رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

سعد سلطان يكتب: (سيد درويش) .. عبقرية الصدفة، وتدابير الزمان!

بقلم: سعد سلطان

ثلاث ضرورات كانت تُحتِّم ولادة (سيد درويش) في ذلك الزمان والمكان،ىالأولى بلاد تغْلي سياسياً وتسعى للقبض على لحظتها  النادرة، لحظة تعي فيها نفسها، لحظة تواجه فيها “اللورد كرومر” الذي ملأه الظنُّ بموات الحركات الوطنية فبسط سلطاته الاحتلالية على روح وادي النيل لمدة ربع قرن.

هنا تبدو الموسيقى عند (سيد درويش) ىضرورة تحررية، والغناء مطلباً نضالياً..  فالحناجر الثائرة في حاجة لإنشودة وأغنية ملهمة.

الضرورة الثانية: حالة التمرد للموسيقي ذاتها على ألوان بالية خيَّمتْ على الآذان وخدَّرت العقول بحالات انبساط لحظية شيطانية، فيما بدت واجبة حاجة الكلمة لمن يُلْبسها ثوب نغمٍ وإيقاعٍ بقدر وقيمة مطلب التحرر.

إقرأ أيضا : تعرف على اللحن الذي حير (سيد درويش) وولد من فم أحد السقايين!

والأهم، تجهيز الوجدان الشعبي لميلاد ثائر يبتدع صلة – لطالما ظلت مفقودة في الشرق – بين الأنغام والكلمات، هذه الصلة يراها الموسيقار (هشام جبر) هى المؤسس لعبقرية (سيد درويش)، وهي التي قادته الى التجديد، والثورة على ما مضى من مخلفات غنائية لو التزم بها (سيد درويش) لما استحق الخلود.

أما الثالثة: فهي الصدفة!.. الصدفة مصممة أزياء المصائر.. فهي من حَكَمتْ مصيره في مكان ولادته ولاحقا في سفره إلى الشام.. ولادة (سيد درويش) كانت في كوم الدكة بالإسكندرية ـ محط رحال الإنجليز وموطن ثكناتهم ـ ومنها كانت تدار كافة عمليات الاحتلال والاختراق.

وحينما أرسل الإنجليز ما لا يقل عن مليون مهاجر إلى الإسكندرية جاءوا بموسيقاهم، هنا تهيأ الفتى مبكراً لصنع مجده غير هيَّابٍ ولا مِرْتاب، ليحدث ثورة فنية قُدِّر لها أن تُشرق بضؤها الكامل.

مصادفة غناء (سيد درويش) للبنائين

مصادفة (سيد درويش)

فانطلق ما أحدثه من أثر في أرواح ونفوس المصريين يفعل أفاعيله فكانت ثورة 19 تلاها دستور 23، وهى أرقام تضع نفسها في التاريخ لامعة مضيئة.

الصدفة هى من قدْمته  للأخوين عطا الله (أحدهما ممثل والآخر مدير مسرح) يسمعان (سيد درويش) بالمصادفة يغني للبنائيين، وهما على مقهى مواجه للمبنى، فيأخذانه إلى الشام.

وتُكْمل الصدفة إبهارها بأن يلتقي (سيد درويش) بالملا عثمان أفندي الموصلي عبقري الموسيقى التركية والعربية، وأحد ملوك النغم والقراءات والشعر الصوفي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، فيلتقط (سيد درويش) وينفحه أجر تراث شاسع من الموسيقى الصوفية كان الموصلي مبدعها ورائدها.

الصدفة تلقي الضوء على شراكة روحية تجمعه بالملا عثمان، كلاهما حافظ للقرآن الكريم منذ الصِغر.. ربَّت آذانهم الأناشيد والتراتيل وخيالات القصائد وجلال الكلمات.

وسَّعتْ مقامات (البياتي والحجاز) الصادرة من مؤذني المساجد عيونهم على خشوع الجرس الموسيقى للحرف الإلهي..  فتم فِطام (سيد درويش) على أنه لا قيمة للكلمة بدون جرْسها المُوحِي (هذا ما أنبأتنا به الصحف).

إقرأ أيضا : سر رفض (سيد درويش) الذهاب إلى صوته المفضل (سلامة حجازي)!

وفي حال بحثك عن أُخَرٍ مُتَشابهات تجمعه و (الملا عثمان أفندي الموصلي) ستفاجئك عشرات الأسئلة التي تتعنون بـ (هل اقتبس درويش من الموصلي ؟!).. حسب دراسة للباحث الموسيقي (علي مندلاوي) ألقاها في احتفالية عراقية أقيمت للموصلي أن لحن أغنية (زوروني كل سنة مرة) تنسب منذ وقت طويل لـ (سيد درويش).

بينما هى في الأصل للموصلي، وكانت تغنى للرسول الكريم بعبارة (زوروا قبر الحبيب مرة)، أعمال الموصلي تداخلت مع أعمال (سيد درويش) في مزاج قوامه التناغم التام والانسجام الكامل والموهبة الاستثنائية.

كلاهما أدرك أن الموسيقى بحر يحق للجميع الاغتراف منه ،فكان منطقيا أن تتوه بعض الألحان بينهما، للموصلي نسبت أغان أخرى أيضا (طلعت يا محلى نورها، آه يا حلو يا مسليني، ياليل الصب متى غده، قدك المياس يا عمري).

لا فرق يذكر بين (سيد درويش) واستاذه الذي جاء إلى مصر فالتقى درويش مصادفة وانتظره في الشام عن قدر مكتوب ولقاء محتوم، كان للبشرية حظها الموفور من تلاقي الارواح والمواهب.

ظهر نبوغ (سيد درويش) جاء مبكرا جدا

نبوغ (سيد درويش)

فقد نفخ (سيد درويش) في موسيقى بلاده روحا جديدة وارتقى بها الى مستوى (مكَّن المرء من  التعبير عن نفسه وعواطفه ونزعاته، فصار بنبوغه وثقته بنفسه وَقُودا لحراك هائل ونهضة تاريخية فارقة).

تدابير الزمان هي من أوجبت ولادة (سيد درويش) نهاية قرن وبداية آخر.. الصدفة من جعلت عام وفاة الموصلي نفس عام وفاة درويش  1923، وعام وفاة درويش عام عودة زعيمة (سعد زغلول) من المنفى.

إقرأ أيضا : مفاجأة .. العشرة الطيبة تبعث من جديد في الذكرى المئوية لخالد الذكر (سيد درويش)

فكان له من الأحداث العظام نصيباً وكان لمسيرة الزعماء رفيقاً، فقد تابع (مصطفى كامل) وهو يجوب فرنسا مطالباً بتحرير بلاده، فيما كان (محمد عبده) يواصل عمله الإصلاحي والجراحي لقلب العالم الإسلامي المتجمد، فأصبح حسب دراسة (إدوارد لويس) ظاهرة طبيعية بين عدة ظواهر نموذجية في شرق متوترٍ مُنكمش على نفسه.

 (.. أنا لا أقل عن فيردي.. أنا فيردي مصر).. هكذا أعلن (سيد درويش) عن نفسه، في إشارة لصاحب (أوبرا عايدة)، ولكنها ليست وحدها العبارة الكاشفة لمكانه المستحق في نادي العباقرة.

فهو أخبرُ الناس بالأنغام والأوتار والإيقاع.. اجتمعت له ميزات عدة، واحدة منها كافية لتخليد صاحبها.. تتعاظم أناهُ عن حقيقة.. ومعها يصير خيلائه مبررا.. القول الفصل: (سيد درويش) كالعصر الذي عاش فيه.. وكالشعب الذي انبثق منه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.