رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

إبراهيم رضوان يكتب: رائحة (الخبيزة).. (1)

بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان

أيقظونى الإخوان من عز النوم نهارا، كنت أنام نهارا و أسهر ليلا، رائحا غاديا في الطرقة البالغة الطول، والتي تفصل بين العنابر هربا من الحشرات، لكن كانت تزكم أنفي رائحة (الخبيزة).

أبلغونى أن هناك نزيلا جديدا قد وصل لتوه،  يبدو من لكنته أنه من بورسعيد، و أننا حينما دخلنا عليه زنزانته الانفرادي أخذ يصرخ فزعا لمنظر لحانا المطلقة البيضاء والسوداء.

خرجت معهم وأنا أخمن بأنه قد يكون الشاعر البورسعيدى (ممدوح بدران)، وقفت أمام الزنزانة الانفرادية أتأمله، كان الرجل كبيرا في السن، يرتدى جلبابا متواضعا مخططا و يربط على رأسه منديلا محلاويا.

تتوزع على جبينه علامات صلاة متعددة، كان الرجل متقوقعا في إحدى زوايا الزنزانة الانفرادية، و أمامه على الأرض طبق (الخبيزة)، وطبق أرز ورغيف خبز.

اقتربت منه مترددا وألقيت عليه السلام، لم يرد، جلست بجانبه متوددا، كان الرجل في منتهى الغلب، التفت لى، وقبل أن ينبس بكلمة إنخرط في البكاء!

ربت على كتفه، ٍسألنى في رجاء: هو أنتم جايبينى هنا ليه؟

والله ما اعرف يا حاج، أنا معتقل زيى زيك تمام.

معتقل ازاى و انت لابس البيجامه دى، دى ولا بيجامة الخواجات؟

والله العظيم يا سيدى: أنا هنا زي زيك.. زي ما قلتلك.

وحياة الغاليين عندك هافضل هنا لحد إمتى؟

أقول له ايه دا بس؟

صارحنى و النبى ياحضرة الضابط.

ضابط ؟.. طيب طالما أنا ضابط بقى: اسمك إيه بالكامل؟

اسمى عباس المغربى، هارجع بيتنا إمتى والنبى؟.. الولاد وحشوني.

أردت أن أطمئنه، ربت على كتفه قائلا: أسبوع بالكتير يا (عم عباس) وهاترجع لبيتك وأولادك.

فجأة و بدون مقدمات، و بعد أن ارتجف جسد (عم عباس المغربي) من طول المدة التي حددتها له.

طار طبق (الخبيزة) من يده، مرتطما بكل ثقله في وجهى، كانت (الخبيزة) تسيل بقوامها الغليظ وهو يصرخ:

هو أنا كنت سارق بطة، ولا سارق سريقة، ولا قاتل قتيل؟

هو أنا كنت سارق بطة؟

أسبوع ليه يا ولاد الكلب.. ليه؟، هو أنا كنت سارق بطة، ولا سارق سريقة، ولا قاتل قتيل؟

نهضت من جلستى مسرعا بالخروج، قبل أن يلحق بى طبق الأرز الغاضب و(الخبيزة) الذى رن مرتطما بأرض الزنزانة بجوار قدمى، مبعثرا الأرز في كل اتجاه.

استقبلنى الإخوان المسلمين بصابونة وأكثر من فوطة، لم يفلح الصابون في إزالة دهون (الخبيزة) ورائحتها القذرة التي انغرست في مسام  وجهى،  وأغشية أنفي، لا أبالغ في تأكيدى بأن هذه الرائحة مازالت عالقة بى إلى هذه اللحظة.

تكونت لدى  تضخمت عقدة هائلة تجاه (عم عباس المغربى).. أبلغونى بعد أيام انه مازال ممتنعا عن الطعام، و أنه على شفا الموت، حاولوا إقناعى بدخول زنزانته ولو لدقائق لإنقاذ حياته، تمسكت برفضى التام و انصرفت.

بعد شهور، وكعادتى اليومية في السير لا إراديا ناحية سور المعتقل العالى جدا جدا وكأننى أتبع بوصلة مغناطيسية كالموجودة في رؤوس الطيور، والتي تشير دائما الى اتجاه الحرية.

ولأتحدث مع العساكر المزروعه في أكشاك المراقبة،  والتي في أصلها هى  زنازين خشبية صغيرة تتناثر أعلى الأسوار، سمعت من يلح على في النداء (يا إبراهيم افندى.. إبراهيم افندى).

التفت ليفاجئني (عم عباس المغربي) مهرولا ناحيتى والعرق يتصبب من جبينه، عاودتنى رائحة (الخبيزة).. تهب كرياح قوية تلف وجدانى كله.

أنا جاى استسمحك علشان رميتك بالسبانخ يا إبراهيم افندى.

بس دى مش سبانخ ياعم عباس .. دى (الخبيزة).

قلتها وأنا أجلس على الأرض مستندا بظهرى إلى السور، إنحنى الرجل مقبلا رأسى معتذرا.

كلامك طلع صح يا إبراهيم افندى.. شكلها فعلا مش هاخرج إلا بعد أسبوع.

أسبوع إيه بس يا عم عباس.. الكلام ده بقاله سنة.

بس انت قلت لى قدامى أسبوع.. قلت أسبوع ولا ماقلتش؟

احسسته منتفضا.. يبحث في الهواء عن طبق آخر من (الخبيزة) يرمينى به، وقفت سريعا لتهدئته.

تتبعه غمامة من أبخرة (الخبيزة)

تشبث بمسامى من رائحة (الخبيزة)

اسمع يا حاج عباس: من الآخر كده.. شوف (السماوي) بيعمل إيه واعمل زيه

بيعمل ايه السماوى؟

بيربى فراخ وبط ورومى.. و اللى ما بيعجبوش بيعتبره كافر وبيعزمه.. وبيسممه

و الفراخ دى هاجيب لها أكل منين هى رخره؟

ازرع شجرة زى اللى قدامنا دى قدام الزنزانة، وارويها كل يوم.. إشغل نفسك وخلاص.

بس دى شجرة خوخ.. لو زرعتها النهارده مش هتطرح الا بعد  15 سنة.

وجدتها فرصة لأطرد بها ما تشبث بمسامى من رائحة (الخبيزة).

قلتها له بقسوه لم أعهدها في نفسي قبل ذلك.

ها تقاطع ليه يا (عم عباس).. هو انت يعنى ضامن انك هاتخرج من هنا قبل 15 سنة؟؟

15 سنه ؟!!

التوت ساقي الرجل تحت ثقله.. انهار جالسا إلى الأرض.. حاول القيام فلم يستطع، كرر المحاولة ليقف متحاملا على نفسه، وقد ألم دوار برأسه مرتجفا، التفت موليا لى ظهره.

تناهى إلى نحيبه خفيضا، وهو يغادرنى مبتعدا.. تتبعه غمامة من أبخرة (الخبيزة).. و كأننى قرأت رقية.. صرفت عنى.

جانا تلبسنى لعام كامل.. عاودت أحاديثى مع عساكر الحراسة، أسمعهم آخر أشعارى، أسألهم عن أسماء قراهم وأحوال عائلاتهم.. أكتب لأسرهم خطابات.. تطلعنى على أدق تفاصيل مشاكلهم وظروفهم العائلية.

عقب أحدهم فجأة: الراجل اللى كان قاعد معاك ده شكله غلبان قوى.. بس غاوى قراية و متثقف

هو مين اللى متثقف؟، دا لا بيعرف يقرا ولا يكتب .

ازاى الكلام دا.. دا كل يوم بيجى يقعد هنا في عز الشمس وماسك كتاب وبيقعد يقرا فيه لما بيتعب.

طب وايه اللى عرفك كمان إنه بيتعب؟

بيبقى قايم مش قادر يجر رجليه.

في الحلقة القادمة نستمكل قصة الخبيزة وقصيدة (عباس المغربي)

………………….

من كتاب (مدد مدد)

سيرة ذاتية لبلد

سيصدر قريبا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.