلا عن (حكايات بنات) في جزئه الخامس.
المنصات الرقمية الجديدة ستقلب موازين لعبة الانتاج والعرض الدرامي وأيضا السينمائي، وسيكون لها برامجها الخاصة في المستقبل القريب، وستحدث انقلاباً في الشكل والمضمون ونتمنى أن لا يقضي ذلك على البقية الباقية من قيمنا وموروثنا وأن تكون وراءها أصابع خبيثة تحمل رسائل سياسية واجتماعية هدفها الانقلاب على كل الثوابت وخلط الحابل بالنابل والمساهمة في خلق ما أسموه (الفوضى الخلاقة).