رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

“زيزي”.. تفتح الجراح وتكشف خبايا النفوس

بقلم : محمود حسونة

نحن لا نعرف أنفسنا، لا نستوعب ما الذي ورثناه عن أهلنا وأهل أهلنا، لا ندرك ما الذي تركته الأيام فينا، لا نعي أسباب الكثير من سلوكياتنا التي يستهجنها المحيطون بنا بل ونستهجنها نحن أحياناً، لا ندري حدود وطبيعة ما تركه فينا الأهل والأقربون والجيران ومن التقيناهم في الفصول الدراسية أو المدرجات الجامعية أو النوادي الرياضية أو الشوارع ووسائل المواصلات، لا نعرف شيئاً… باختصار نحن غرباء عن أنفسنا وغرباء عن أقرب الناس إلينا ومن الطبيعي أن نكون غرباء عن المحيطين بِنَا.

تصرفاتنا عندما تكون عدوانية أو غريبة، نفسرها بشكل غير علمي، ويفسرها الآخرون كل على هواه وحسب طبيعة العلاقة التي تربطنا به، ودائماً عدوانيتنا وخيباتنا ومحطات فشلنا نتبرأ منها ونلقي بالمسؤولية على أهلنا أو المحيطين بِنَا، وهم يردونها إلينا غير نادمين، لا يفهموننا ولا نفهمهم، وبعد الكبر نتبادل الأدوار مع أولادنا، وتكاد ممارساتنا عليهم تتطابق مع ممارسات أهلنا علينا، وهكذا ندور في حلقة مفرغة حتى الممات، والسبب هو جهلنا بأنفسنا وعدم رغبتنا في اتخاذ العلم نهجاً لمعالجة أوجاعنا وأمراضنا واحباطاتنا وخيباتنا، وإصرارنا على ألا نبحث ونتقصى ونسأل الذين يعلمون.

مسلسل (خلي بالك من زيزي) كشف المستخبي داخلنا، وعرى نفسياتنا أمام أنفسنا، وبرهن لنا أننا ضحايا بعضنا البعض، نربي أبناءنا بطرق خاطئة، ونجدهم أمامنا يعانون نفسياً وعصبياً من دون أن يحرك ذلك لدينا ساكن، يصرخون ويتوترون ويغضبون ويثورون دون أن يلفت ذلك نظرنا أنهم ربما يعانون من مرض نفسي أو عصبي، ونستمرئ الصمت الرهيب والرضا بالأمر الواقع ولا يتجاوز دورنا الدعاء لهم بالصلاح والهدوء والسكينة.

“زيزي” أول مسلسل يناقش قضية يعاني منها الكثيرين من الشباب والأطفال والكبار وهي مرض ADHD أو فرط الحركة وتشتت الانتباه، ولا أعتقد أنه لم يلاحظ أحدنا في بيته أو بيت أصدقائه أو أحد أفراد عائلته طفلاً كثير الحركة، كثير التنطيط، كثير التسلق والعربشة، عنيف برد الفعل أحياناً، ولا يتجاوز التعامل مع الأمر حدود وصفه بشقاوة الأطفال، ليكبر الصغير وهو يعاني من فرط الحركة وتشتت الانتباه، ووحده يدفع الثمن دراسياً أو وظيفياً أو فشلاً سواءً في علاقة حب أو صداقة أو زواج، والمسؤول الأول عن كل ذلك هو “الجهل” أي الأهل الذين استهانوا بطفولة أولادهم ولم يتعاملوا مع أي ظواهر غريبة بشكل علمي.

“خلي بالك من زيزي” ظاهره أنه يناقش مشاكل زوجية وخلافات وصراعات وتجاوزات في مؤسسة الأسرة، ولكن باطنه وجوهره أنه صاحب السبق في دخول عالم مرضى فرط الحركة وتشتت الانتباه وأن العلاقات الزوجية ليست سوى الإطار الضروري لكي تتم مناقشة هذه القضية الحيوية، وهى قضية ظلت غائبة عن الإبداع الدرامي ومهمشة إعلامياً ومجهلة شعبياً حتى جاء هذا المسلسل ليعرفنا بها ويوقظ الوعي على ضرورة الانتباه لحركة وسلوكيات أبنائنا لاكتشاف ما بداخلهم من أمراض نفسية، والاسراع إلى معالجتها في مهدها وقبل أن تلقي بظلال قاتمة على حياتهم.

المسلسل أشرفت على كتابته مريم نعوم، وفكرة منى الشيمي وسيناريو وحوار منى الشيمي ومجدي أمين، ليأتي إلينا محبوكاً ومعلماً لما نجهله وكاشفاً للمستور داخل نفوسنا وأجسادنا، وفيه جسدت أمينة خليل أروع وأهم أدوارها على الإطلاق، ففي الحلقات الأولى كرهناها بعد أن أصابنا توترها بتوتر، وأزعجتنا سلوكياتها المستفزة وصوتها العالي وكلماتها التي تخرج مثل القذائف المتلاحقة المتسارعة، وكدنا أن ننصرف عن متابعة المسلسل، حتى اكتشفنا أننا هنا أيضاً كنا على خطأ، وأن ما أزعجنا هو من صميم شخصية زيزي التي تعاني من ADHD، لتتحول مشاعرنا نحوها إلى النقيض، بعد أن بدأ المسلسل يسرب إلينا من مشهد لآخر بعض أوجه معاناة زيزي من فرط الحركة وتشتت الانتباه، وتتوازى مع شخصية زيزي الطفلة تيتو أو عطيات والتي تعاني التنمر في المدرسة والفشل في الدراسة وعدم وعي الأهل وأنانيتهم. زيزي وتيتو وجهان لعملة واحدة، الأولى لم ينتبه إليها أحد والثانية تم الانتباه إليها ولكن لم يفهمها ويستوعبها ويساعدها على تجاوز آثار هذا المرض ويعيد إليها ثقتها المفقودة في نفسها سوى زيزي التي عاشت فصولاً وفصولاً من المعاناة.

أرقى درجات النجاح لعمل فني أن يحدث صحوة مجتمعية تجاه آفة أو ظاهرة، وهو ما حققه مسلسل (خلي بالك من زيزي) الذي جعل مرض فرط الحركة وتشتت الانتباه حديث الناس على مواقع التواصل الاجتماعي، وظهرت في شكل دعوات لتدريس مادة عن سلوك الأطفال في المراحل الدراسية المبكرة لاستكشاف المكنون من أمراض وسلوكيات عدوانية لدى الأطفال مثل التنمر الذي كان يمارس في المدرسة ضد تيتو وكذلك ال ADHD.

(خلي بالك من زيزي) أطل علينا على استحياء وقالوا إنه عمل كوميدي وتوقعناه وجبة خفيفة، فإذا به أكثر عمل شديد الدسامة وسهل الهضم، وليحمل من المنفعة للناس ما يعوض الضرر الذي يحمله غيره من المسلسلات التي فشلت رغم صوت صناعها العالي وانحياز الشركة المحتكرة للانتاج وحقوق البث لها.

المزعج أن هذا المسلسل الهادف لا تعرضه قناة مصرية ولم يتحمس له أحد من الأوصياء على فنوننا وقنواتنا وإنتاجنا. تحية لمن أنتج هذا المسلسل، وكل التحايا لكتابه ومخرجه كريم الشناوي وأبطاله المبدعين المتألقين دائماً وعلى رأسهم أمينة خليل ومحمد ممدوح وعلي قاسم ونهى عابدين وجميع من ساهم في أن يطل علينا هذا العمل بهذا الجمال والقوة والسلاسة.

[email protected]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.