رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عصام السيد يكتب : رسول العناية الإلهية

بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد

لم يتصور أحد – على الاطلاق – أن هذا الشاب طويل القامة ذو الأنف المقوس والصوت الأجش سيصبح علامة فارقة فى تاريخ المسرح المصرى . فالشاب سليل للباشوات و ابن عين من أعيان الفيوم هو (عبد الله باشا) مفتش الرى الذى تحفظ له المنطقة هناك أياديه البيضاء فى تحويل آلاف الأفدنة من أراضى صحراوية إلى أراض زراعية بسبب شقه لترعة (عبد الله وهبى) ، كما تحفظ له بنائه لأضخم جامع فى ذلك الوقت. و لكن ذلك الشاب – ابن الباشا – كان يهوى الفن و خاصة إلقاء المونولوجات الغنائية ، و لم يجد له متسعا سوى الحفلات الخيرية ، فشارك فيها.

وأخيرا وجد فرصة ذهبية لاستعراض مواهبه عندما ألحقه (عزيز عيد) بفرقته ، ولكن الفرصة انتهت سريعا عندما انهالت على الفرقة قذائف البيض الفاسد و الطماطم أطلقها جنود الأمبراطورية البريطانية العظمى وهم سكارى ، و لهذا كانت فشل رواية (حنجل بوبو) ذكرى سيئة فى عقل و قلب الوجه الجديد : يوسف وهبى .

و أظن – و ليس كل الظن إثم – أن عزيز تعرف على المنولوجست (يوسف) عن طريق المصارع الشهير (عبد الحليم المصرى) – الذى كان يلقب بمصارع الشرق – و مؤلف المسرحية التى انتقم فيها (عزيز من جورج) ، فقد كان (يوسف) يتدرب على المصارعة على يد المصارع الشهير فى (سيرك الحاج سليمان) ، و أعتقد أن المصارع عندما انتقل إلى مجال الفن اصطحب معه تلميذه ، (و إلا ما كان يوسف وهبى سيروى لنا هذه الفترة بتفاصيلها الدقيقة فى مذكراته ، لو لم يكن حاضرا فيها).

يوسف وهبي أنشأ مسرح رمسيس لإنقاذ فن الدراما

و استمرت العلاقة بين (يوسف و عزيز) ، حتى بعد أن هرب الأول إلى إيطاليا بسبب رفض أسرته للعمل بالفن كما يقول هو ، أو بسبب الهروب من تبعات ارتكابه لجريمة كما تقول الشائعات.

المهم أن يوسف عاد إلى مصر بعد وفاة والده ليكوّن أبر فرقة مسرحية ، تقدم فنا مختلفا ، جعل للفنانين قيمة و مكانة بسبب نوعية الفن الذى قدمته و بسبب تلك التقاليد التى أرساها و التى سارت عليها الفرق الأخرى فيما بعد ، حتى ألق البعض عليه (رسول العناية الإلهية لإنقاذ فن المسرح).

 و مما ساهم فى نجاح تلك الفرقة أن ظهورها كان مصاحبا لصعود طبقة جديدة هى طبقة البرجوازية التى تشكلت و بزغ نجمها بعد ثورة 19 ، فصارت الفرقة صوت الطبقة الجديدة لأنها تبنت خطابا مختلفا عبّر عن التغيرات الجذرية التى حدثت بعد الثورة ، كما تناولت كثير من مشكلات المجتمع فى ذلك الوقت ، مثل نبذ التفرقة الطبقية ، و أن كل طبقات المجتمع لها شرف و كرامة يجب الحفاظ عليها و لا يجوز انتهاكها من أفراد الطبقة الأرستقراطية التى كانت تملك الأرض و من عليها ، و التى ظهرت  – غالبا – فى أعمال الفرقة فى ثوب أخلاقى مهلهل ، ساعد على خلخلة مكانتها، مما سمح للطبقة الجديدة بالتواجد بجوارها . و لذا فإن فنانا كبيرا كفتوح نشاطى يقول : بقيام فرقة رمسيس انتعشت آمال (الانتليجنسيا المصرية).

يوسف وهبي وفاطمة رشدي

أما قصة عودة (يوسف وهبي) إلى القاهرة و تكوينه للفرقة فهناك خلاف على تفاصيلها، فيوسف يحكيها بطريقة ميلودرامية تشبه مسرحياته ، و (فاطمة رشدى) رفيقة درب (عزيز) ترويها بطريقة أبسط على لسانه فتقول : فاجأنى عزيز ذات يوم قائلا يا فاطمة أنا مسافر إلى ايطاليا ، و يوسف وهبى موجود هناك ، و قد أخبرنى مختار عثمان ( أحد ممثلى تلك الفترة ) أن يوسف يفكر فى العمل فى السينما بإيطاليا بعدما ورث عن والده .. و قد أقنعنى مختار أن أسافر معه لمقابلة يوسف فى محاولة لاقناعه بتكوين فرقة تمثيلية فى مصر.

أما قصة يوسف المليئة بالمواقف الدرامية – و التى وردت فى مذكراته – فتختلف تماما ، فهو يقول إنه وصل إلى القاهرة بعد أن تسلم برقية بأن أباه فى طور الاحتضار، وأنه يلح فى رؤيته ، و لكنه وصل إلى القاهرة بعد وفاة والده الذى ترك له ميراثا ضخما ، و بينما هو سائر فى شارع عماد الدين – شارع المسارح و الملاهى – وقع نظره على رجل قصير ، رث الثياب ، لم يحلق ذقنه منذ أيام و لكن يوسف عرفه ، إنه الفنان الكبير – و الوصف ليوسف – عزيز عيد و قد بانت عليه مظاهر البؤس ، وما إن رآه عزيز حتى انهار باكيا بمرارة قائلا : (هكذا وصل الحال بفنانى الدراما ، فقد طغى الطابع الاستعراضى – الفرانكو آراب – ومسرحيات (كشكش بك) على الفرق الجادة ، لقد فكرت أن اشترى صندوق مسح أحذية و أطوف به على القهاوى حتى يشاهد الناس ما وصل إليه رواد فن الدراما) .

و يروى يوسف وهبى بعد ذلك كيف استاء من انصراف الجمهور عن المسرح الهادف و أنه طيب خاطر عزيز و طلب منه أن يهيئ نفسه للسفر إلى ايطاليا – و لكنه لم يذكر السبب أو الغرض من وراء السفر –  و هناك فى ميلانو قابل يوسف أمير الشعراء (أحمد بك شوقى) الذى سهر معه حتى الصباح ليتمكن من إقناعه بتكوين فرقة مسرحية تجمع كل نجوم الدراما و التراجيديا بالذات ، هدفها الأول (رد اعتبار المسرح الهادف و نشر رسالة الوعى التمثيلى السليم).

نجيب الريحاني على المسرح بدور (كشكش بيه)

و يبدو أن يوسف اقتنع أخيرا ، و عاد إلى مصر ليجمع له عزيز 15 ممثلا وسبع ممثلات ، كانوا من أفضل ممثلى عصرهم ليكوّنوا الفرقة التى حملت الاسم الذى اشتهر به يوسف فى إيطاليا (مسيس)، و استأجر يوسف ( صالة ) أرضيتها من البلاط، و لكنه بذل الكثير من المال و الجهد  كى يحولها إلى مسرح لائق – مازال موجودا إلى الآن فى شارع عماد الدين و لكنه يحمل اسم الريحانى – و تقول الفنانة القديرة صفاء الطوخى فى كتابها (عزيز عيد .. طائر الفن المحترق) أن يوسف أثبت كفاءة فى الإدارة و ذوقا فى الدعاية يحسد عليه.

و فى 10 مارس عام 1923 ظهرت (فرقة رمسيس) إلى الوجود لتصبح حدثا هاما فى تاريخ المسرح المصرى ، ليس الفضل فيه لأموال يوسف وهبى أو كفاءة إدارته وحدها، و لكن الفضل الأكبر يعود لجهود عزيز عيد فى اختيار المسرحيات والإشراف على الترجمة و صياغة الحوار و تدريب الممثلين على الإلقاء و الحركة و تصميم المناظر و انتقاء الملابس .  

و قبل الافتتاح بدقائق أصر (عزيز) على الصعود إلى سطح المسرح يرافقه (يوسف وهبي) لكى يقسم له أنهما لن يفترقا مهما صادفا من صعاب ، فعانقه يوسف متأثرا (كما يقول) و ألقى إليه بالقسم.

وبعد الافتتاح حدثت المشكلة الأولى بينهما، فعزيز كان من أصحاب مدرسة الأداء الطبيعى ، يعلّم تلاميذه كيف يعيشون حالة من الاندماج و كأنهم بالفعل شخصيات المسرحيات و قد دبت فيها الروح ، و لكن يوسف وهبى لم يكن ينفذ تعليمات عزيز أثناء البروفات ، بل كان يستقبلها فى هدوء ، حتى أنه يقول إن عزيز كان ينظر له وكأنه يرى الفشل و السقوط المدوى.

مسرح الريحاني الذي كان مسرح رمسيس من قبل

و فى يوم الافتتاح انطلق يوسف بصوته الجهورى يمثل بطريقة عاصفة محمومة – على عكس تعليمات عزيز – و لكن الجمهور تحمس لتلك الطريقة و انفعل بها بعد أن تلاعب يوسف وهبى بمشاعرهم ، و أمام التصفيق الحاد الذى ناله و النجاح الساحق الذى تحقق لم يستطع عزيز أن يعاتبه أو يحد من اسلوبه المبالغ فيه ، و الذى سخر منه يوسف بنفسه فى مرحلة لاحقة.

و مر الموسم الأول للفرقة فى نجاح ساحق ، و لكن قرب نهاية الموسم وقع الخلاف الازلى بين عزيز عيد و أصحاب الفرق التمثيلية.

و لهذا حديث آخر ..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.