رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

كرمة سامي تكتب: هذا هو الترفيه!

(كيلي) لم يكن راقصًا فحسب بل مصمم رقصات، وكاتب سيناريو، ومخرج
جين كيلي مع الفأر (جيري)

بقلم: كرمة سامي

وجهني والدي منذ طفولتي نحو جوهر فن الترفيه الرفيع عندما نصحني بمشاهدة أفلام العبقري چين كيلي (1912 – 1996)، ووعيت منذ الصغر أن كيلي لم يكن راقصًا فحسب بل مصمم رقصات، وكاتب سيناريو، ومخرج، ويكفيه فيلمه الخالد الذي أخرجه بالاشتراك مع ستانلي دونن (الغناء تحت المطر Singing in the Rain – 1954)، بل يكفيه أن يخلد في تاريخ الفن بمشهده العبقري مع الفأر (چيري) في فيلم (رفع المرساة Anchors Aweigh – 1945) الذي كان يلعب فيه كيلي دور البحار چو وعندما التقى وجهًا لوجه – في مشهد مقحم طبعًا على أحداث الفيلم – مع الفأر ولمس حزنه لعدم قدرة الفأر على الرقص أو الغناء علمه بنفسه كيف يرقص وتعود له بهجته! نفذ المشهد بإبداع وحرفية واتقان سابقين لعصرهم فكان مبهجًا في كل عناصره الفنية ليستحق أن يصبح هدية ترفيهية بريئة للبشرية حتى يومنا هذا!

اقتصر نشاط منير مراد الفني على رصيد غنائي مبهر وضعه في صدارة تراثنا الموسيقي والغنائي

شاهدنا سويًا، والدي وأنا، كل أفلام كيلي التي عرضها التليفزيون على القناة الثانية، مع استير ويليامز وسيد تشاريس ولزلي كارون وريتا هيورث وديبي رينولدز، حتى السؤال: من أكثر مهارة جين كيلي أم فريد أستير لم يكن مطروحًا؟ لأن كيلي وضع بصمته على الحقبة الذهبية للأفلام الاستعراضية في هوليوود توجها بفوزه بجائزة أوسكار شرفية تقديرا لإنجازاته السينمائية عام 1952 وهو نفس العام الذي فاز فيه فيلمه (أمريكي في باريس – An American in Paris) بست جوائز من ضمنها أفضل فيلم ومخرج وسيناريو ومونتاچ وديكور وملابس وتصوير وموسيقى. كان أستير خفيف الحركة يكاد يرتفع عن الأرض، لكن كيلي كان رياضيًا يحمل رؤية سينمائية تتجاوز إطار تصميم الرقصات وأدائها.

لم يكن غريبًا كذلك طلب والدي في أيامه الأخيرة أن يشاهد رقصة (موزيز سَپوزيز)  لچين كيلي ودونالد أوكونور من فيلم (الغناء تحت المطر)، وكلما تنتهي الرقصة يكرر طلبه أن يشاهدها مرة أخرى، وفي كل مرة يعلق على الكوميديا والإبهار في كل عنصر من عناصرها الفنية: كلمات الأغنية ولحنها، وترجمة كيلي لكوميديا الموقف إلى خطوات راقصة تشكل وحدة متكاملة، واللياقة البدنية التي تميز بها أداء الراقصيّن كيلي وأوكونور في تناغم حركي تام، وتوظيف عناصر المشهد وديكوراته من المقاعد والمكتب والستائر والأباجورة، حتى استغلال وجود مدرب الالقاء الوقور في الرقصة. 

كيلي وضع بصمته على الحقبة الذهبية للأفلام الاستعراضية في هوليوود

لم يظهر في السينما المصرية من يعادل موهبة چين كيلي، وكان الأقرب إليه منير مراد رحمه الله بوسامة ملامحه، وخفة ظله، ولياقته البدنية، ورشاقته، لكن التربة الفنية لم تكن مناسبة فأجهض حلم منير مراد في انتاج أفلام استعراضية واقتصر نشاطه الفني على رصيد غنائي مبهر وضعه في صدارة تراثنا الموسيقي والغنائي. وكلما أشاهد فيلمي (أنا وحبيبي – 1953) تأليف مشترك بين منير مراد والسيد بدير وإخراج كامل التلمساني، و(نهارك سعيد – 1955) سيناريو وحوار السيد بدير وإخراج فطين عبدالوهاب، أتحسر على الممكن الذي حكم عليه أن يصبح مستحيلًا، فلم تفتح السينما أبواب ستوديوهاتها بعد ذلك للعبقري خفيف الظل منير مراد واكتفت باستعراضات مقلدة لتدعي أنها تنتج أفلامًا غنائية أو استعراضية باجتهادات من أنور وجدي وفريد الأطرش ومحمد فوزي وحتى عبدالعزيز محمود، وظل منير مراد بفيلميه المبهجين الوحيد الذي قدم لنا رصيدًا فنيًا حقيقيًا من الكوميديا والغناء والاستعراض، فهل كانت موهبة منير مراد أكبر من إمكانات السينما ومنتجيها وقتئذ وغالبًا حتى اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال أسترجع لحظات ممتعة من الترفيه في طفولتي شكلت وجداني وحبي للثقافة والفن؟

اقتصر نشاط منير مراد الفني على رصيد غنائي مبهر وضعه في صدارة تراثنا الموسيقي والغنائي

وحتى في السينما العالمية لم يظهر حتى يومنا هذا من يتجاوز تجربة كيلي المتميزة، أو حتى يكررها، وعندما ظهر چون تراڤولتا في (حمى ليلة السبت Saturday Night Fever – 1977) وهرع الشباب والمراهقون لمشاهدة خليفة چين كيلي في (الملاعب)، أخذني والدي لمشاهدة الفيلم في سينما بالاس الشتوي مضطرًا مغلوبًا على أمره بناء على إلحاحي، لكنه عاد منتصرًا لأنه أكد لي بالتجربة الفعلية أن چين كيلي ثورة فنية أضافت الكثير لصناعة السينما والترفيه، وقد أثبت لي والدي بالمقارنة بين ثقل ظل تراڤولتا وموهبته المحدودة وعبقرية كيلي أنه فتح لي بوابة الفن على مصراعيها حيث تمتد أمامي آفاق الخيال وقدرة الفنان على الابتكار والامتاع والترفيه، لأتبين الفارق بين الفن واللهو والترفيه والتسطيح.

أثبت لي والدي بالمقارنة بين ثقل ظل تراڤولتا وموهبته المحدودة وعبقرية كيلي أنه فتح لي بوابة الفن

فات أوان الترفيه محليًا وعالميًا، حتى أفلام المخرج الأسترالي باز لِرمان (مولان روچ Moulin Rouge – 2001)، والأمريكي روب مارشال (شيكاجو Chicago  – 2002)، و(تسع Nine- 2014)، و(في قلب الغابة Into the Woods – 2014)، ولا نجاح ( لالا لاندLa La Land  – 2016)  للمخرج الأمريكي دامين شازيل وتمسحه في عصر الأفلام الغنائية الذهبي يحتسب للسينما العالمية! كان چين كيلي يقدم الترفيه البريء الذي خجلت منه السينما عندما بلغت مرحلة النضج، وأثقلت أفلامها بمضامين ترهق الروح وتبارى الكتاب والمخرجون في إتقان فن التنغيص وليس الترفيه! وكأن الحبكة التقليدية التي يقابل فيها الفتى فتاته ويتخطى الصعاب للفوز بها في النهاية عار على السينما والسينمائيين!

أريد ترفيهًا ممتعًا في اتقانه، يحفز روح المتلقي لكسر قيودها، يخفف عنها، ويربت عليها، فيكون له ثواب البسمة على الوجوه. كان چين كيلي تجسيدًا لهذا الفن، ستظل صورته متشبثًا بعامود النور حاملًا مظلته المغلقة مغنيًا تحت المطر أيقونة الترفيه البريء المتقن، الذي كون به كيلي رصيده السينمائي المبهج مجسدًا نموذج پيتر پان للكبار والصغار، يطير محاطًا ببركة غبار الجنيات، لكن متحررًا من لعنة الطفولة التي أسرت بطل أعمال الكاتب الاسكتلندي چيمس باري (1860 – 1937)، كان كيلي الطفل الذي كبر وأصبح شابًا طيب الوجه، خفيف الظل، رشيق الحركة يتحدى الجاذبية ويحلق نيابة عنا جميعًا. ماذا فعل بنا چين كيلي عندما قفز من بركة مياه إلى أخرى سوى أنه حقق حلمًا قديمًا متجددًا لكل طفل أن يرقص ويغني تحت المطر رغم تحذير أمه، كي نقول معًا: هذا هو الترفيه، أو That’s Entertainment !

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.