رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

زينب علي البحراني تكتب: وردة وبليغ حمدي.. حكاية زواج الحُب بالموهبة

بقلم الكاتبة الخليجية: زينب علي البحراني

لم يكُن زواج النجمة (وردة الجزائرية) بالمُلحن (بليغ حمدي) زواجًا عابرًا قابلاً للنسيان؛ بل كان حكاية حُبٍ كبيرةٍ بين نجمين استثنائيين لم يكُن بوسع تاريخ الفن إلا تخليدها بكل زخم المشاعر السامية التي كانت سببًا في انطلاق قرابة مائة وخمسين لحنا أضفى المزيد من الثراء الإبداعي لهذا التاريخ، ما جعل من تلك القصة أيقونة تستحق أن تُحكى تفاصيلها لأجيال المُعجبين والمُهتمين.

تنصت إلى عوده الساحر

والأذن تعشق قبل العين!

وقعَت في غرام لحنه الذي أسرَ مسامعها بينما تُنصت لأغنية (تخونوه) بصوت العندليب (عبدالحليم حافظ) خلال مُشاهدة فيلم (الوسادة الخالية) عام 1957م في السينما قبل أن تراه أو تلتقي به، كانت وقتها فتاةً صغيرة؛ ولم يكُن جهاز الفيديو أو أشرطة التسجيل الصوتية الصغيرة معروفة ومتوفرة، فما كان منها إلا أن استمرَّت بقطع تذكرة لدخول السينما ومُشاهدة الفيلم مرَّاتٍ ومرَّات فقط لإشباع نهم مشاعرها لسماع هذا اللحن، وكانت تدعو من صميم قلبها: (يا رب.. يا رب.. اجعلني ألتقي بهذا المُلحن وأغني أغنية من ألحانِه ذات يوم).

كانت (وردة محمد فتوكي) تعيشُ مع والدها الجزائري ووالدتها اللبنانية في فرنسا، وتُغني بصوتها الآسِر في مطعم يملكه والدها ويعمل فيه أفراد الأسرة، هناك سمعها المخرج والمنتج المصري (حلمي رفلة) وأُعجب بصوتها الآسِر، فعرض عليها الذهاب إلى مصر للتمثيل والغناء في فيلمٍ كان يُعد للعمل عليه ويبحث عن وجه أنثوي جديد يمتاز بالموهبة والقبول على الشاشة للمشاركة في بطولته، فرفرف قلبها فرحًا، لكنها أخبرتهُ بأنها يجب أن تسأل والدها أولاً قبل أن تُجيبه، في اليوم التالي عاد (رفلة) ليسألها عن رد والدها؛ فما كان منها إلا أن أفصحَت عن خيبة أملها برفضه الصارم سفرها إلى مصر، لكن مُكتشف النجوم (حلمي رفلة) كان من أولئك الذين لا يتنازلون عن أهدافهم بسهولة، فظل يذهب إلى مكان عمل والدها يوميًا ويحاول إقناعه بإصرار إلى أن وافق أخيرًا؛ شرط أن يُرافقها شقيقها وأفراد آخرون من الأسرة، ومن مصر بدأت انطلاقتها عبر شاشات السينما من فيلم (ألمظ وعبد الحامولي) عام 1962.

اللقاء الأوّل!

في منزل الموسيقار (محمد فوزي) كان أوَّل لقاء بينها وبين (بليغ حمدي) الذي تم اختياره لتلحين أغنية (يا نخلتين في العلالي) لتغنيها (وردة) في فيلم (ألمظ وعبده الحامولي)، ويذكر الإعلامي (وجدي الحكيم) الذي كان حاضِرًا اللقاء أن (بليغ) أخبرهُ فيما بعد بأن مشاعره لم تهتز أمام إنسانة كما اهتزَّت أمام (وردة) عند اللقاء الأوَّل، أما هى ففوجِئت بأن الرجُل الذي وقعَت روحها الفنيَّة في غرام ألحانه من قبل لم يكُن بمستوى الوسامة التي كانت تُفضِّلها مقاييسها الأنثوية كامرأة، بل وشعرَت أن (دمه ثقيل على قلبها)، لكن يبدو أن للحُب حساباتٌ أُخرى قادِمة في هذه الحكاية!

تلازمه على البيانو

اللقاء الثاني..

عادت (وردة) الشابة مع أفراد أسرتها إلى الجزائر، وهناك تزوجت الضابط الجزائري (جمال قصري) لتعيشَ حياةً عائلية مُستقرة بعيدًا عن حياة الفن وتُنجب طفلاً وطفلة، لكن القدر يعود للتدخل مُجددًا خلال إحدى الحفلات التي دُعي لها مجموعة من الضباط والمسؤولين مع زوجاتهم، هناك رآها الرئيس الجزائري في ذلك الوقت فطلب منها الغناء في عيد استقلال الجزائر القادم، ولم يكُن بوسع زوجها الضابِط الاعتراض في هذا الموقف على طلب الرئيس أو كسر كلمته، فوافق هذه المرَّة ظنًا منهُ أنها أغنية وطنيَّة واحدة في بلدها ثم يُغلق هذا الباب.

سُئِلَت (وردة) عن اسم المُلحن الذي تُفضل أن يعمل على تلحين الأغنية التي ستكون من نصيب صوتها، فاختارت (رياض السنباطي) لفرط إعجابها بأعماله وشخصيَّته، واتصلت به تدعوه لقبول ضيافتها في الجزائر بضعة أيام وتلحين الأغنية، لكن ظروفه الصحية في تلك الفترة كانت تمنعه عن السفر، فرشَّح لها اسم (بليغ حمدي) باعتباره (أمل مصر في الموسيقى) من وُجهة نظره، لكنها ردَّت عليه بقولها: (لا؛ قابلتُه عندك.. دمه ثقيل على قلبي!).

قال السنباطي: (يا وردة.. اركني مشاعرِك الشخصيَّة على جنب، وخلِّي حياتِك في العمل حاجة ثانية.. أم كلثوم بتتعامل مع اللي بتحبه واللي ما بتحبوش، بتتعامل مع الإنسان اللي هى كارهاه بس حاسة إنه هيعمل عمل عظيم.. خليكي انتي بهذا الذكاء، تعاملي مع الشخصية اللي حتفيدك، الولد ده حيبقى أمل مصر في الموسيقى، أنا بقول لك الكلام ده بخبرتي الطويلة).

سمعت (وردة) كلام أستاذها الكبير، وسافر (بليغ حمدي) إلى الجزائر، ولحَّن لها أغنيتها الوطنية، وعند المُغادرة قبل عودته إلى مصر شد على يدها قائلاً: (مصرِ عايزاكي يا وردة.. لازم ترجعي)..

حب وانسجام في بداية العلاقة

واستيقظَت الأشواق للفن..

عودة (وردة) للغناء تلك المرَّة أمام الجمهور خلال المُناسبة الوطنيَّة هزَّ شخصيتها الفنية وأيقظ الأشواق للعودة إلى الغناء للجماهير كما كانت في السابق، فطرحَت الفكرة على زوجها الذي رفضَ بحزم، وأمام إلحاحها خيَّرها بين الغناء وبين بقاء زواجهما؛ فاختارت الغناء الذي لم تعُد قادرة على العيش من دونه، فطلَّقها وعادت إلى مصر، وهناك كان الملحن (بليغ حمدي) من أكثر المهتمين بتلحين أغنياتها إلى أن ترعرعت مشاعر الحُب المُتبادل بينهما، واتفقا على الزواج عام 1973م، لكن شروده الدائم وكثرة نسيانه جعلتهُ ينسى موعد حفل عقد قرانهما أوَّل مرَّة، ولا يتذكَّر إلا بعد أن وصَل إلى (بيروت) في رحلةٍ رافق فيها المُطرب (عبدالحليم حافظ) والممثل (حسن يوسف)!، فشعرت بالإحباط والحرج من شقيقاتها وصديقاتها المدعوَّات، وظنَّت أنه هرب من الزواج، لا سيما وأنه تراجع عن الزواج من (سامية جمال، وصباح) في اللحظات الأخيرة من قبل؛ لكنهُ عاد للاتصال بها وحددا موعدًا جديدًا تم فيه الزواج بالفعل.

بين عامي 1973م و1979 استمر الحُب بينهما في عُش الزوجيَّة؛ لكن الحُب الكبير المُتبادل الذي كان يدفع (بليغ) لاصطفاء أجمل ألحانه لها، وتفضيلها على مُطربات أُخريات يكون قد وعدهن بأغنية مُحددة فيسمعن الأغنية اليوم التالي مُسجلة بصوتها، وإرسال الورود يوميًا لها عند خروجه إلى مكتبه للعمل، ويبذل ما بوسعه لدعم خطواتها وتحقيق طموحاتها، لم يكُن كافيًا لاستمرار الحياة مع شخصيته التي لا تتناسب مع التزامات الحياة الزواجية والتي كانت سببًا في عدم استمرار زواجه الأوَّل من سيدة أُخرى كانت من أسباب انتهاء زواجه الثاني من (وردة)، فهو غير مُهتم بالحياة العائلية والتفاصيل الضرورية لاستقرارها، يعيش اللحظة دون اهتمام بالقادِم، شارد الذهن معظم الوقت وكثير النسيان، مُهمل في مواعيده مع الجميع! إلى درجة أن يدعو ضيفًا ويحدد لهُ موعدًا على الطعام في منزله ثم يُغادر المنزل ناسيًا الضيف، فتفاجأ بوجود الضيف الذي لا تعرفه في منزلها دون وجود داعيه!

تستمتع إلى أحد ألحانه المبهرة

بعيد عنَّك حياتي عذاب!

كل تلك التصرفات سببًا في شدٍ وجذب في علاقتهما يؤدي إلى الخصام أحيانًا، ويُحكى أنهُ خلال أوقات بُعده عنها ذات مرَّة أراد إرسال مشاعره لها عبر أُغنية، فلحَّن أغنية (بعيد عنَّك حياتي عذاب) بشجنٍ هائل كي تغنيها (أم كلثوم) فتسمعها (وردة)، وما أن علمت (السِّت) بتلك الحقيقة حتى قالت له: (انت عاملني كوبري يا ولد؟!).

جوانب شخصيته التي لم يكُن بوسعه تغييرها أدَّت إلى تصاعُد الخلافات بينهما عام 1973م حين سافر إلى الإمارات للمشاركة في برنامج اسمه (جديد في جديد)، مرَّت تسعة أيام تقريبًا دون أن يتصل بها هاتفيًا أو يكتب لها رسالة بريدية على الأقل ناسيًا أمرها تمامًا، وإذا بها تُفاجأ بمجلة (الموعد) تنشر صورة مع فتاة لا تعرفها باعتبارها (الصوت الجديد الذي اكتشفه بليغ حمدي)، ثم ظلَّ شهرًا كاملاً دون أن يتصل بها أو يُراسلها، ثم عاد فجأةً وذهب ليُقيم في منزل أخته (صفيَّة) خوفًا من عواقب مواجهة زوجته بعد ما حدث، وإذا بأخته تُرسل الشغالين من منزلها لطلب ملابس (بليغ) من منزل (وردة)، فجمعتها وأرسلتها في حقيبتين، وانتظرت منه أن يتصل بها ويقول شيئًا موضحًا موقفه دون جدوى، فانخرطت في البُكاء وشعرت بقهرٍ هائل أدَّى إلى التهاب زائدتها الدُّودية ونقلها على إثره إلى المُستشفى لإجراء عملية جراحية عاجلة لها، فزارها الأهل والأصدقاء للاطمئنان على صحتها، وانهالت رسائل المُعجبين من مختلف أقطار العالم مُعبِّرة عن التعاطف والمحبَّة، حتى العندليب (عبدالحليم حافظ) الذي كان وقتها في لندن ولا تسمح له ظروفه بالعودة سريعًا لم يتأخر في الاتصال بها والتحدث معها هاتفيًا ليطمئن إلى ما آلت إليه ظروفها الصحيَّة، إلا (بليغ حمدي) لم يأتِ ولم يتصل، فذهب لهُ خبير المكياج وصديق الأسرة الفنان (محمد عشوب) سائلاً: (يا أستاذ.. انتَ ما جيتش عالبيت ليه؟)، فقال له: (ما اعرفش، ما حدش يكلمني في الموضوع ده، وما حدش يتدخل في العلاقة الشخصية بيني وبين مراتي).

أصرَّت (وردة) على الطلاق بعد العمليَّة لأنها لم تتحمل شعورها بالإهمال منه في وقتٍ اعتبرته من أصعب أوقاتها، ومع إصرارها تم ما أرادت، وبهذا انتهت واحدة من أجمل قصص الزيجات في تاريخ الفن العربي، ذاك الزواج الذي أثمر عن كثير من الأعمال الفنية المؤثرة في وجدان السامعين إلى يومنا هذا.

ديو بين وردة و بليغ حمدي :

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.