رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

إبراهيم رضوان يكتب: (طرة).. ترحب بكم! (1)

بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان

وصلت معتقل (طرة) السياسى.. أسوار وأبراج تعلو الأسوار.. حراسة مشددة متنمرة كل شبر تخطوه ..

اجتزت الكوة الصغيرة في البوابة الضخمة لمعتقل (طرة).. لألمح عن يميني غرفة قائد المعتقل.. عن اليسار غرفة نائبه.. ساحة ضخمة تتسع لألفى شخص على الأقل.. تتوسط مبنيين ضخمين  كل منهما دور واحد لكنه يرتفع الى أربعة أمتار تقريبا.

تبرز منهما نوافذ قضبانية مائلة بحيث لاتعلق بها حتى قطة دون أن تنزلق لتهوى إلى الأرض.. تتدلى خارج النوافذ أونى بلاستكية ملفوفة في خيش مبلل ليمنح الماء بعض البرودة.. يحوى كل من المبنيين مجموعة من عنابر معتقل (طرة).

أثناء أخذ بياناتى كانت الساحة حاشدة بآلاف المعتقلين في (طرة).. بين الرافع رأسه في فخر، لأنه يؤمن بطريقه الذى قاده إلى هنا، وبين المتحسر الذى لم يكن يقدر لصغر ماقام به كل هذا العذاب، وذاهل لا يعرف كيف جاء إلى هنا.

ولا سببا لذلك منتظرا أن يفهم وهو بالدموع و النواح  يفسر لهم بألف قسم أنه لا له في الثور ولا في الطحين.

سألت: مين دول كلهم؟

أجابنى جار في وقفتى – مصر كلها هنا.. الوحيد اللى بره هو عبد الناصر ورجالته .

عرفنى الشاب بنفسه.. اسمه (أبو بكر) من ميت غمر، كان يستخدمه الإخوان لصغر سنه في توصيل النقود لأسر المعتقلين في (طرة).. فلحق بهم..

انتهيت من الإدلاء ببياناتى.. كان يسجلها أحد معتقلي (طرة).. اقتادونى بعدها إلى قائد المعتقل (عبد الله سلومة).

(عبد الله سلومة) هو أحد أبرز جلادي سجون عبد الناصر

(سلومة) أبرز جلادي (طرة)

(عبد الله سلومة) هو أحد أبرز جلادي سجون عبد الناصر.. ينحدر من محافظة بنى سويف.. توفى والديه في بداية سيرته المهنية.. لم يتزوج.. لذا تفرغ تماما بجسده و كل مشاعره لـ (طرة) وللمعتقلين.

كان قد أتهم فيما قبل بقتل معتقلين دون إذن، والقصة الشائعة حول ذلك أنه بعد قيام بعض معتقلى الإخوان بالاعتراض على تعذيبهم، وبعد أن تمت تسوية الأمر معهم عادوا إلى زنازينهم، ليقوم (سلومة) وآخرين بفتح النار عليهم من خارج القضبان.

وقد تسبب ذلك الاتهام في تأخير ترقيته مما أصابه باكتئاب شديد ورغبة لا يحدها حد في الانتقام من المساجين والتفنن في طرق تعذيبهم .

كان (سلومة) رجلا أحمر الوجه.. يعلو كتفه نسر ونجمتين..عيناه خضراوتان تشعان تربصا ووعيدا.

كانت كل خطوة منه يعقبها جزاءا أو ركلات أو صفعات أو جرجة إلى زنزانة انفرادية أو زنزانة تعذيب، كان يبخ عدوانية و تشفي من أي معتقل ترصده عيناه الخضرواتان المشعتان بما يرسله قاع الجحيم.

كان دائم الكز على شفته السفلى.. يمر في خيلاء بين المعتقلين ليقف فجأة عند أحدهم يكون له معه حساب قديم فيقف أمامه ويطيل إليه النظر صامتا متأملا، ليهز بعدها رأسه بقرار وصل إليه و هو في الغالب مصير مرعب لهذا المعتقل  ثم  يمضى مبتعدا دون كلمة .

إقرأ أيضا : إبراهيم رضوان يكتب: رائحة (الخبيزة).. (1)

عرفت فيما بعد أن (سلومة) بعد أن  قد وصل إلى منصب نائب رئيس مصلحة السجون في عهد وزير الداخلية الأسبق (زكي بدر)، و قد أصيب بسرطان التهم أمعائه ليتوفي متأثرا به عام 1987 .

حينما اقتادونى إلى (عبد الله سلومة) في معتقل (طرة) أمرهم أن يزجوا بي في زنزانة انفرادية، قلت محتالا: يا فندم في القلعة قالوا لى انهم هيبلغوا حضرتك بمشكلتى.

مشكلة ايه؟

أصلى بعانى من ضيق تنفس في الأماكن المغلقة.. و دا بيمنعنى نهائيا من النوم في الزنزانة الانفرادية المقفولة.. دى كانت مشكلة كبيرة هناك في القلعة كله عارفها.

أمر (سلومة) أن أبيت الليلة في زنزانة انفرادية مفتوحة إلى أن يوزعني في الصباح بما يتناسب وتصنيفى الخطر بأنى (شيوعي).. كان لوصفه لى بالشيوعى صدى بين الموجودين تحول إلى نفور من شخصي، فهى تهمة لها مالها من ظلال قاتمة سياسية ودينية وحتى أخلاقية ..

صادفتنى مفاجأة (عطية محمود) صديق عمل قديم

مفاجأة (عطية محمود) في (طرة)

بعد دقائق صادفتنى مفاجأة (عطية محمود) صديق عمل قديم، كان مدرسا في قرية قريبة من المدرسة التي أعمل بها في إحدى قرى مركز بيلا بكفر الشيخ.. كان يرتدى بيجامة.. بادلنى السلام في  فتور شديد: عطية.. ازيك.. وايه اللى رماك هنا؟

نظر لى (محمود) طويلا ثم قال: أقسم بجلالة الله لو كانوا حققوا معايا لكنت جايبك هنا من يوميها.

الله.. هو ايه اللى حصل؟.. وانت هنا من امتى؟

من سنة.. ولدلوقتى ماحدش حقق معايا، و ثانى يوم اعتقال اتفصلت من شغلى كمان.. يعني موت و خراب ديار بسببك .

سببى أنا؟

وعرفت منه الحكاية.. كانت بدايتها عند (محمد حافظ رجب) القاص المتميز..كان لنجاحه المتواصل والذى توجته مجموعته القصصية المتفردة (الكرة و رأس الرجل) قد أوغر عليه صدور الصغار، فتكالبوا عليه و تآمروا.

ترك لهم (حافظ) القاهرة واستقر في الإسكندرية ليشارك في صحيفة (السفير) بصفحته الأدبية (الصيحة).. في هذه الصفحة كان (حافظ) ينشر لى بشكل متواصل قصيدة من قصائدى الرافضة مطلقا على لقب (شاعر الظل الحزين).

قام (عطية محمود) بجمع قصائدي.. رتبها في كشكول.. هيئها ليطبعها كديوان مصدرا عليه اسمه.. معتمدا كون هذه لجريدة وهذه الصفحة مغمورة ولن ينتبه أحد إلى شاعر القصائد الحقيقى.

اتجه (عطية) بكشكول قصائدى الممهورة باسمه إلى أمن دولة كفر الشيخ، ليستصدر تصريحا بطباعته.. فما كان من أمن الدولة بعد قراءة هذه القصائد الزاعقة والغاضبة في معارضتها إلا أن تستصدر قرارا جمهوريا باعتقال (عطية)، بل و بفصله من عمله .

إقرأ أيضا : إبراهيم رضوان يكتب: (رائحة الخبيزة).. سيبى الفقير يا مصر يخرج بره

بعد أن انتهى عطيه من سرد قصته الطويلة الطافحة بالمرارة والغضب أخبرته أننى جائع أخبرنى أنه يضع يده على كمية كبيرة من العسل الأسود والجبن القديم في عدة عنابر وأنه سيذهب لإحضار كمية من عنبره.. انتظرت ساعات جائعا.. لم يعد.

كان الشيوعين في عنبر (واحد) قد علموا بحضورى.. حضروا لاستقبالي.. أخبرونى في ترحاب بأنهم قد أعدوا لى مكانا للمبيت في عنبرهم.

معلش.. أنا مش داخل عنبر الشيوعين؟

ليه يا إبراهيم؟

لأنى مش شيوعي

رد (صلاح عيسى): حتى لو انت مش شيوعي.. أهو انت دلوقتى محسوب علينا

(صلاح عيسى) في (طرة)

رد (صلاح عيسى): حتى لو انت مش شيوعي.. أهو انت دلوقتى محسوب علينا.. صممت على عدم دخول عنبرهم .

كان على أن أختار بين عنابر أخرى ..غير عنبر الشيوعيين في (طرة)

عنبر اليهود.. كان عنبرا مميزا.. فهم يتبعون دولة منتصرة.. ودول قوية ترسل مندوبيها كل يوم للاطمئنان على أحوالهم.. لذا يأكلون أشهى الطعام ويرتدون أفخر الثياب، ويلحقون بعنبرهم ما يشاؤون من مساجين خدم يتمرغون في نعيمهم.

أو عنبر (النشاط المعادى) ويرمزون له بعنبر (ن.م)، ويضم بين جنباته الفئة الدنيا من المعتقلين، فمنهم من أتى في نكتة ألقاها على مقهى أو حتى في جلسة عائلية.

ومنهم من أرسل لعبد الناصر يشكو له ضيق الحال ليكون رده سيارة البوكس تسحبه من بيته لينتقل من ضيق الحال إلى جحيم المعتقل، ومنهم من أتى بشكوى كيدية من واحد من أهل الثقة.

هامش:

كان حضرة الصول اللى لابس..

كاب جديد .. على بدلته

شايل همومي  ..

من بداية مولدي

كان كل يوم..

بيصلى حاضر  ..

للإله.. فى معبدي

كان كل يوم..

ييجيني جايب خير ..

فى قرطاس الدقيق

دا ما كانشي والد.. كان صديق

وطريق لقلبي اللى ابتدى..

يعزف حروفي الخضرة..

من أجل الوطن

علمني أرفض فى الوثن..

لو كرسي..

فى وسط   الكراسي المجرمة

علمني إن الرب واحد فى السما

فجأة.. وقع.. صابه   الشلل

في البيت حدث.. حادث جلل

ما بقاش خبيز جوه الحلل

ولا بل ريق.. جوه القلل

صايني الخلل

فخرجت من نفسي عشان..

أحضر حوار..

بيني و بين الشخص تاني..

باختصار.. قاللى..

دا حكم الله..

وحكم الله منزه.

قولتله..

إشمعنى أبويا..

دا ظلم واضح للي نام

قاللي..

المرض مالهوش كبير

طب والعمل؟

موجود مجير

و.. همسلي

إن الله قدير..

رحمن.. رحيم

يملك مصير الكل..

مش محتاج مناقشة فى الأمور

مين انتصر؟..

كان التعادل بيننا..

مات..

بعد انتهاء عمره الجليل..

أنا باعترف..

إنه حقيقى على صواب

صاحبى اللي لسه كل يوم باستنظره

ولحد آخر لحظة لىّ   فى الحياة

باصص بقلبى ع الإله

فى كل يوم..

باستغفرُه

………………………………………………

في الحلقة القادمة نستكمل ذكريات معتقل (طرة)

………………………………………………

من كتاب (مدد.. مدد)

تحت الطبع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.