رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

بهاء الدين يوسف يكتب : الملك هو الملك والمدير هو المدير!

بقلم: بهاء الدين يوسف

من آن لآخر نجد أنفسنا مضطرين بحكم التطور العقلي أو الفراغ أو خبرة السنين أو ربما الظروف السياسية للعودة الى مشاهدة اعمال فنية شاهدناها أو كتب قرأناها في فترة الشباب مثل الملك هو الملك، دون أن نتوقف عند المعاني الكامنة بين السطور.

هذه المرة وجدت نفسي أعود لقراءة (ثم مشاهدة) مسرحية السوري الرائع سعد الله ونوس الملك هو الملك، التي جسدها مسرحيا نخبة من النجوم يتقدمهم صلاح السعدني وحسين الشربيني ومحمد منير وفايزة كمال، وقد نجحت المسرحية حين عرضها في مسرح الدولة في إحداث حالة إيجابية من التحفيز العقلي بين المثقفين المصريين حول ما قصده الكاتب السوري المعروف في حقبة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي من مسرحيته، والمعاني الرمزية التي تحفل بها.

كذلك مارس بعض المثقفين مزايدتهم المعتادة بانتقاد عرض مسرحية الملك هو الملك، على مسرح الدولة الذي يمول من أموال دافعي الضرائب، لكنهم ووجهوا بردود فعل قوية رأت في عرض المسرحية دليلا على ديناميكية الدولة وثقة النظام في نفسه، وسخروا في الوقت نفسه من المزايدين الذين أذتهم تكلفة المسرحية بينما لا يؤذيهم نهائيا الإنفاق الحكومي السفيه على لوازم الفخامة للوزراء ووكلائهم وصولا إلى المديرين في الشركات العامة.

سعد الله ونوس .. صانع عبقرية مسرحية الملك هو الملك

عبقرية الملك هو الملك

عبقرية ونوس في الملك هو الملك، تكمن في الرمزية المهمة التي تسخر من ثقافة وعقليات الشعوب العربية على مر التاريخ بأن من يجلس على كرسي الملك ليس هو المهم، ولكن الأهم هو الكرسي نفسه الذي يستحق من وجهة نظر الشعوب المستعبدة أن يحاط بقدر هائل من القداسة تنسحب تلقائيا على الشخص الذي يجلس عليه، ورغم أن هذه التركيبة الدرامية التي تصور تخلي الملك عن كرسيه من أجل الحصول على بعض التسلية.

تم تناولها لأول مرة في قصة (النائم واليقظان) إحدى قصص ألف ليلة وليلة إلا أنه يحسب للمسرحي السوري قدرته على انتزاع الفكرة من مسارها السطحي وتوظيفها بطريقة تحمل إسقاطا مباشرا على الواقع السياسي العربي.

الطريف في الأمر والذي لم يكتبه ونوس أو يشير إليه أن طبعة بولاق من (ألف ليلة وليلة) وهى الطبعة المصرية للرواية حذفت قصة (النائم واليقظان) من حواديتها، بينما أبقت دون خجل على كل ما تضمنته القصص من تفاصيل إباحية مثيرة في الك هو الملك، ما يشير غالبا إلى أن حرص المصريين على تجنب إغضاب الحاكم (وكان محمد علي باشا وقت صدور طبعة بولاق عام 1835) أكبر وأهم من حرصهم على تجنب إغضاب الخالق.

صلاح السعدني وفايزة كمال بطلي مسرحية الملك هو الملك

قصة مسرحية الملك هو الملك

قصة مسرحية الملك هو الملك، تدور حول ملك شعر بالملل في ليلة من الليالي فخرج متخفيا يسير في شوارع بلدته، ورأى خلال سيره تاجرا مفلسا مخمورا يدعى أبو عزة فخطرت له فكرة مجنونة أن ينقل هذا الشخص الى قصره الملكي ليكون هو الملك، ممنيا نفسه بحجم المتعة التي سيحصل عليها في الصباح حين يكتشف كل من في القصر الخدعة.

وتم تنفيذ المبادلة بالفعل لكن صدمة الملك (جسد دوره الفنان حسين الشربيني) كانت مخيفة حين وجد أن أحدا في القصر لم ينتبه للتغيير بمن فيهم زوجته التي تشاركه في السرير لأعوام طويلة، ومدلكه الخاص الذي ينكشف عليه صباح كل يوم، بل على العكس تبارى الجميع في تأكيد أن (أبو عزة) الذي جسده الفنان صلاح السعدني هو الملك الحقيقي وسعى كل واحد داخل القصر لتقديم أدلته على أن (أبو عزة) هو الملك منذ سنوات طويلة، ويجد الملك المختال نفسه مجبرا على التعامل مع الواقع الجديد وهو العيش بعيدا عن قصره وزوجته وحراسه خاصة بعد أن ينجح (أبو عزة) في الكشف عن محاولة لقلب نظام الحكم ما يعزز نفوذه ويكرس مكانته بين الأتباع كملك حقيقي متوج.

أجمل ما في مسرحية سعد الله ونوس، الملك هو الملك، إنها ليس لها مدة صلاحية تنتهي متعتها بعدها رغم الإسقاطات السياسية الواضحة التي تحفل بها، حيث نجد ثقافة تمجيد الكرسي مزروعة تقريبا في عقول أغلب الشعوب العربية، ليس فقط تجاه الملك ولكن حتى تجاه المدراء صغارهم وكبارهم، فكل من يجلس على كرسي يمنحه بعض السلطة أو النفوذ فهو شخص يستحق إضفاء هالة من القداسة حوله بصرف النظر عن حقيقته وما إذا كان مستبدا أو احمقا صغير العقل، وتعادل المسرحية في مغزاها النهائي الحكمة الكوميدية التي وردت على لسان الفنان الراحل سعيد صالح في إحدى مسرحياته والتي اعتبر فيها أن (اللي يتجوز أمي أقول له يا عمي!).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.