رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

إبراهيم رضوان يكتب: حكاية (حلمي شرشر).. (1)

بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان

لاحظت فجأة حركه عند باب الدخول الى المعتقل من الخارج.. اقتربت من المكان فرأيته.. شابا وسيما جدا يملي بياناته للمكلف باستلام المعتقلين الجدد.. كان واضحا الاهتمام به بشكل أثار ريبتى.. إنه (حلمي شرشر).

انتهي المعتقل الجديد (حلمي شرشر) من بيانات الاستمارة الخاصة به.. واتجه مع ضابط صغير السن لزنزانة انفرادية ليظل بها حتي الصباح.

اتجهت ناحيتهما، سلمت عليه و سألته عن إسمه: فقال حلمي.. اسمى (حلمى شرشر).. منين يا حلمي؟

من الإسكندرية، لم يعطني الضابط الذي يقوده فرصة لإكمال الحديث.. فتح له باب الزنزانة الانفرادية ليدفعه بداخل ظلمتها مغلقا الباب.

كنت مشغولا بتساؤل عن هذه الكميه الضخمة التي أحضرها معه (حلمى شرشر) من الجاتوهات والتورتات، وقد دخل بها إلى الزنزانة صامتا وفي غاية الأدب.. كنت أتمنى حينها أن أكون رساما أرسم خطوته الأخيرة أثناء ولوجه باب الزنزانة.

قدم خارج الزنزانة.. قدم بداخلها.. وجهه الخالى من تعبير محدد سوى الطيبة.. حمولة الجاتوهات الحريص عليها بين يديه.. كانه يعبر العالم.. و كأنه بتشبثه بالجاتوهات يتعلق بطعم حلاوة سعادة مضت في الخارج.

أو هي حمولة حلاوة يستعين بها (حلمى شرشر) على مرارة هائلة يتوقعها بالداخل.. ظللت ساهرا حتي الصباح كعادتي أسير متنقلا من أول العنابر حتي آخرها هربا من الحشرات التي تزعجني طول الليل و تصيبني بحساسيه هائلة!

كنت طوال الليل أتفكر في تفاصيل لوحة (حلمى شرشر).. تذوب اللوحة فجأة في رأسي أبياتا من شعر تقطر حزنا و مرارة.. السادسة صباحا تم فتح البوابة التي تفصل بين العنابر.. فتح فناء المعتقل الذى يحيطه العنابر الفردية.

بمجرد فتح الزنزانة خرج (حلمى شرشر) سريعا كحيوان حبيس يشهق

زنزانة الزائر الجديد

ذهبت إلي أحد العساكر من الذين أعرفهم راجيا أن يفتح زنزانة الزائر الجديد، بمجرد فتح الزنزانة خرج (حلمى شرشر) سريعا كحيوان حبيس يشهق في قوة شهقات من يستجدى الحياة مرة أخرى.

أحسسته يريد احتواء هواء الفضاء كله في رئتيه.. كان محروما من الأوكسجين لضيق الزنزانة الأقرب في الدخول اليها للمرة الأولى إلى ضمة القبر.. أحضرت له بيجامة من الإدارة.. أعطيت له الفوطة الخاصة بي.

قدته حيث دورات المياه في نهاية العنابر حتي يستحم و يرتدي البيجامة الجديدة، وهى بيجامة صفراء جاكتها مقفول دون أزرار.. تذكرنى بالقميص الذى يقيدون به نزلاء مستشفى المجاذيب.. البيجامة تحتاج إلي توضيب للمقاس.

أمسكت بيده متوجها به حيث معتقل آخر كان يعمل ترزيا قبل اعتقاله.. قلت (حلمى شرشر) بمودة متعاطف : ازيك.. عامل أيه؟.. الحمد لله.

جاي في إيه: جاي في عربية ترحيلات وحراسه مشدده –  أقصد جاي في قضية ايه ؟.. و إيه كمية الحلويات اللي معاك دي كلها؟.. احكيلي؟

أنا خريج معلمين..على فكرة أنا من شهر واخد جائزة المعلم المثالي.. والوزير كرمني!

 شاطر خالص.. أومال إيه اللي جابك هنا؟

هو احنا فين؟.. دا سجن دا ولا إيه؟

دا يا سيدى معتقل طره السياسي.. استدار بوجهه ناحيتى في استغراب : السياسي؟.. أنا عمري ما كان ليا دعوة بالسياسة.

أمال يعنى جيت هنا ازاى يا حلمي؟..بتمشى وانت نايم يعنى؟

منا هقول لك أهو: امبارح اللي أنا شرفت فيه هنا.. كان عيد ميلادي.. خلصت الدروس الخاصة، وروحت اشتريت كمية الجاتوهات والتورتات علشان تقضي الجماعة اللي ها يحتفلوا معايا بعيد الميلاد.

البيت قريب من محل الحلواني.. بيننا وبينه يادوب 3 محطات..كان ممكن أمشيهم.. بس أنا معايا شيلة.. كذا دستة جاتوه.. و كذا تورتاية.

أيوه: مال دا و مال السياسة ؟

ما أنا هكمل لك أهو: ركبت التورماي من الباب اللي قدام وقفتي.. مفيش ولا كرسي فاضي.. قلت مش مهم.. المسافه قصيرة وكلها دقيقتين وانزل.. الكمساري جاني وقاللي تذاكر.. أعطيته قرش صاغ..قاللي لسه تعريفه.

قلتله ليه؟.. قاللي انت راكب درجه أولي.. قلت له أنا نازل المحطه اللي جاية.. قاللي كنت انزلها من درجه تانيه.. قلتله هو أنت عايز تاخد مني تعريفه زياده وخلاص.. هو أنا هاصرف على الحكومه كمان.

قلت كده وسط الترماى؟

أيوه.. كمل .. كمل

قفه مليانه عيش وفطير باين من ريحته

قفه مليانه عيش وفطير

واحد فلاح على صدغه عصفورين قاعد على كرسي وجنبه قفه مليانه عيش وفطير باين من ريحته.. الظاهر كان رايح يزور ابنه اللي في الجامعه.. أو رايح يزور قرايب له في اسكندرية.

 ما علينا: كمل

الفلاح ده سمعني وأنا بقول: هو أنا هاصرف على الحكومة، وركبه مليون عفريت.. قاللي وهو بيجعر: أنت بتشتم الحكومه ياله.. قلتله بأدب وانت مالك ومال الحكومة؟

قاللي أنا من الحكومة.. الناس ضحكت وأنا ضحكت معاهم، وحتي الكمسري ضحك.. قاللي بتضحك على إيه يا حمار.. والله أنا ممكن أنزل معاك دلوقتي واخدك ع المركز وأسجنك!

قلتله وأنا بضحك ياللا تعالي معايا المركز واسجنني.. الجاهل دا شال قفته ومسك إيدي بإيده التانية اللى عامله زى خف الجمل ونزل معايا يسأل عن قسم شرطه قريب.

وصلنا القسم.. دخل على المأمور وأنا معاه.. عايز أضحك بس كتمت الضحك.. سلم علي المأمور وخده بالحضن.. قال له أنا فلان الفلاني.. من عزبة كذا.. مركز كذا محافظة كذا.. عضو في الإتحاد الإشراكي العربي..ومعايا كارنيه.. أهو الكارنيه يا سعادة البيه.

و أنا كمان عضو في منظمة الشباب العربي.. والراجل ده يا باشا لقيته قاعد يشتم الحكومة في التورماي قدام الناس.. وضحك الناس على الحكومة.. يرضى سعادتك الكلام دا؟

المأمور قاله طلباتك ايه؟.. رد الفلاح.. أعمله محضر.. المأمور نده علي أمين شرطة، و هو الأمين وأخدنا سأل الفلاح ريحة ايه اللى معاك يا حاج؟

قال له الريحة دي ريحة فضلة خيرك فطير مشلتت وقرص.. الأمين راح مد إيده جوه القفه وطلع منها فطيرة وشوية قرص و جبنة قديمه وعيش بيتي.

الامين نده علي زمايله وقعدوا كلهم ياكلوا.. بص الفلاح عليا وقاللي عاجبك كده يا وش الفقر؟.. ما ردتشي عليه.. رغم إني كنت عايز أقوله: مش انت حكومة وهما حكومة.. إيه اللي مزعلك؟!

ما خدوش بالهم من الجاتوهات والتورتات اللى معايا

ما خدوش بالهم من الجاتوهات

حمدت ربنا انهم ما خدوش بالهم من الجاتوهات والتورتات اللى معايا. المأمور اتصل بأمن الدولة و قالهم: مسكنا واحد بيشتم في الحكومة.. وهمه خمس دقائق ولقيت قدام القسم اتملي عربيات وعساكر كتيرة جدا.. كلبشوني وجابوني على هنا بدون ما حد يسألني عن أي حاجة.

أثناء الحوار لاحظت (حلمى شرشر) يلتفت ناحية أحد المعتقلين (علي محمود، مدير وكالة الأنباء الأمريكية).. كعادته متجها ناحية دورة الميه بالبنطلون الجينز والقميص الأمريكاني، و هو يدس فرشة الأسنان في فمه علي هيئة بايب.

ألقى على محمود الصباح.. بدا كعادته يسمعنى القصيدة اللي كتبتها له في رواية يكتبها وكأنه يعترف لى يوميا بجميل كتابتها له، بينما (حلمى شرشر) يتابع قرائته القصيدة مندهشا لكل شيء:

بدلتي من غير زراير..

جزمتي من غير رباط

 ماشي ألف الدنيا حاير..

أملي قلب الناس عياط

……………………..

واتسأل يا شاب شايب..

في بلدكوا السقا مات؟

أحني راسي للغرايب..

واترمي ف بحر السكات

……………………..

وخنزير وادى الجنون..

 لو لحظه تشتكوا يبعت رجال قانون

 علشان يفبركوا

……………………..

يا محقق لو تحقق..

بالصدق

تبقى واعى مش راضى النور يشقشق

فى وجود جيش الأفاعى

……………………..

داخل شايل سلاحُه..

 فى عيونه

إنحطاط رجال قانون يبيحوا..

الشطب.. واللواط

(براءه)..

أيوه.. لكن..

راجع للسجن تانى الجو فى مصر داكن..

والجار.. صبح أناني

……………………..

ممنوع إنك تعبر..

عن أى شئ بيجرى مطلوب إنك تِصَبَّر

الناس على عيشه مُرة..قلم النجاسه يسأل..

صوت المظلوم يُجيب والتوصيات بتقتل الشاعر النجيب

……………………..

تحقيق رخيص..

ولونه يشبه شعراوى جمعه

حاولوا للروح يهينوا..

فبقينا ليكى شمعة

……………………..

يا محقق.. خلى بالك..

بكره الإله يحاسبك يا عايم فى انحلالك

 الانحلال..

يناسبك

……………………..

(محقق) مخه (أجلح) ..

 بيدنس الحياه وياه ورق

لا يصلح..

إلا لدورات مياه

……………………..

حقق.. وفىّ دقق..

واضربنى بالسؤال أنا شاعر عندى مبدأ

وانت جبال ضلال

بنى آدم؟

……………………..

لأ .. لا يمكن..

كون غير ديب خبيث..

جوه المجارى تسكُن

لأنك شئ رخيص

……………………..

يا قاضي..

إيه جرالك؟

 وراح العدل فين الجيفه جوه نيلك..

والميّه فيها طين

……………………..

سؤال ومعاه إجابة..

مكتوبه بإيد جبان

يا دعوه مستجابة..

بِيدِى كل الفيران

……………………..

يا محقق زور يا بايع..

مبادئك والضمير

فى كل حته ضايع..

لوفاقد المصير

……………………..

يا مصر ليه تسيبي..

الدفه لأفاقين

نور الرحمن حسيبى..

 والمصطفى الأمين

……………………..

من كتاب (مدد.. مدد)

سيرة ذاتيه لبلد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.