رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

د. ثروت الخرباوي يكتب : مغامرات فنية لطفل صغير في رمضان

  • بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي

شهر رمضان وما أدراك ما شهر رمضان !، نعم يا سيدي العزيز، وبدون أن تدخل معي في جدل نعرف جميعا أن شهر رمضان هو الشهر المبارك الفضيل الذي تكثر فيه العبادات، ولكن لأن الشعب المصري صاحب ذائقة فنية فريدة لذلك أصبح شهر رمضان عندنا مرتبط بشيئين يبدوان في الظاهر أنهما متعارضان، هما الدين والفن، ويا الله من هذا الشعب العجيب !! المتطرفون والإرهابيون يقولون إن الفن حرام، والغناء والموسيقى هما مزامير الشيطان، والتمثيل هو نوع من أنواع الكذب، والكذب حرام، ولكن المصريين منذ زمن بعيد رفضوا هذا الكلام، وقالوا بلسان الحال إن الفن بفروعه، والدين بنسكه التعبدية يخرجان من نبع واحد، فالعبادات ترتقي بالنفس الإنسانية، والفن كذلك، وإذا رأيت فنا لا يرتقي بالإنسان فهو ليس فنا، وإذا رأيت دينا لا يرتقي بالإنسان فهو ليس دينا، لذلك جمع المصريون في رمضان بين العبادات والفنون، وياله من اجتماع عظيم.

كارم محمود

نعم وألف مليون نعم يا سيدي العزيز، ليس هناك تعارض بين الفن بمعناه الحقيقي والعبادة بمعناها الحقيقي، لذلك فإنني آمنت بأننا إذا أردنا أن نتخلص من التطرف فيجب أن نقدم للناس فنا راقيا يُهذب النفوس، وينطلق بالخيال، ويشحذ الهمم، ويرقق القلوب، ويكون ممتعا في نفس الوقت، وقد كان هذا في بلادنا منذ زمن بعيد، هل تريد أن تعرف التفاصيل، إذن هيا معي لننطلق في جولة عبر الزمن، سنعود إلى بداية الستينيات لنرى طفلا صغير بدأ وعيه يتشكل على مهل، وأول ما كان يسمعه في بيته هو صوت الراديو، وللراديو في تلك الفترة في شهر رمضان مكانة كبيرة، فلم يكن التلفزيون قد أخذ مكانته بعد، إذ كان يحبو خطوة خطوة كالطفل الوليد، ولذلك كان الراديو هو الجهاز صاحب التأثير الكبير على هذا الطفل، وياله من نهار عظيم عندما استمع طفلنا الصغير إلى أغنية يشدو بها مطرب صاحب صوت يشبه صوت الكروان، عرف فيما بعد أنه المطرب كارم محمود، جلس الطفل أمام الراديو مشدوها، الصوت جميل وساحر، إلا أن الذي جذب الطفل للغناء ليس صوت المغني فحسب ولكنه انتبه واهتم وتسمر بجوار الراديو لأنه كانت هناك حدوتة تدور حولها الأغاني التي يشدو بها المطرب، وكانت تشاركه في الغناء مطربة ذات صوت معبق بالحنان، هل تريدون معرفة الحدوتة التي تدور معها الأغاني؟ إنه أيها السادة الأوبريت الإذاعي (قطر الندى).

من هى قطر الندى إذن؟ وما هي قصتها؟ إنها قصة رائعة شدت خيال الطفل، فهي تتحدث عن مصر ذات يوم من أيام الزمن القديم، كانت مصر آنذاك دولة غنية جدا، فيها الذهب والخيل والأغنام والطعام الوفير، وكان النيل يجري في أرضها بلا انقطاع، حينها نشب خلاف بين والدها الأمير (خمارويه) وبين الخليفة العباسي (المعتضد بالله)، المهم أن الخلاف والمعارك انتهت بزواج سياسي، حيث تزوج المعتضد بقطر الندى، ويحكي المؤرخون أن (قطر الندى) ذهبت إلى بغداد ومعها جهازها وقوافلها تحمل الذهب والجواهر والأحجار الكريمة، ثم كان أن أقام لها والدها خمارويه عددا كبيرا من القصور في طريقها إلى بغداد كي تستريح كل فترة في قصر من القصور، ولك أن تعلم أن أحدا من المؤرخين لم يستطع المبالغة في وصف جهاز قطر الندى، لأن والدها خمارويه بالغ في جهازها بحيث سد الطريق على المبالغين، أقول لكم هذا الكلام بلا مبالغة.

بغداد في عصر الخليفة المعتضد

وفي بغداد انعقد الزواج حيث ظلت الحفلات والليالي الملاح، وقام المصريون بتوزيع الدنانير الذهبية على عوام الناس في بغداد ليشاركوهم فرحتهم، واستمرت موائد الطعام بحيث أصاب الناس الملل من هذا البذخ، لذلك قال بعضهم إن بغداد على مر تاريخها لم تر فرحا مثل هذا الفرح، وأظنها لن ترى لا هي ولا غيرها من بلاد العالمين، ولكن من الذي قام بتمثيل هذه الحدوتة التي تم تقديمها في هذا الأوبريت الإذاعي؟، أولهم صاحبة الصوت المميز، القادرة على نطق الحروف كما ينطقها العربي صحيح اللسان، إبنة رئيس مجمع اللغة العربية، نعم، هى يا سيدي، السيدة صفية المهندس، الإذاعية الكبيرة، ولمَّا كان هذا الأوبريت قد خرج إلى النور، أو قل خرج إلى مسامع الجمهور عام 1945 إلا أنه ظل يذاع عبر السنوات، ولكنه بالطبع لا يذاع عبر الأثير من أربعين عاما، إذ يبدو أنه كان مخصصا لكي يُمتع ويُعلِّم ويرتقي بنفوس الأجيال القديمة فقط!!.

صفية المهندس

أما في فترة الستينيات فقد كانت أفضل أوقات إذاعته هو نهار شهر رمضان، لذلك استمع له طفلنا الصغير وهو في الخامسة من عمره عام 1962 فانبهر به، خاصة وأنه عرف في مستقبل الأيام أن الذي كتب هذا الأوبريت هو الشاعر الغنائي الموهوب ابن الشرقية مرسي جميل عزيز، صاحب المفردات اللغوية الرومانسية، أما الذي قام بالغناء فهو عين أعيان مدينة الغناء المصرية كارم محمود، الذي وهبه الله خامة صوت لا تتكرر، ومعه في الغناء المطربة الكفيفة شافية أحمد المتمكنة في نقلاتها والمسيطرة على المقامات الموسيقية التي تؤديها، ولكن الغريب أن هذا الأوبريت اشترك في التمثيل فيه مع الإذاعية صفية المهندس الإذاعي حافظ عبد الوهاب، وهو الإذاعي الذي اكتشف عبد الحليم شبانة وقدَّمه للغناء في الإذاعة فأصبح عبد الحليم بعدها هو (عبد الحليم حافظ)، أما المخرج فقد كان (عبد الوهاب يوسف) الذي كان أيضا من المذيعين الأوائل في الإذاعة، ثم تنوعت موهبته بعد ذلك ما بين الإخراج والتمثيل، المهم أن الثلاثة أبطال هذا الأوبريت كانوا إذاعيين لا ممثلين، وكأن الممثلين في فترة الأربعينيات كانوا يعتبرون التمثيل في الإذاعة سينتقص منهم، ويبدو أن ذلك كان منهجهم لأن الممثل تعوَّد على أن يظهر بصورته أمام الجمهور، أما في الإذاعة فصورته ستظل محجوبة ولن يصل إلا صوته فقط، وبالتالي لن تصل حركات جسده وانفعالات وجهه وهو يؤدي الشخصية التي يمثلها إلى الجمهور، وبالرغم من ذلك اشترك في هذا الأوبريت الساحر الممثلة رفيعة الشال، وهى من أوائل من وافق من الممثلين على التمثيل بصوتها في الإذاعة، واشترك معها أيضا الممثلة الطيبة جمالات زايد، التي كانت أخف الممثلات ظلا، ولا يمكن أن ننسى دورها في فيلم (سر طاقية الإخفاء).

وفي اليوم التالي من نهار رمضان كاد طفلنا الصغير أن يطير من الفرح عندما سمع في الراديو أوبريت (قِسم وأرزاق)، وأنا على يقين أن معظم من هم في عمري يعرفون هذا الأوبريت، ويحفظون العبارة الشهيرة (يا ترى انت فين يا مرزوق؟)، ذلك المسكين الفقير الذي خرج بالسلطانية لكي يشتري الفول طعاما لأولاده، ولما كان الفقر قد اشتد عليه لذلك ما أن وجد سفينة ستبحر حتى ركبها والأرزاق على الله، لعله يجد رزقا لأولاده في بلاد بعيدة، وغرقت المركب، ونجا مرزوق ومعه السلطانية، وطبعا نتذكر صوت مرزوق بعد أن وصل إلى جزيرة، والجنود من حوله يقولون له: (إيييه اللي جابك هنا، عدو ولاَّحبيب؟)، وينتهي الأمر بالمفارقة التي تعرفونها من أنه يهدي لملك الجزيرة السلطانية فيتخذها تاجا، ويعود محملا بالذهب والحرير والمال الوفير فينقلب حاله من الفقر إلى الغنى، وإذا بجاره اللئيم عندما يعرف القصة يأخذ كل ما يملك من هدايا ويذهب لتلك الجزيرة ليعطي ملكها الهدايا النفيسة فلا يجد الملك إلا التاج (السلطانية) كي يهديها للجار اللئيم الذي قام بدوره الممثل العبقري صلاح منصور، الذي نطق قائلا وخيبة الأمل تحتويه: (السلطانية !!) .

عبد الفتاح مصطفى

عاش طفلنا الصغير مع صوت الممثل والمخرج الإذاعي محمد علوان وهو يؤدي دور مرزوق، وكره الجار اللئيم الحاقد، وفي مستقبل الأيام عرف أن الذي قام بتأليف هذا الأوبريت هو الشاعر الفذ الصوفي المُلهم عبد الفتاح مصطفى ففهم لماذا كان هذا الأوبريت مبدعا ومشوقا، فمن غير عبد الفتاح مصطفى يكتب بهذا التفوق والإبداع؟!، وتستمر الإذاعة في هذا الزمن في إذاعة الأوبريتات الغنائية في نهار رمضان، إلا أن الليل كان له سحره، وفي الليل كان طفلنا الصغير يعيش بين نارين، إما أن يخرج بعد الإفطار ليلهو مع أصحابه بالفوانيس ذات الشمعة المنيرة، وأصواتهم وهم يدعونه للخروج معهم تصيح بأغنية (حلو يا حلو رمضان كريم يا حلو)، ولكنه في ذات الوقت يتحرق شوقا للاستماع إلى مسلسل (ألف ليلة وليلة)، كان هذا المسلسل يطلق خيال طفلنا الصغير، فقد كان يضع من خياله المحدود تصورات للجبل الذي طار فوقه السندباد محمولا على جناح الجني، ثم إذا بخيال الطفل يضع تصورا غريبا للجني فيجعله طويلا كأنه نخلة كبيرة شامخة، ويضع في جسده العضلات، ثم كان خياله يقف عاجزا عن تصور جمال الأميرة التي خطفها الساحر الشرير، فيأخذ في النظر في وجوه صور الممثلات في المجلات التي في بيته، أألأميرة مثل هذه أم تلك؟، ثم يرفض كل الصور ويضع تصوره الخاص وهو يشعر بالحسرة على ما أصاب أميرته، وياله من شرير ذلك الذي خطفها، ولكن الأمير ينجح بمساعدة خادمه المخلص (فيروز) في القضاء على الشرير واستعادة الأميرة.

حكايات (ألف ليلة ولية) سلبت عقل الطفل الصغير

كانت حدوتة ألهبت حماس طفلنا، ولكن الذي أثار إعجابه أكثر هى حدوتة (دليلة المحتالة وعلي الزيبق) التي أذيعت في منتصف الستينيات، وكانت  الفنانة صاحبة الصوت المؤثر زوزو نبيل التي قامت بدور شهرزاد تروي قصته للملك شهريار (عبد الرحيم الزرقاني)، فقالت شهريار أن الزيبق كان ماهرا شاطرا صاحب حيَل وألاعيب، وقد استعان بمهاراته هذه ليقاوم السلطان الظالم ويقضي على ظلمه، وبهذه القصة كانت شهرزاد تحاول أن تدفع الملك لإقامة العدل في بلاده حتى لا يخرج من شعبه من يفعل به ما فعله علي الزيبق بسلطان البلاد وبمقدم الدرك الظالم أحمد الدنف، ونجح الإذاعي محمد علوان الذي أصبح مخرجا إذاعيا فيما بعد، أقول نجح في القيام بدور أحمد الدنف، أما عبد المنعم مدبولي (علي الزيبق) فكان مبدعا خفيف الظل وهو يدبر مقالبه ضد القاضي المرتشي والسلطان الأحمق، وكانت وداد حمدي هي دليلة المحتالة، وكأن الله وهبها صوتها هذا لكي يكون هو صوت دليلة، وقد ضحك طفلنا الصغير من حماقة السلطان (عنجر البظاظ) الذي لم يعرف إلى الآن الممثل الذي قام بشخصيته، وتخيله محني الظهر جاحظ العينين، وتعجب من جهل هذا السلطان وضيق أفقه، وامتلأ قلب طفلنا غيظا من سلطانٍ يترك بلده نهبا للفاسدين الذين ساموا الشعب سوء العذاب والمهانة، ولكن علي الزيبق (عبد المنعم مدبولي) ينجح في تدبير المقالب لهذا السلطان وحاشيته مما يبهج خاطر الشعب المغلوب على أمره.

كانت أيام رمضان في تلك الفترة الذهبية من أزهى فترات حياة طفلنا الصغير، حيث قامت الإذاعة بمسلسلاتها وأغانيها وأوبريتاتها وتمثيلياتها ذات السهرة الواحدة، أقول قامت بإطلاق خياله وإكسابه عاطفة إنسانية وانتماء لوطنه وحبا للفنون، وأخذ هذا الطفل عندما شب عن الطوق يبحث عن وسيلة فنية تساعده في تربية أولاده بحيث يكتسبون ما اكتسبه في طفولته، وعندما لم يجد ذلك في إذاعة ولا تلفزيون ولا سينما، أصبح هو ذات نفسه وسيلة إذاعية حيث أخذ يروي لأطفاله تلك الحواديت التي عرفها في طفولته، ويزيد عليها من خياله قصصا، ويروي لهم حكايات ألف ليلة، ويعيد على مسامعهم قصة السلطانية ومرزوق الذي عاد من الجزيرة بثروة طائلة، ثم وجد هذا الرجل منذ سنوات قنوات اليوتيوب وهى تعيد على مسامعنا قصص ألف ليلة وأوبريتات الزمن القديم، فأوصى أولاده أن يجعلوا أولادهم يستمعون لتلك الثروة الفنية الإنسانية، فهي ترتقي بالنفوس ولو كنا في شهر رمضان، شهر العبادات، فالفن عبادة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.