رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد عبد الواحد يكتب: محمد رشدي.. يعوض الله يا عدوية (2)

بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد

أثناء عودة المطرب الناشئ محمد رشدى من إحدى زياراته إلى دسوق، و بينما هو جالس في محطة طنطا ينتظر القطار إذا بصوت يناديه: يا فنان.. يا فنان؟

انت بتنادى عليا؟

هو فيه فنان غيرك هنا في المحطه؟

بس ايه اللى عرفك انى فنان؟

انت مش معاك عود؟.. تبقى فنان.

طب مش نتعرف؟

وبينما يمضي بهما القطار ناحية القاهرة.. كان هو ومحمد رشدي يتناولان السميط والدقة كان اللقاء الأول له مع عبد الحليم شبانة (عبد الحليم حافظ).. والذي كتب لرشدى عنوانه في ورقة صغيرة (السيدة زينب – بركة الفيل) ليتكرر اللقاء كثيرا.

إقرأ أيضا : تعرف على الأغنية التى تنازل عنها (الموجي لبليغ حمدي) وغناها محمد رشدي

يشارك محمد رشدى بالغناء في حفل شعبى صغير يحضره بالمصادفة المذيع (على فايق زغلول) ليرتب له المشاركة في اختبار الإذاعة وقد رأس لجنته الموسيقار محمد القصبجى ليجتازه ويتم تعيينه في الإذاعة كمطرب براتب 17 جنيه عن كل أغنية. تتوالى من الإذاعة أغاني محمد رشدى الناجحة حتى تنفجر قنبلته (قولوا لمأذون البلد) من تلحينه لتصبح الفقرة الأساسية في كل حفل خطوبة أو زواج في كل بيت مصري في المدن والريف..

في صبيحة 23 يوليو 1952، كان محمد رشدى تائها في أروقة الإذاعة وقد انقلبت رأسا على عقب مع أحداث الثورة التى مازالت أخبارها تتوالى إلى الشعب عبر أثيرها.. كان السادات لتوه قد انتهى من القاء بيان الثورة الشهير، وأثناء خروجه من الاستوديو يتناهى الى سمعه توسلات محمد رشدى للمسؤلين بأن يغنى لحاجته الماسة إلى الـ 17 جنيه مقابل الأغنية ليسأله السادات: (مش انت اللى بتغنى ماذون البلد؟).

أيوه يا افندم.

محمد رشدي أكل سميط مع عبد الحليم حافظ

محمد رشدى يهرع للاستديو

طب خلوه يغنيها.. علشان النهارده الفرح الكبير للبلد كلها، ويهرع محمد رشدى إلى الاستوديو لتمتلئ آذان كل المصريين والعرب – المصغية لبيانات الثورة وأخبارها – بأغنية (مأذون البلد).. فتشحن الوجدان الجمعى المصرى والعربى بالفرحة والتفاؤل بالعهد الجديد (بصرف النظر عن حقيقة ما هو قادم مع هذا العهد).

يعترف محمد رشدى بنقطة ضعفه في هذه البدايات وهى تقليده للرواد (محمد عبد المطلب – الكحلاوى.. إلخ) دون أن يجد غضاضة في ذلك، إلى أن أدرك فداحة هذا الخطأ، ذات يوم كان يستمع فيه إلى أغنية جديدة لعبد الحليم والذى سأله بعدها: ايه رأيك يا محمد؟

انت فيك حاجه يا عبد الحليم من حليم الرومى (والد ماجدة الرومى)، ينتفض عبد الحليم صارخا: أنا مش شبه حد يا محمد.. أنا لون.. أنا لون.

إقرأ أيضا : في ذكرى (محمد رشدي) نكشف سر تنازله عن أغنية (الهوى هوايا) لعبدالحليم

وتذكر محمد رشدى أنها نفس الصرخة التي صرخها عبد الحليم في وجه جمهوره الذى اعترضه بالصفير والسخرية عند خروجه عليهم للمرة الأولى بأغنية (صافينى مرة) مطالبين إياه بأداء أغاني لعبد العزيز محمود أو عبد الوهاب فيواجههم متحديا بالرفض، و بنفس صرخته: أنا لون.

ألقت صرخة عبد الحليم في وجدان محمد رشدى بذور التساؤل: من انا بالضبط؟، (هل انا محمد عبد المطلب؟.. هل أنا محمد الكحلاوى؟، ليدخل في مرحلة التيه، يلعب الورق في سهراته في شارع محمد على بينما يتابع في حسرة صديقه عبد الحليم وهو يكمل مشواره بسرعة الصاروخ، ليمتزج التيه مع الإحباط إلى الدرجة التي أصبح فيها يتهرب من ترشيح الإذاعة له للعديد من الأعمال الغنائية إلى أن قابله حسن الشجاعى ذات مرة في أروقة الإذاعة مكررا في أذنه صرخة عبد الحليم ولكن بكلماته الخاصة: شوف يا ابنى.. أنا بقال.. عندى صنف جبنه اسمه عبد الوهاب، وصنف تانى اسمه عبد المطلب، ولو بعت اتنين عبد المطلب ابقى بقال خايب: إذا كنت عاوز تبقى صنف اسمه محمد رشدى هقف جنب، وياريت كمان تبطل تتنك كده في وقفتك و مشيتك زى عبد المطلب.

محمد رشدي قضى عدة سنوات في الضياع

محمد رشدى وسنوات الضياع

كان عبد المطلب في نفس الفترة يشارك محمد رشدى  ذات الضياع، فهو الآخر لم يكن ملتزما بمواعيده في تسجيلات الإذاعة مما أثار الحنق عليه، ليلحق محمد عبد المطلب بمحمد رشدى في سهراته في شارع محمد على، بل و أصبح يقيم مع رشدى في بيته إقامة دائمة يسامره بقدرته الهائلة كحكاء فيسرد له أخبار مشاهير المجتمع وتفاصيل علاقاته العاطفية مع سيدات الطبقات الراقية.

في يونيو 1959 حملت كل عناوين الصحف والمجلات خبر حادث الأوتوبيس المروع، فبعد أن أنهي مجموعة من الفنانين ومن بينهم محمد رشدى حفلا غنائيا – وأثناء عودتهم – تعرض الأوتوبيس لحادث ضخم لقت على أثره المطربة ذات الصوت الاسمهانى (نادية فهمي) مصرعها وهي جالسة في مقعدها الذى تبادلته مع رشدى قبل الحادث بثوانى، بينما يتم نقل محمد رشدى بإصاباته البالغة في الساقين وجروح الوجه العميقة الى المستشفى العسكرى ليستمر بعدها طريحا للفراش لمدة تقارب العام.. عام كان مجالا واسعا لطرح الأسئلة الوجودية على النفس، وللبحث عن اللون المفقود للعودة إلى الوجود الإنساني والفني.

إقرأ أيضا : فى ذكرى ميلاده .. (محمد رشدي) يطلب (حلمي بكر) فى بيت الطاعة !

ورغم أن هذه العودة كانت على عكازين يستند إليهما عند ذهابه إلى الإذاعة، إلا أنها كانت عودة مشحونة بالإرادة الهائلة، لتتوالى الأغانى بمعدل أغنية جديدة كل شهر تقريبا/ مع تنوع في الشعراء والملحنين، من هذه الأغنيات (سبقنى واشتكى، من العين دى، يا ام الغويش).. كان هذا السيل من الأغنيات بتنوعها دفعة قوية شهر بها محمد رشدى عكازيه في وجه العدم دافعا إياه عن التهامه في جوفه المظلم.

يدخل محمد رشدى الى مرحلة تالية وهي مرحلة (أدهم الشرقاوى).

يتذكر محمد رشدى : (طلبنى محمد حسن الشجاعى لمقابلته في الإذاعة، ذهبت إليه على عكازين ليبلغنى ترشيحه لى لغناء ملحمة (أدهم الشرقاوى) بعد ان رفض ترشيحات لمنافسيه سواء (محمد قنديل أو كارم محمود)أ أو حتى استاذه محمد عبد المطلب، وأبلغه (الشجاعى) أنه وقف في وجه كل هذه الترشيحات مراهنا عليه.. عاد رشدى إلى بيته حاملا ورق الملحمة وعند فضه كانت المفاجأة: الملحمة تحوى 85 موالا دراميا عليه أن يلحنها ويغنيها كلها!

محمد رشدي حول شقته لورشة لملحة أدهم الشرقاوي

شقة محمد رشدي

خلال ساعات كانت شقة محمد رشدي بجاردن سيتى قد تحولت إلى ورشة تضج بفرق الموسيقى الشعبية الجوالة في ربوع مصر، كما أنه سمع من المطربين الشعبيين المغمورين كل مواويلهم التي ينشدونها في الأفراح والموالد، كما استعان بتجارب الرواد محمد العزبى والحاجة زينب المنصورية.

استعان محمد رشدى بمجلة (اللطائف) التي كانت تتابع بالتفاصيل قصة ومغامرات ادهم الشرقاوى، وكانت هذه الشخصية من خلال مجلة اللطائف شخصية غامضة ذات ميول إجرامية، هرب من السجن المؤبد أثناء اضطرابات ثورة 1919 واختفى في مكان ما بالقرب من قريته  لينضم إليه عدد كبير من الاشقياء، وكان – بحسب سرد مجلة اللطائف – يبتز العمد و الأعيان و كبار التجار ليلا أو نهارا ليسلبهم أموالا طائلة يوزعها على رجاله وكان للفقراء منها نصيب دائم، وقد تخاصم (أدهم) مع أحد أقربائه والذى يعمل خفيرا فأوشى به إلى البوليس، وقد دلهم على مكانه ليقتلونه برصاصتين وسط (غيط الدرة)!

دوت ملحمة أدهم الشرقاوى في الآفاق،و أصبحت تذاع دوريا بعد كل صلاة جمعة، كل المصريين ينتظرون الملحمة لمتاعة مصير (أدهم).. يقود دراما الملحمة مووايل محمد رشدى، والتي رغم أنها من غنائه وألحانه إلا أن المخرج (يوسف الحطاب) قد أهمل وضع اسم محمد رشدى في المقدمة مكتفيا بذكر أبطالها حتى هاجم الكاتب (كمال الملاخ) يوسف الحطاب فاضطر الآخير إلى وضع اسم محمد رشدى في مكانه من المقدمة.

انتهت ملحمة (أدهم الشرقاوي) بموال مؤثر حول خيانة (بدران) صديق أدهم، خانه و قتله أيضا ليتصل بعد أيام الصحفى (فاروق عبد السلام) برشدى مضطربا: إلحق: بدران طلع لسه عايش وهيرفع عليك قضية.

فاروق عبد السلام رافق محمد رشدي رحلته إلى بدران

محمد رشدى وفاروق عبد السلام

على الفور يسافر محمد رشدى مع الصحفى فاروق عبد السلام ومصور صحفى إلى قرية زبيدة – وهى بلدة أدهم الشرقاوى – للتفاهم والتصالح مع بدران، وهناك يجرون مقابلات صحفية مع أهل أدهم الشرقاوى ليسردوا عليهم قصته الحقيقية والتي تتناقض تماما مع ما تناولته مجلة اللطائف، فقد ذكر عم أدهم الشرقاوى لرشدى أن (بدران) رجل صالح وصديق مخلص لأدهم، وأنه كان بحكم عمله كشيخ للغفر يضلل البوليس عن مكانه حتى اكتشفوا ذلك فتم فصله من عمله، وأنه بعد أن قتل البوليس (أدهم) ومنذ يومها وعلى مدار الأربعين عاما الماضية لم يخرج (بدران) من المغارة التي قتل فيها (أدهم) وأنه يبكيه كل ليلة، وبالفعل اتجه محمد رشدى والصحفى فاروق عبد السلام إلى المغارة ليتقابلا مع (بدران) ليسألهم باكيا في تأثر بالغ: بقى تقولوا لمصر كلتها في المسلسل إن أنا اللى خنت أدهم ؟.. دا أنا عشت معاه عمره كله خطوة بخطوة، وكمان بتقولوا في الراديو إن أنا اللى قتلته.. و كمان قتلت نفسي: بقى دا اسمه كلام يا ناس؟

بعدها ذكر بدران حقيقة قصة أدهم.. فقد كان عم أدهم على خلاف مع إقطاعى قريب لأحد الوزراء وقد جار على حدود أرضه، و حينما اعترض استأجر قاتلا صوب على (عم أدهم) رصاصتين وهو يعتلى حصانه فأرداه قتيلا، كان أدهم حينها شابا يافعا أقسم في القرية على قتل الإقطاعى الذى استأجر بدوره قاتلا ليقتل أدهم فسبقه أدهم وقتل هذا القاتل ثم قتل الاقطاعى نفسه ليدخل أدهم السجن ليقابل هناك  قاتل عمه فيقتله هو الآخر.  

ذهب محمد رشدي للاعتذار لبدران

محمد رشدى يعتذر لبدران

وفي أحداث ثورة 1919 هرب أدهم مع المسجونين من السجن، اختبأ في هذه المغارة، كان (أدهم) يصلى ويصوم ولا يدخن أو يشرب الخمر، وكان في آخر أيامه يقوم على خدمته شاب أبله أرسله أدهم بجنيهين ليشترى الطعام فشك البقال في مصدر هذه الجنيهات مع أبله، وسأله عن مصدرها فأخبره إنها تخص أدهم الشرقاوى  ليبلغ البقال  البوليس الذى تنكر رجاله في جلابيب فلاحين وأقنعوا الأبله أنهم أصدقاء أدهم فقادهم إليه، حيث كان نائما ممسكا ببندقيته فضربه (الأونباشى محمد خليل) برصاصه في ظهره لينتفض أدهم واقفا ليرد ببندقيته  فيعاجله الأونباشى برصاصة ثانية في صدره لترديه قتيلا!

وكانت لهذه الأحاديث الصحفية ضجة، فقد تبدلت النظرة لبطلى الملحمة (أدهم وبدران) إلى النقيض.. فلم يعد أدهم مجرما وإنما بطلا شعبيا، ولم يعد بدران خائنا وإنما مثالا للوفاء والإخلاص.

ولكى يعتذر محمد رشدى لبدران رتب لاستضافته في برنامج تليفزيونى – بعد أيام من افتتاح مبنى التليفزيون المصرى – ليعيد سرد كل ماسبق، وحينما طالبه محم رشدى بأي ترضيه أصر بدران أن يؤدى رشدى الموال دون ذكر قتله لأدهم، فغنى  محمد رشدى في التليفزيون منهيا الموال بقوله على لسان بدران: (آه يا خوفى يا صاحبى لا يكون دا آخر عشا).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.