رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد شمروخ يكتب : غوايش .. لما بقت ترند !

بقلم : محمد شمروخ

لكن السيدة خيرية على عبد الجليل والشهيرة باسم غوايش هى نفسها تلك التى صارت ما بين يوم وليلة حديث الترند بسبب كميات النقود المعثور عليها في عشتها، وتناولت المواقع الإخبارية وبعض القنوات التلفزيونية، خبر كنز الحوش الذي كانت تسكنه غوايش فى أحد نواحى مركز الوقف بمحافظة قنا والذي سمح لها مالكوه بالمعيشة فيه بدون مقابل رأفة بحالها!، قبل ذلك بدقائق لم يكن أحد يدرى عنها شيئا فمثلها مثل مليارات المعدمين على سطح الكرة الأرضية، يعيشون ويموتون دون أن يعلم بحالهم الإعلام الغيوب.

وتدوالت الموبايلات الحديثة الفيديو الذي يظهر تقسيم تركة غوايش، وكان عبارة عن كميات هائلة من الفكة قيل إنها بلغت مليونا من الجنيهات حتى أنهم قسموها باستخدام الميزان على اعتبار أن الألف الواحد من الجنيهات المعدنية، يزن سبعة ونصف من الكيلو جرامات.

إقرأ أيضا : حسين نوح يكتب : عار الترند الملعون !

ولعمرك إن هذه ليست بالثروة الكبرى بالنسبة لمتسولة عاشت قرابة الستين عاماً ما بين القرى والنجوع!، فمن المعتاد أن يجدوا في منزل كل متسول لاسيما ذي النشاط الفردى في احتراف التسول، مبالغ مالية طائلة، لكن أستطيع أن أدعى هنا أن غوايش التى ماتت خلال الأسبوع الماضي وشيعت جنازتها في موكب مهيب شارك فيه المئات من أهل مركز الوقف إكراما لآدميتها، لم تكن بالمتسولة المحترفة، ولا كانت من تلك النوعية التى تكتنز الأموال حبا في جمعها، وليست من ممارسى طقوس عبادة المال.

كما أنها لم تحرم نفسها من متع الحياة من أجل جمع الأموال ، لأنها لا تعرف معنى لمثل هذه الكلمات.

ولماذا أنت واثق هكذا من أن غوايش لم تكن متسولة؟!

الإجابة لأنى كنت أعرف تلك السيدة العجوز جيداً، فهى قد عاشت غوايش عدة سنوات في قريتى في نجع حمادى بالصعيد الجواني، ولكنها تركتها منذ قرابة سبعة أعوام حتى أننى افتقدتها في آخر إجازة ذهبت لقضائها هناك، حيث أخبرونى أنها انتقلت للعيش في مركز الوقف على بعد حوالى عشرة كيلومترات جنوباً في كنف عائلة كريمة قررت أن تأويها وتنفق عليها ولم تكن تزيد متطلباتها اليومية عن شبع لبطنها وسقف لسترها، أما ملابسها فلا تكاد تزيد عن ثوبين أسودين وشال صوف ممزق تلف به رأسها فوق طرحتها صيفاً وشتاء.

ملامح غوايش سمراء بسيطة بساطة أهلنا في الصعيد

تقاسيم وجه غوايش

وما كان يلفت انتباهي في تقاسيم وجه غوايش، أنها لن تكن تكف عن الابتسام بوجه ترتسم عليه تعاريج كأحشاء السنين المجللة بقبول كل قرار من القدر، فهى سليلة لنساء مجهولات توارثن الرضا بالمقسوم بين جنبات وادى النيل على مدى آلاف السنين.

فمن هى غوايش ومن أهلها ومن أين جاءت؟!

أسئلة لا تهم أحدا ولكنها كانت كنبات ربانى أو كحيوانات البرية أو الطيور غير الداجنة، لا أحد يعلم من أين أتت ولا ما هى وجهتها، لكنها تعيش كملمح أساسي يتوالد ويموت دون انتظار ولا التفات لمثل تلك الأسئلة التافهة!

فى بلدنا وعلى ضفة النيل الغربية بنت غوايش لنفسها عشة ببقايا الكرتون وأغصان الشجر وكانت تصنع طعامها في علبة صفيح صغيرة على نيران القش أو الحطب!

لم تكن مجنونة كاملة الجنون ولا بلهاء مستغرقة البلاهة، بيد أنها خليط من هذا وذاك، ولكن خلطتها محببة أنتجت طيبة إلى حد السذاجة لامرأة تعيش وحيدة بلا أهل او زوج أو ولد.

لا أحد يعرف أهل غوايش ولا من أى البلاد على وجه الحقيقية.

إقرأ أيضا : ركوب الترند .هوس يصيب بعض سفهاء النجوم !

ومع ذلك تحمل كل سماتنا، من سمرة عميقة تحت وهج شمس الصعيد القاسية، مع تصالح مع الحياة عند الرضا يتبدى في ابتسامتها الدائمة، واحيانا غضب يصل إلى حد الجنون، عندما يشاكسها صبية الطريق أو أراذل الناس على سبيل المزاح أو الرخامة أو التطفل البغيض.

ربما كانت غوايش تمد يدها للتسول، ومع ذلك لا أراها متسولة، فهى ليست لحوحة عل أحد وترضى بالقليل وبسبب حالتها الذهنية لم تكن تجيد الأعمال المنزلية، فلم يستعن بها أحد في أعمال الخدمة في البيوت إلا في أضيق الحدود، كأن تنظف الأرض بساحات المنازل أو تحمى الأفران البلدية بالوقود النباتى أو تلقى ببعض المخلفات بعيداً عن كتل البيوت، كل ذلك نظير لقيمات او بضع جنيهات تسعد بها ولا تجادل فيها!.

أليس ثمة عائلة.. أو ليس هناك أهل؟!

كنز غوايش لايسد رمق الفقراء

غوايش .. رمز للفقراء

لا وألف لا.. فلا تنتمى غوايش إلى أكبر العائلات عدداً، ذلك أن الفقراء في بلادى هن الأغلب والأعم والأكثر انتشارا، بل يستحيل تصور الحياة بدونهم ولو كره المبطلون

(أليس نوعا من الغفلة أن نعتقد أن الله قد خلق الحياة من أجل أن يمارس فيها الأغنياء أنانيتهم المقيت أو في سبيل ان يلحق بهم أبناء الطبقة الوسطى محققين أحلامهم ذات الآفاق الضيقة؟!)، ثم إنه ما من أحد من نسب آدم، ليس له عائلة او قبيلة، لكن هناك من حفظوا وهناك من نسوا.. وهناك من تكتلوا وهناك من تفرقوا!، والفقر كان دائماً هو رأس أكبر العائلات التى تفرقت من أبناء آدم!

لكن ما تفسير تلك الأموال التى عثر عليها في عشة غوايش؟!

السؤال الأولى بنا أن نسأله: ماذا كانت غوايش تخطط له بجمع تلك الأموال؟!

إقرأ أيضا : (نهاد وهبة ورضوى) .. ثلاثي فتوى هدم البيوت المصرية على جناح (الترند) !

حقا هناك من استعبدهم جمع المال حتى نسوا ما يمكن أن يحققوه به، وفي هذا يتساوى بخلاء الطبقات الثلاث مع المتسولين، لكن غوايش من البداية لم تكن تعرف ماذا تفعل بالمال الذي يزيد عن حاجتها مما تفيء به جيوب الكرماء عليها طوال حياتها.. لم تكن تملك درجة الوعى تلك التى تتيح لها ان تحلم بما يمكن أن تكونه من ثروة، ربما مارست جمع المال وادخاره استسلاما للحظة سذاجة تلك الفرحة التى تداهمها عندما تمتد لها يد بأى نقود سواء مقابل أعمالها البسيطة أو على سبيل الصدقة!

ومن منا لا يفرح بمثل هذا؟!. غير أننا نرتجى وندرك ونخطط  ونتآمر ونتصارع لنحقق أو نحلم بما يمكن أن نحقق بهذه الأموال لنا أو لأولادنا من بعدنا، فهذه القاعدة التى تحكم حياتنا، فما حياتنا إلا نتائج لما بين واقع أو حلم، ارتبط أحدهما أو كلاهما بالمال ربطا شرطيا تحت أى مسمى!

حكمك على أو حكمى عليك، مهما كان، مع احترامي لك ولكل القيم الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية، هو مرتبط بما حققت من ثروة سواء بيدك أو ورثتها أو جاءتك من أى سبيل.

لا نخادع أنفسنا فلقد أحببنا المال حبا جما وجعلناه الميزان الأعلى في الحكم على كل مظاهر الحياة، في العمل، في المسكن، في الضرورة، في الترفيه، في الفخر بالأقارب والأصدقاء والأصهار والمعارف، حتى في الجنائز والمقابر صار الناس حسب درجاتهم المالية.

قروش غوايش الكثيرة لم تكن تعني لها شيئ

غوايش مثل ملايين المعدمين

ألا ترى ذلك التقسيم البغيض لطبقات المجتمع يعتمد أساساً على المعيار المالي؟!، لكن غوايش كمثل ملايين المعدمين، لم تتعامل مع المال إلا بتلك السذاجة المباشرة التى كنا نشعر بها عندما تثقل شخللة  قطع النقود المعدنية في الحصالة لنبدأ كسرها، غير أننا كنا نحلم بشراء كرة أو لعبة ثمينة أو ساعة قيمة، ولكن أيضا غوايش أنى لها أن تعرف الحلم، فراحت تكدس كل ما تتحصل عليه من نقود كان الغالب الأعم فيها الجنيهات وأنصافها المعدنية.

وانتبه جيدا، فإن هذا هو دليل براءتها مما ادعوا عليها، فلو عرفت غوايش طريقا لحلم الثروة لقامت بتجميد تلك الفكة الهائلة لفئات أكبر، لكنها استمتعت بجمع فئات النقود الصغيرة التى لا تعرف ماذا ستفعل بها، غير أنها تركتها كذلك لمن لا يعرفون ماذا سيفعلون بها!

وفي النهاية، فإن مبلغ مليون جنيه لم يعد بالرقم المهول كما كان، فلن يكفى لشراء أرض أو بناء بيت يتيح لساكنيه تجاوز قاعدة المعدمين إلى أولى درجات الفقر ما فوق المدقع.

رحم الله غوايش فقد أتاح لها المليون أن تركب الترند بعد انتشار أخبار ثروتها وهذا يكفي حسب ما قالت شقيقتى في التليفون بعد تقديمها العزاء لى في غوايش ولو على سبيل السخرية: (شقت غوايش لما بقت ترند؟!).

ترى.. لو لم يعثروا في عشتها الحقيرة على أموال، هل كانت للترند أن يعرف سكة غوايش؟!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.