رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد حبوشة يكتب : إعلانات الصراخ .. آفة عصرنا !

بقلم : محمد حبوشة

أدرك (سقراط) بعبارته الجامعة المانعة: (إن ثمة أناسا يخلعون القيمة بفكرهم وعملهم على ما يشغلونه من أماكن ووظائف ومناصب، وعلى ما يتدثرون به من ثياب أو ما يمتلكونه من متاع، وأن ثمة أناسا يستمدون كل قيمتهم من الأماكن والوظائف والمناصب التي يشغلونها، ويعمدون إلى تحقيق ذواتهم بدثار زائف أطول من قاماتهم، أو بصراخٍ ممقوت تطلقه حناجرهم)، هؤلاء هم آفة مجتمعاتنا العربية الآن على جناح إعلانات صاخبة تحاول لفت نظر المشاهد بتلك الطريقة المزعجة كما شاهد ذلك مؤخرا من خلال عدة إعلانات انتهجت الصراخ وسيلة يظنون أنهم يجذبون الناس إلى منتجات غذائية ومنها على سبيل المثال (إعلان هوهوز) الذي سبب لي وللكثيرين غيري إزعاجا كبيرا يصل إلى حد التنفير.

عند مشاهدة التلفزيون، أو متابعة الأفلام في دور السينما، أو عند تصفح الإنترنت، أو قراءة الصحيفة، لابد أن يظهر إعلان ما يسرق المشاهد من انسجامه لفترة تطول أو تقصر، وهذا لا يقتصر على أناس معينين، في بلد ما من العالم، بل هو تقليد شائع، حتى أنه من الممكن القول إن هذا العصر هو عصر الإعلان بامتياز، ويكاد لا يظهر منتج، إلا ويرافقه إعلان يروج له بين الناس، وذلك بعد نضوج الأفكار الإعلانية، التي لا تظهر بسهولة، كما يراها البعض، بل تحتاج إلى دراسات تسويقية مرورا بكتاب النص، والمخرجين الفنيين.

إنهم لايدروكون حكمة سقراط عن الصوت الخفيض

مهما اختلفت الوسائل الإعلانية، يبقى الهدف منها الوصول والتأثير العميق على نفسية المستهلك، لترسيخ وربط اسم السلعة أو الخدمة في ذاكرته، وهو ما دفع بعض المسؤولين في المجال، ليلخص الهدف من الإعلان قائلا: (إن الإعلان ليس علما، إنه إقناع، والإقناع فن)، ومما لاشك فيه أن الإعلان يعتبر (الدعاية أو الإشهار)، وهو أحد الأنشطة الإعلامية التي لا غنى عنها للأنشطة الاقتصادية من صناعة وتجارة وخدمات وغيرها من الأنشطة الاقتصادية، وكذلك بالنسبة للمؤسسات والمنظمات الخيرية وغير الربحية، والتي بدون الإعلان عن مجهوداتها، لن تحصل على الدعم المجتمعي والتمويل المادي اللازم لاستمرارها في عملها وأدائها لرسالتها.

والإعلان فن يتطور تطورا ذاتيا، بالتطور التقني الذي يصل إليه العالم، فمع التقدم الكبير الذي أحدثته الحواسيب في عالمنا، انعكس ذلك بدوره على عالم الدعاية والإعلان، فأصبح تصميم الإعلانات وإخراجها، يحفل بالتطور والجاذبية، وليست صناعة الإعلانات من الفنون المستحدثة، وإنما هى قديمة قدم التاريخ، فقد بدأ الإعلان وفق نماذج أشكال تطورت بمرور القرون، حتى أصبح فن الإعلان كما هو الآن، وقد تكثف الإعلانات بدلا من التقدم بشكل متفرق، وذلك تحت مسمى الحملات الإعلانية، لكن لاينبغي أن تصل إلى هذا المستوى من التلوث البصري والسمعي الذي يفسد الهدف من الإعلان.

وتهدف الإعلانات إلى التعريف بالمنتجات والخدمات الجديدة أو القائمة بالفعل، وحث المتلقي على التجربة والحفاظ على ولاء المستهلك للمنتج أو السلعة، والحفاظ على مكانة المنتجات حتى لا يأخذ مكانتها المنافسون، والحفاظ على العملاء الحاليين، وكسب عملاء جدد، والتعريف العميق بالمنتج وتوضيح كيفية الاستفادة القصوى منه، وتعزيز صورة الشركات والمؤسسات في أذهان المجتمع، ولكن تبقى زيادة المبيعات، الهدف النهائي غير النبيل، ورأي أن أساليب الصراخ والضجيج الموسيقي المصاحب للإعلان لايساهم في الترويج لغسالات من نوع معين أو نوع جديد من البسكويت كما نشاهد يوميا على قنواتنا التي تحظى بقدر هائل من إعلانات التلوث التي تسي للمنتج أو مما تروج له، وبالتالي ينفر المشاهد ويقرر المقاطعة.

الصراخ والعويل .. أسلوب يفضى للإزعاج

أمقت الصوت المرتفع ، لكن من المؤسف أننا محاطون بأشخاص لا يملكون أية موهبة إلا الصراخ، غير مبالين بما قد يعكسه صراخهم من ضعف للحجة، أو تأثير منفر لدى المتلقي!، وحين قال (سقراط) لتلميذه الصامت المزهو بنفسه: (يا هذا: تكلم حتى أراك)، كان يعي جيدا أن قيمة المرء وشخصيته في فكره، لا في ضخامة صوته أو في هيبة مظهره أو فيما يحوزه من متاعٍ زائف، لم يقل له: (يا هذا أرني قوة حنجرتك، أو أرني مقدار أموالك أو متاع بيتك وعملك كي أعرفك)، بل قال له: تكلم حتى أراك، حتى أعرف حقيقة ذاتك: أخاوية هى أم عامرة؟!، ولا غرو، فالذوات صناديق مغلقة، مفاتيحها الكلام، وبالكلام المنطقي الهادئ (منطوقا ومكتوبا) نستطيع أن ندرك حجم المرء وقيمته ومقدار علمه ورقي أو تفاهة فكره، وكذلك الأمر ينطبق على جودة السلعة من عدمه.

قد يدركون وقد يدرك الناس، وقد لا يدركون ولا يدرك الناس، أن صناع إعلان (هوهوز) مسطحون، منبطحون، جاهلون، أفاقون، فارغون، وتافهون، لكنهم على مايبدو إذا ما خلوا إلى أنفسهم الأمارة بالوهم خيل إليهم من تضخمها الكاذب أنهم أشباه عباقرة!، وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم، كأنهم خشب مسندة، يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو فاحذرهم!، نعم إحذرهم لأنه يصنعون ضجيجا يؤذي العين والأذن، فحتما لايعون أن الصوت وسيلة راقية للوصول إلى قلب من تحب، وإلى من تخاطب، وإلى شخص ما في الطرف الآخر! الصوت بدرجاته، حدته ورقته وانخفاضه وارتفاعه المقبول غير المنفر.

شعور يدمي القلب عندما يشعر الإنسان بأنه وصل إلى مرحلة من الإنحطاط الفكري، فالفكر لا يمكن له أن يتخلص من آفة الإنحطاط طالما مازلنا نتحدث عن بديهيات من المفترض أنها قضى عليها الدهر، مشكلتنا اليوم أننا أصبحنا كثيري الكلام، وقليلي الفعل، ولعل تلك المشكلة هى التي تجعل من فكرنا يعيش مرحلة الانحطاط الفكري، نحن لا نعمل بقدر ما نتحدث، وعلى الرغم من أننا نمتلك عقولا ناضجة نيرة ذات بصر وبصيرة، تستطيع مخاطبة الناس بفهم وصناعة الجمال والبهجة في إعلاناتنا، لكن لا يعتمد على تلك العقول بل يتم الاعتماد على العقول المغلقة، وتلك العقول المغلقة هي التي جعلت منا اليوم شعبا كثير الكلام قوامه الخواء المعرفي.

اليوم مجالسنا ومقاهينا وكل مكان يجتمع فيه الناس يكون الصراخ والعويل فيه هو السمة البارزة في تلك التجمعات، ولعل هذا هو انعكاس طبيعي لما يحدث من فوضى عارمة، في الدول المتقدمة والمتطورة والتي دائما ما تبحث عن الازدهار تكون مثل تلك التجمعات مكانا لتبادل الأفكار والثقافات، أما عندما ومع كل أسف تكون تلك التجمعات من أجل التفريغ عما يختلج النفس وما يدور في عقول البشر الباطنية، وعادة ما تكون تلك التجمعات ليس منها فائدة ولا عائدة لأن الكل من الحاضرين يتحدث وهو مشحون وتوجد بداخله مجموعة من البراكين الهائجة التي تظهر على الشاشة في صورة إعلان صارخ على جناح الضجيج.

إنه ترويج مقزز يضر برسالة الإعلان

ربما ينظر البعض إلى كلامي هذا بأنه نوع من التزيد وخاصة أنه يتعلق بالإعلانات التي يفترض أنها تحمل في مضونها نوعا من الترويح عن النفس وزيادة الطلب على المنتجات التي يعلنون، وهو ربما يعبر عن معاناة صناع الإعلانات الحالية من الضغط النفسي، ومن ثم أحيلهم إلى علماء النفس الذين أشاروا بأن لا يمكن أن يعالج الإنسان أي مشكلة وهو تحت ضغط نفسي، انظروا إلى رياضتنا كما انظروا لكيفية الحلول التي نسمعها كل يوم، حينها ستجدون بأننا بالفعل نعيش في زمن الانحطاط الفكري، فقد تعودنا دائما بأن الحل الذي كنا نتحدث عنه قبل عشرات السنين نتحدث عنه اليوم، وهذا الأمر يدل على مدى تخلفنا الشديد والذي لا يمكن أن يصل بنا الى ما نصبو اليه.

دعونا نرتقي في تفكيرنا وفي أطروحاتنا وفي ثقافتنا، وفنوننا المرئية،  دعونا نعمل على هدف مشترك ولو لمرة واحدة، دعونا نعمل للصالح العام ولعامة الناس، دعونا نرى مصر أمامنا في كل خطوة نخطوها، دعونا نكون مثل غيرنا الذين بالعزم والاصرار استطاعوا تغيير الكثير من المفاهيم، مما جعلهم اليوم يسعدون بما وصلوا اليه، لانريد أن نكون من الشعوب كثيري الكلام، والضجيج والصراخ الذي لايجدي، بل نريد أن نكون من الشعوب التي تعمل وتفعل وتحقق وتكسب، والوطن يستحق منا فعل كل ما ذكرت في فترة ازدهاره الكبرى الحالية في كل مجالات الحياة.. لنتوقف عن الصراخ في إعلاناتنا التي تفصل بين برنامج وآخر أو بين مشاهد درامية تحرض على العنف والانفلات الأخلاقي فتزيد الطين بله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.