رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عصام السيد يكتب : الإرهاب و الكباب .. نظرة أخرى

تفنن المواطن فى التهرب من التعامل مع الحكومة في الفيلم

بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد

لم يسجل لنا التاريخ فيلما أو مسرحية أو عملا فنيا تسبب – بشكل مباشر – فى قيام ثورة أو فى هدم نظام ، و تقويض مجتمع . من الممكن أن يؤدى عمل فنى إلى تغير ما ، لكنه لا يقلب الأمور رأسا على عقب ، فمثلا تسبب فيلم (جعلونى مجرما ) فى إعادة النظر للسابقة الأولى ، و بسبب فيلم ( أريد حلا ) تم تعديل قانون الأحوال الشخصية ، تلك هى حدود تأثير الفن ، أما تأثيره سياسيا فضعيف ، لأن الأفلام التى تنتقد النظام غالبا ما تأتى بعد تغييره و ليس قبل ، فموجة أفلام نقد المجتمع الملكى جاءت بعد 23 يوليو ، و موجة أفلام نقد النظام الناصرى جاءت فى عصر السادات ، و لم يجرؤ نظام على السماح للفن بنقده إلا فى فترات قصيرة  خاطفة بعد النكسة و أحيانا فى السنوات الأولى لحكم الرئيس حسنى مبارك ، و من المؤكد أن هذا ما مد فى فترة حكمه و جعلها تطول إلى 30 سنة ، فالتنفيس عن آلام الناس يطيل عمر الأنظمة ، و لكن عندما تصاعد القمع و الكبت و التضييق فى ظل حكومة لا يحاسبها أحد ، ثار الناس و ظهرت بوادر تلك الثورة بداية من 2006 بسبب الغلاء ، و ليس بسبب فيلم الإرهاب و الكباب الذى ظهر قبل تلك الوقائع بحوالى 14 عام و كأنه كان يحذر منها ، و لكن لم تنتبه الحكومة.

و لو افترضنا – جدلا – أن الفيلم كان سببا فى قيام الثورة ، فما العيب ؟ ألسنا نمجد هذه الثورة و نمتدحها و نضعها فى مقدمة دستورنا ؟ ، و حتى لو حاول البعض استغلال أحداث الثورة فى تفكيك الدولة فلماذا نعيب على الفيلم ؟ و لو كان حقا سببا فى الثورة فعلينا أن نشكره ، فلقد كانت الثورة تحقيقا لتغيير طال انتظاره ، و مقدمة لما نحياه الآن و نطمح فى جنى ثماره . و لكنى لا أرى رابطا بين الثورة و الفيلم ، ذلك أن الفيلم لم يتسبب فى تحويل الدولة إلى خصم ، لأنه اختصم الحكومة لا الدولة ، بل إن صناعه – و بالأخص مؤلفه الاستاذ وحيد حامد – كانوا من الحريصين على الدولة ، و ممن عرضوا حياتهم للخطر بسبب دفاعهم عن مدنيتها و الوقوف فى وجه من حاولوا اختطافها ، و لكن الحكومة فى ذلك الوقت هى من وضعت نفسها فى موضع الخصومة ، لأنها لم تقم بواجبها و صميم اختصاصها فى خدمة الشعب ، و تسهيل  الأمور على المواطنين ، و أن تتابع أداء موظفيها لتتأكد من أنهم يقومون بواجباتهم – فهكذا تفعل الحكومات فى البلاد المتقدمة.

لا أرى رابطا بين الثورة و الفيلم

و بالتأكيد أن سر نجاح الفيلم جاء من صدق تعبيره عن الشعب فى تلك الفترة و افتقاده للخدمات الأساسية ، عن معاناته اليومية فى المواصلات و مع التليفونات ، عن أزماته المادية فى ظل أجور لا تتناسب مع الأسعار ، عن مهاناته المتكررة فى كماين الشرطة و فى أقسام البوليس ، و عن عذاباته داخل المصالح الحكومية لإنهاء أقل الأوراق شأنا.

نعرف بالطبع أن الموظف أيضا مواطن ، و لكنه مواطن يمثل الحكومة ، و عليها أن تراقب أداؤه و تتأكد أنه يقوم بدوره ، خاصة فى ظل ظروف مصر الخاصة و تراثها العتيد . فلطبيعة مصر التى تعتمد على النهر الذى هو مصدر حياتها ، و حجر الزاوية فى وجودها كان لابد من وجود من ينظم أمور استغلال النهر ، و يمنع الجور بين المستفيدين منه ، و لذا كانت مصر سباقة الى اختراع ( الحكومة ) ، و أعتقد أن اللفظ المستخدم لتسمية هذا الاختراع جاء من أهمية ( الحكم ) بين الناس بمعنى ( العدل ) بينهم ، و لكن بمرور السنين و بتعاقب الحكام ، صار لفظ الحكومة يعنى ( التحكم ) فى الناس . و مع تطور الحياة و مع اشتداد تحكم الحكومة فى النهر و سيطرتها عليه تشبه الحاكم بالالآة ، ثم صار واحدا من تلك الآلهة و تبعه آلاف من الآلهة الصغار .

و لابد ان نعترف أن موجات الاستعمار التى تتالت على مصر بداية من الهكسوس و حتى الإنجليز كانت تزيد من عزلة الحكومة و ترفع قدرها و تميزها عن بقية الشعب حتى لو كان بعض أفرادها منه ، و صنعت لنفسها تاريخا من القمع صاحبه تاريخ من الفساد أيضا . و حتى عندما جاءت حكومات من أبناء الشعب كان أفرادها مميزين بحكم أصولهم و ثرواتهم ، و لعل اعتراض الملك فؤاد على عضوين فى أول وزارة يرأسها سعد باشا زغلول أنهم لا يحملون لقب (باشا) توضح لنا ذلك التصور عن ضرورة تفوق أفراد الحكومة عن أفراد الشعب ، و لكن إصرار سعد – كزعيم شعبى اتت به ثورة – أن يصدر المرسوم الملكى بالوزارة و فيها اثنان يحملون لقب (أفندى) كان حاسما لذلك الخلاف.

و برغم اختلاف الأمر كثيرا بعد ثورة يوليو – فأفراد الحكومة و العاملين بها بداية من الوزراء و حتى أصغر عامل من نفس الطبقة لا يميزهم حسب أو جاه أو ثروة – و لكن لم ينتهى داخل أفراد الحكومة الإحساس بالتفوق و محاولة إثبات الذات عن طريق عرقلة مصالح الجماهير ، و فى الأدبيات و الأعمال الفنية طوال فترة الستينات نرى نقدا للموظف البيروقراطى الذى يتعامل على أنه المانح و المانع ، و أوضح مثال للنقد الموجه لتلك الفئة نراها فى أغنية أحد أعياد الثورة للعبقرى صلاح جاهين ، حيث وضع تصورا عما يجب أن يكون عليه ( أفراد الحكومة ) : ناس سكر على مكاتبها ، تخدم بالروح لما تعامل.

صلاح جاهين

أتت الخصومة مع الحكومة ( و ليس الدولة ) بسبب نسيان أفرادها أنهم من الشعب ، و أنهم فقط مفوضون لخدمته ، فى مقابل أن يتحمل الشعب أجورهم ، و لكن أفراد الحكومة صنعوا لأنفسهم امتيازات و استولوا على حقوق ليست لهم ، ليصبحوا طبقة أعلى من بقية الشعب ! حدث هذا على مر العصور ، و لذا احتفظ لنا التاريخ بقطع أدبية رائعة تسجل تعنت موظفى الحكومة ، بداية من شكوى الفلاح الفصيح فى العصر الفرعونى ، مرورا بـ (الفاشوش فى حكم قراقوش ) فى نهاية الحكم الفاطمى إلى هز القحوف فى شرح قصيدة ( أبى شادوف فى عصر المماليك ) ، حتى وصلنا فى العصر الحديث إلى (حديث عيسى بن هشام و ليالى سطيح ) ، إلى أن جاء صلاح جاهين بمقهى الموظفين ، و رأينا ( فلاح كفر الهنادوة ) لأحمد رجب و مصطفى حسين ، و حكومة و أهالى لبهجت عثمان و غيرها من الأعمال .

سر نجاح الفيلم جاء من صدق تعبيره عن الشعب

من خلال كل تراث التعالى هذا تعامل الموظفون مع المواطنين على مر العصور ، و استقبل المواطنون هذا التعامل و كأنه قدر لا مفر منه ، و تفنن المواطن فى التهرب من التعامل مع الحكومة و التحايل عليها بداية من ( الشاى بالياسمين ) و حتى التزوير. و لم تقم الحكومة بدورها فى محاسبة سلبية موظفيها و تهاونهم فى حق المواطن ، لذا اختصمها المواطن.

أما سلبية المواطن أو عدم تقديره للأمور فلتلك أسباب أخرى يطول شرحها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.