رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

خايف يقطعوا عيشى!!

بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد

(غلط إن المسلسل يقف .. ده حرام !!)

قالها صديقى فى حدة شديدة و بانفعال كبير حتى ظننت أنه  من العاملين به ، و أن ضرراً أصابه بشكل مباشر نتيجة للايقاف و لذا انفعل كل هذا الانفعال ، و لما تأكدت أنه لم يكن يعمل بالمسلسل قلت له : و لكنه مليئ بالأخطاء التاريخية فى الملابس و الإكسسوارات و قيل أيضا فى الأحداث.

 فقال : يا استاذ انتو محبكينها قوى ، ياما أعمال كانت مليانة أخطاء و عدّت ، عندك مثلا : فيلم الناصر صلاح الدين ، متصور فى جامع محمد على ، على أنه قصر الحكم بتاع صلاح الدين ، مع أن الجامع مبنى على طراز مختلف تماما عن عصر صلاح الدين ، يعنى لو كانوا صوروا فى جامع الحاكم بأمر الله كنت هاقولك و ماله ، مش عيب ، أهم قريبين من بعض ، لكن فخامة جامع محمد على و نقوشه ماكانتش موجودة أيام صلاح الدين ، دى حاجة ، الحاجة التانية إن الفيلم كاتبه أكبر الكتاب فى عصره و مع ذلك مليئ بالأخطاء ، يعنى عيسى العوام مكانش مسيحى ، و صلاح الدين ماعالجش ريتشارد بنفسه ، و يمكن ما اتقابلوش خالص ، ووالى عكا مكانش خاين ، بالعكس ده كان من أخلص رجال صلاح الدين و الصليبين أسروه و قعد سنتين فى السجن ، لحد ما صلاح الدين دفع له الفدية و خرجه . و برغم كل ده الفيلم كان جميل و بنحبه و عمل الأثر المطلوب فى وقتها ، و لغاية دلوقت بنتفرج عليه .

قلت لصديقى : عندك كل الحق ، و لكن الزمن تغير ، و أصبحنا ننشد الدقة فى الأعمال التاريخية ، و ليس من المعقول أن يظهر ملك المصريين بمظهر الهكسوس.

ارتفع صوته : المهم بيعمل ايه و بيقول ايه ! مش مهم شكله ايه .

قلت : بالطبع لا ، من المهم أن يكون الشكل صحيحا ، فالفراعنة كانوا يحلقون شعورهم كمعتقد دينى و ليس فقط كمظهر اجتماعى .

زادت حدة صديقى : أديك انت نفسك بتغلط فى التاريخ و بتقول عليهم فراعنة ، يعنى بتنسب حضارة كاملة و متقدمة و عرفت التوحيد لملك مشكوك فى مصريته ، و اسمه فرعون ، و ده حتى مش لقب ، ده اسم شخص ، و غالبا مش مصرى ، و فيه دراسات بتقول أن الوقائع كلها ماحصلتش فى مصر ، حد بيقول حصلت فى الجزيرة العربية و حد تانى بيقول حصلت فى أثيوبيا.

قلت : أنا اسف ، كلمة ( فرعونية ) مجرد خطأ شائع ، لكن الثابت تاريخيا أن الملك لم يكن كبيرا فى السن و لم يكن بهذا الشكل أو المظهر  و لا كانت هذه ملابسه .

استمر صديقى بنفس الحدة : بس ده فن ، مش صورة فوتوغرافية و من حق الفن انه يعمل تصوراته الخاصة ، يعنى مثلا فى موكب المومياوات:

قاطعته فى سرعة : و ماذا فى الموكب ؟ لقد كان رائعا و عظيما.

فقاطع هو مقاطعتى : ماقولناش حاجة ، بس الملابس ماهياش فرعونية فعلا ، و فيه راقصات لابسين تيجان شكلها حديث و رقصهم كمان معاصر ، و حتى اللغة التى اتقالت بيها أغنية ايزيس ماهياش لغة فرعونية ، لاننا ببساطة مانعرفش كانت بتتنطق إزاى ، هى اتفكت عن طريق الكتابة لكن معندناش أى مرجع صوتى للنطق ، يبقى اشمعنى بقى؟|.

قلت فى هدوء : أولا أنت استخدمت نفس الخطأ بقولك ( فرعونية ) و هذا يؤكد انه خطأ شائع ، ثانيا هناك فرق بين الاستعراض و بين الدراما التاريخية ، الموكب هو حالة استعراضية رمزية ، و المشاهد يعرف أننا ( هنا و الآن ) الأحفاد يحتفلون و يحتفون بالأجداد ، أما الدراما التاريخية فعليها التزام الصدق الفنى لاقصى الدرجات ، فأنت لا تستطيع أن تخرج عن أحداث التاريخ أو تغيرها، و لكنك تستطيع تفسيرها و تبريرها ، و من الجائز إضافة شخصيات أو أحداث لا تغير الحدث التاريخى الرئيسى ، و لكن تفاصيل العصر لا يجوز تغييرها ، هل يمكنك أن تجعل الهكسوس يستخدمون الموبايل مثلا ؟ أو تجعلهم يرتدون الجينز؟.

ارتفع صوت صديقى مجددا : طبعا ، من حقى أعمل أى حاجة ، فى فيلم عيسى المسيح النجم الأعظم المأخوذ عن المسرحية ، عساكر الرومان كانوا لابسين بنطلونات مموهة و خوذ حديثة ، و الكل بيغنى ، العرض كله غنائى . هو المسيح (عليه السلام) و الحواريين كانوا بيغنوا ؟ انت شخصيا عملت مسرحية عن رفاعة الطهطاوى و خليته يغنى ، مش كده ؟ اشمعنى بقى ؟

قلت له : و لكنى لم أدّعِ اننى أقدم دراما تاريخية .. المسلسل سيصبح وثيقة للاجيال الحالية و القادمة تستمد منها المعلومات ، هل تستطيع أن تصور الزعيم مصطفى كامل يرتدى قبعة ؟ بالطبع لا ، لأن الطربوش كان رمزا للمصريين فى مقابل القبعة التى ترمز للمحتل . هل تستطيع أن تصور علماء الأزهر يرتدون زى الحملة الفرنسية التى كانوا يقاومونها ؟ بالمثل قضية لحية الملك ، إنها خاصة بالهكسوس و تعتبر دليل ( قذارة أو نجاسة ) بالإضافة إلى أن من الواضح أن هناك حالة من ” الاستسهال ” فى التعامل مع المادة التاريخية كملابس و إكسسوارات .

و دعنا نتكلم بصراحة ، الكل يعرف أن هذا المسلسل – و مسلسل خالد بن الوليد الذى تم ايقافه ايضا – رد درامى و فنى على مسلسل (أرطغرل)، و على نفس طريق مسلسل (ممالك النار) . إنه مسلسل يعبر عن قوانا الناعمة فى معركة شرسة ، مع قوى أجادت استخدام قواها فغزت القنوات العربية و طرحوا أفكارهم و سوّقوا للسياحة عندهم . فلماذا لا ندقق  فى المادة التاريخية – التى لا شك ستبهر العالم –  مادمنا نأمل فى طرحه عالميا و فى تسويق حضارتنا للعالم ، و كيف نهدف لمسلسل أن يعزز الانتماء و الشعور الوطنى ثم يكتشف المشاهدون أنه مليئ بالأخطاء التاريخية ؟ هل سيظلون على احترامهم له و اعتباره أيقونة للفخر؟ .

و لكن صارحنى بالله عليك : لم كل هذه الحدة و الانفعال ؟ فالمسلسل لم يتم إيقافه لاسباب رقابية – مثلا – حتى تنفعل هكذا و كأنها قضية من قضايا حرية تعبير ، بل إن هناك مسلسلات و أفلام أوقفت من قبل أو تم إنتاجها و لم تعرض و لم أسمع لك حسا.

قال : بصراحة وقف المسلسل ده هيأثر على المهنة كلها ، و هيعمل مشاكل لكل اللى شغالين فى السوق ، و قبل ما ترفع حواجبك قوى كده هاقولك ليه : أولا وقف المسلسل ده يعنى خسارة مادية ، تفتكر الشركة هتعوضها منين ؟ مننا إحنا طبعا.

قلت فى ثقة : كيف ؟ لا يمكن أن يتحمل أحد هذه الخسارة سوى الشركة ، بل إن العاملين فى المسلسل و برغم إيقافه من حقهم تقاضى باقى أجورهم ، و على النقابة أن ……

لم تكتمل جملتى بسبب ضحك هستيرى أصاب صديقى و استمر فى الضحك طويلا و هو لا يستطيع أن يكمل كلماته المتقطعة : النقابة … باقى أجورهم … الشركة . و بعد أن هدأ قليلا قال لى : إنت يظهر عليك مش عايش معانا ، إحنا أجورنا كلها اتخفضت للنص و بعضنا للتلت برغم إن كل حاجة غليت ، و اللى مش عاجبه يقعد فى البيت مايشتغلش ، و الشغل مش بس بقى فى إيد شركة واحدة ، ده كمان كمية الشغل بقت الربع تقريبا ، و كنا زمان بنشتغل و لما الشغل يزيد عن 10  ساعات ، يتحسب أجر اليوم ، أجر و نص ، دلوقت بنشتغل 18 ساعة و ساعات أكتر بأجر اليوم فقط ، و فيه ناس بتقع من التعب و لا حد بيسأل فيها ، و اللى زاد و غطى إنهم بقوا يجيبوا ناس تاخد الشغل مقاولة ، فتكون النتيجة إنك ما تاخدش بقية أجرك و يتقالك أصل الشركة مادفعتش ، و الشغلانة فى النازل و الناس تعبانة .. و المسلسل اللى وقف ده هيتاخد حقه من لحمنا الحى زى ما شايلوك كان عاوز يعمل .

قلت له : أليست هناك من جهة تلجأون إليها فى مثل هذه المشاكل ؟  أين النقابات ؟  أين الصحافة ؟ و أين مجلس النواب ؟ و أين المجلس الأعلى للإعلام ؟ هل فقط يراقبون التدخين و الألفاظ فى المسلسلات ؟

قال فى حسرة : محدش سائل فينا ، ده حتى اللى اشتكوا محدش اهتم بشكواهم ، عارف مهندس الديكور ( ف . ع ) اللى بيعجبك شغله ، عمل فيديو طويل قال فيه كل اللى تاعبنا و معورنا ، و لا حد عبّره .

قلت : إذن افعل مثله ، إيد لوحدها ماتسقفش.

و فوجئت بالدموع تملأ عينيه : خايف يقطعوا عيشى و ساعتها أعمل ايه فى أقساط المدارس ؟ و دخلة رمضان ؟ و لبس العيد ؟ و البيت ؟ ماهو لو كانوا سامحين لحد تانى يشتغل كنت روحت له ، لكن هى شركة واحدة و غيرها مفيش .  

أصابتنى أنا الآخر غُصة ، فلم أتوقع أبدا أن أرى دموع رجل يخشى على أكل عيشه فى الجمهورية الجديدة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.