بقلم: محمود حسونة
(غزة)، مساحة صغيرة لا تتجاوز 362 كيلومتر على خريطة كوكب الأرض الذي تبلغ مساحته 510 مليون كيلومتر، منها حوالي 150 مليوناً يابسة، أي أن مساحة (غزة) لا تُرى بالعين المجردة حال نظرت إلى خريطة الكوكب كاملة.
هى صغيرة ازدادت صغراً بعد أن تم قضم أجزاء منها، ولكنها كبيرة في قيمتها وازدادت كبراً وعظمة بصمود أهلها وتشبثهم بها وإحباطهم المخطط الصهيوني بتهجيرهم منها، لتصبح ملهمة للمبدعين حول العالم.
(غزة العزة) ليس مجرد لقب، ولكنها حقيقة، فهي أرض العزة والكرامة والصمود والإلهام العصية على الاستسلام لإرادة عدو متوحش، تحرك لأجلها العالم كله، وخرج لأهلها أحرار العالم متحدّين إرادات حكوماتهم الداعمة للعدوان.
غنى لها معظم المطربين العرب وعدد من أهل المغنى غير العرب، ألهمت الشعراء والملحنين والمبدعين، هتف باسمها وباسم فلسطين ملايين البشر، منهم من لا يعرف لها موقعاً على الخريطة، ومنهم من تعرف عليها حديثاً بعد أن حاول العدوان الإسرائيلي هدمها على رؤوس أهلها وإبادة شعبها.
إقرأ أيضا : محمود حسونة: فنانون وإعلاميون يرسبون في اختبار القيم الإنسانية في (غزة)
نعم هو هدم أبنية وخرّب أحياء ومخيمات، ودمر البنى التحتية، ولكنه عجز من أن ينال من صلابة أهلها، بل هدم صورة إسرائيل المزيفة التي رسمها لها الإعلام العالمي المضلل على مدار سنوات عمرها الخمسة والسبعين، دون أن يدري أنها كيان شاخ، واقترب من الفناء بلا رجعة.
الدول الحقيقية لا تشيخ بل تزداد تحضراً كلما تقدم بها العمر، أما الكيانات الاستعمارية فلها عمر افتراضي، تنكشف بعده وتتعرى وتذبل حتى تفنى وتصبح نسياً منسياً، وهذا سيكون المصير الحتمي لإسرائيل.
ولعل الحرب الوحشية التي تشنها على قطاع (غزة) الأعزل بداية النهاية، توهمت أن حصارها على مدار سنوات وسنوات سوف يدفع أهلها لليأس، وأنه يمكن أن يخلق بينهم فتنة.
أهل (غزة) محصنون
ولكن أثبتت الحروب المتوالية وآخرها الحرب الحالية، أن أهل (غزة) محصنون ضد اليأس، ومتوحدون في مواجهة أطماع المحتل، وأن ألمهم واحد وأملهم واحد، يتألمون من عواقب الحصار والتجويع والقتل الممنهج والتدمير والتخريب، ويأملون زوال الاحتلال من على كامل أراضي فلسطين في يوم غير بعيد.
فلسطين ألهمت كبار الشعراء العرب منذ احتلالها، وغنى لها وللقدس كبار المطربين (فيروز وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش ونجاح سلام وحليم الرومي وأحمد قبور وسعاد محمد) وغيرهم من جيل الرواد.
وواصلت الأجيال التالية الغناء لفلسطين والتغني ببطولات أهلها وبث الأمل في زوال الاحتلال عنها، وجاءت الحرب الحالية لتستنفر معظم المطربين في أقطار عربية لدعم (غزة) والتغني ببطولات أهلها والبطولات الفلسطينية.
منهم من بحث في التراث لإعادة أغاني قديمة بتوزيع يتناسب وروح العصر ومنهم من أعد أغنيات خصيصاً؛ منهم من غنى إيماناً بالقضية ورفضاً للعدوان الغاشم، ومنهم من غنى لحفظ ماء وجهه أمام جمهور تملكه الغضب ممن يرقصون على جثث الشهداء.
إقرأ أيضا : محمود حسونة يكتب: فنانون ماتت ضمائرهم في (غزة)!
منهم من أوقف حفلاته ومنهم من تبرع بريع حفلاته لصالح (غزة)، ومنهم من لم يشغل باله سوى بنيل فرصة للغناء في مهرجان لا يشغله ما يحدث هناك للأطفال والنساء والشيوخ بقدر ما يشغله إثبات أنه خلع عباءة رعاية التطرّف عن نفسه.
الكثيرون غنوا لـ (غزة)، ولكن القليلون هم الذين غنوا من القلب ونطقت أغنياتهم ألماً لما يحدث لها أو تباهت عزة وافتخاراً بصمود أهلها.
رغم كثرة الأغاني التي صنعت لهذا الحدث تظل أغنية فيروز (زهرة المدائن) هى الأكثر استماعاً وتأثيراً رغم أنها للقدس، ولكن القدس هى الهدف الأسمى في كل الحروب وعلى امتداد سنوات الاحتلال منذ نكبة 1948.
(لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي.. لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن.. يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي.. عيوننا إليك ترحل كل يوم ترحل كل يوم)، نعم عيوننا إليها ترحل كل يوم، وقلوبنا بها معلقة إلى الأبد، وأقصاها يسكن قلوبنا على مدى العمر.
أما الأغنية التي لمست مشاعر الرأي العام العالمي وانتشرت في أربع جهات الكوكب فلم تأت من حنجرة عربية، إنما انطلقت من حنجرة سويدية، رغم أنها فلسطينية الإبداع.
(غزة) وفرقة الكوفية الفلسطينية
وهى أغنية (Leve Palestina och krossa sionis men)، أي (تحيا فلسطين وتسقط الصهيونية)، وهى أغنية عمرها 50 عاماً، قدمتها فرقة الكوفية الفلسطينية في السويد عام ١٩٧٨ التي كونها الشاعر الفلسطيني جورج توتاري، ابن مدينة الناصرة الذي هاجر إلى استوكهولم عقب نكسة 1967.
وكون هذه الفرقة للتعريف بقضية فلسطين هناك، وأطلقت الأغنية التي أثارت رفضاً سويدياً، وتم اتهامه بسببها بمعاداة السامية، وأعيد إطلاقها بعد الحرب بصوت المغنية الرئيسة لفرقة الكوفية، وهى السويدية (كارينا أولصن).
والمفاجأة، أنها كانت تعمل مديرة في إحدى جامعات السويد، واشتهرت بهذه الكوفية الفلسطينية، ذات الرمزية، المدافعة عن الحق الفلسطيني.
إقرأ أيضا : محمود حسونة يكتب: الصورة أصدق إنباءً من أكاذيب (إسرائيل)!
ليصدح معها الشارع العالمي، ولتتحول إلى أيقونة يرددها المتظاهرون ضد العدوان على (غزة) خلال تظاهراتهم التي جالت في عواصم العالم المؤيدة للعدوان، ولتهز أركان السلطة المرددة بلا وعي لكليشيه (حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها).
المبادرات الفردية لدعم (غزة) غنائياً، هى مبادرات مقدرة ويكفي أن أصحابها لم يلتزموا الصمت أو يتعامون عن ما يحدث، ولكن ألم تكن غزة تستحق من المؤسسات الثقافية والنقابات الفنية تنظيم حفلات جماعية تكون أعلى صوتاً من المبادرات الفردية؟!
ألا تستحق (غزة) تنظيم ليلة غنائية (في حب غزة)، أو (في حب فلسطين) على نمط ليالي الحب التي ينظمها (موسم الرياض) تقديرا لكبار ملحنينا ومبدعينا؟!.. إنه مجرد تساؤل؟
الفن الصادق يهز استبداد الحكم ويكشف ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع حقوق الإنسان، والفن الصادق يشحذ همم الناس ويزيدهم حماساً للصراخ في وجه الظلم.
وهذا ما فعلته كل أغنية نابعة من القلب مساندة للحق الفلسطيني، سواء كانت قديمة أو جديدة، المهم هو الصدق.
(غزة) والمدافعون عن (غزة) والمدركون وحشية العدوان عليها يغيّرون العالم، بعض الجمهور الغربي نفض عن نفسه غبار التأييد الأعمى لإسرائيل، وازدواجية الغرب تكشفت ملامحها أمام أبنائه وأمام العالم، ولم يعد تشدقه بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير تنطلي على أحد.
(غزة) العزة والكرامة، منطقة صغيرة تتحول إلى ملهمة لأحرار العالم وتعيد فرض القضية الفلسطينية على المشهد العالمي، لتتصدر، وتتحول من قضية العرب المركزية إلى قضية أحرار العالم المركزية.