رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

د. ثروت الخرباوي يكتب : سلامة لن يكون في خير أبدا !

بقلم المفكر الكبير الدكتور : ثروت الخرباوي

أحب أن أقول لكم إنني أكتب لكم وأنا خارج نطاق الخدمة، فقد أصاب العطل شبكة (الخرباوي فون) فتوقف الإرسال، لذلك فأنا في قمة الدهشة من خروجي فجأة من حالة العطل لأبث هذا المقال عبر (شهريار النجوم)، وأظن أن هذا البث المؤقت سببه سؤال خطر على بالي فجأة وأنا أشاهد فيلم (سلامة في خير)، هذا السؤال هو: هل من السهل تزوير التاريخ؟، أما الإجابة فهي : سهل جدا بلا جدال، بل تستطيع القول إن التاريخ كله مزور!، لك أن تعلم أننا لا نقرأ التاريخ ولكننا نقرأ التاريخ المزور، أما التاريخ الحقيقي فسيظل يعيش في سراديب الزمن، وقد يقول أحدهم: أظنك تقصد التاريخ القديم؟، لا يا سيدي، أنا أقصد بالتأكيد كل التاريخ، قديمه وحديثه، وللتأكيد على هذا التأكيد سأذكر لكم تاريخا فنيا ينقله المؤرخون لنا ليل نهار، وتتناقله المواقع الفنية والصحفية وتتسابق في صياغته بطريقة تثير مشاعرنا، وهو في الحقيقة لا شيئ، هو وهم، هو خيال ابتكره كاتب لا أعرف اسمه ولا صفته، ونشره بين الناس فانتشر، إذ يقولون إن فيلم (سلامة في خير) الذي قام ببطولته طيب الذكر نجيب الريحاني، وأخرجه عظيم المخرجين نيازي مصطفى، وشارك فيه جمهرة من عظماء الممثلين مثل (فردوس محمد وحسين رياض ومنسى فهمي)، ومعهم العملاق القصير النحيف (شرفنطح) الذي اشتهر من يومها بنظرته الخبيثة، وغير هؤلاء عظماء لا يتكررون.

أفيش فيلم (سلامة في خير)

واعذروني يا سادتي الكرام، ففي هذا المقال لن أكتب لكم قصة الفيلم لأنكم شاهدتموه كثيرا، يكفي فقط أن أقول لكم إنه من أعظم الأفلام عبر تاريخ السينما المصرية، وكان الريحاني فيه عبقريا كما ينبغي أن تكون العبقرية، هو السهل الممتنع، هو المذهل خفيف الظل، هو الضاحك الباكي، هو نجيب الريحاني الذي لم تنجب السينما مثله إلى الآن، ولم يعرف المسرح شبيها له أو قرينا يقترب من قامته، المهم أن السادة أصحاب الخيال يقولون إن هذا الفيلم عاش في ظل مأساة تكررت مرتين، المرة الأولى هى ما حدث لممثلة كومبارس اسمها (أمينة ذهني) ! التي قامت بدور حماة نجيب الريحاني، صاحب الخيال كتب أن (أمينة ذهني) مولودة في الشرقية عام 1860 وأنها نزحت إلى القاهرة حيث عاشت في حي باب الشعرية الذي كان يسكن فيه نجيب الريحاني، وأنها كانت تضع أمامها على ناصية شارع (الفواطية) مِشنَّة ـ  والمشنة كما تعرفون هى وعاء مصنوع من الخوص نضع فيه الخضروات ـ والست أمينة صاحبة هذه الحكاية كانت تضع الجرجير والبقدونس وما إلى ذلك في تلك المشنة وتبيعها للناس لتكسب قروشا قليلة تتعيش بها مع ابنتها، وكان صاحبنا الكريم نجيب الريحاني الذي يسكن في باب الشعرية يمر يوميا من أمام (الست أمينة) بائعة الجرجير، وكان يعطف عليها ببضع قروش، فطلبت منه أنها إذا ماتت يتولى هو تربية ابنتها الصغيرة.

وكان من عطفه عليها أن طلب منها (وهي في السابعة والسبعين من عمرها) أن تقوم بدور حماته في فيلم (سلامة خير)، خاصة وأن هذا الدور لن يتجاوز ثلاثة أو أربعة مشاهد يمكن أن تؤديهم في يوم واحد، وهو دور أقرب إلى أدوار الكومبارس، ولن تتكلم فيه إلا بضع كلمات قليلات، فأخذها الريحاني إلى ستديو مصر، وقامت (الست أمينة) بتمثيل مشاهدها الأربعة التي لا تزيد عن دقيقتين في يوم واحد، وللعلم من المستحيل أن تكون تلك السيدة قد أدت دورها في الفيلم في يوم واحد، يعلم ذلك خبراء السينما عن إمكانات تلك الأيام، المهم يقولون إنها أخذت أجرها البالغ خمسين جنيها مرة واحدة عن الدقيقتين، وأوقف لها سيارة أجرة وطلب من السائق توصيلها لبيتها، ولكنها وهى في السيارة أخذت تعد الجنيهات الكثيرة التي حصلت عليها فلمحها السائق المجرم من خلال المرآة فانتوى بها شرا، فكان أن أوقف السيارة وقتل الست أمينة شر قتلة ثم حمل جثتها وألقاها من فوق تبة عالية في الصحراء مترامية الأطراف، وللأسف أكلت جثتها الذئاب، يا لها من نهاية مأساوية.

الست أمينة ذهني

ولأن القصة يجب أن يكون لها تكملة، إذ أن الصحف لم تنشر أي خبر عن مقتل الست أمينة الممثلة التي قامت بدور حماة نجيب الريحاني، ولم يحدث أي تحقيق جنائي في هذا الأمر، ولكي تكون القصة مقنعة يجب أن نضع لها نهاية لكي تكون عبرة لمن يعتبر، إذ يقال في رواية من روايات هذه القصة أن القاتل أصبح بلطجيا وقاتلا زنيما، إذ ارتكب بعد ذلك جريمة قتل وتم القبض عليه، ويقال في رواية أنه ارتكب هذه الجريمة بعد عشرين عاما من قتله للست أمينة، أي أنه ارتكبها عام 1957!، ويقال في رواية أخرى إنه ارتكبها بعد عدد من السنوات دون تحديد مدتها، ما علينا ولكنهم يقولون إنه حُكم عليه بالإعدام، وإنه أثناء تنفيذ حكم الإعدام وقبل أن يطبق الحبل على رقبته قال لمأمور السجن: أنا بعترف يا بيه إني قتلت ذات يوم من سنوات واحدة ست كبيرة ركبت معايا من عند ستديو مصر، وألقيت بجثتها في الصحراء، وعدت إليها بعد أيام فوجدت أن الذئاب أكلتها !! يالها من مأساة، ولكن من هي هذه السيدة؟، طبعا الرجل لا يعرف، وفي أي عام حدث هذا الأمر؟ لم يقل! وعندما سمع المأمور هذه القصة ذهب بعدها لصديق له من العاملين بالسينما وأخبره باعتراف القاتل فقال السينمائي للمأمور: سبحان الله، إنها أمينة ورب الكعبة، (ورب الكعبة هذه من عندي).

ثم لكي نعطي للقصة لمحة دينية قال مؤلف هذه الحدوتة إن مأساة (الست أمينة)، واعتراف القاتل عام 1957 جعلت نجيب الريحاني المتوفى عام 1949 يقوم بتبني إبنة السيدة العجوز التي كانت طفلة عام 1937 ، وينفق على تعليمها، ويتولى سفرها لأمريكا لإتمام تعليمها، ولرقة قلب الريحاني يشهر إسلامه عندما عرف باعتراف القاتل عام 1957، وهذه معجزة في حد ذاتها، الريحاني يشهر إسلامه بعد وفاته بثماني سنوات عجاف !! ولكننا سنغض الطرف، وسنقول إننا سنأخذ بالرواية المعتدلة التي تقول إن القاتل اعترف بعد عدة سنوات دون تحديد عددها، فيكون من الممكن أن يكون الريحاني اهتز بدنه وأيقن أن الله موجود، ولذلك يجب أن يخرج من إلحاده، ويشهر إسلامه!، ولكن الريحاني يا خلق هُوْ لم يكن ملحدا ولا كافرا ، فقط كان مسيحيا متدينا؟، لا ضير يا سادتي الكرام فعند من ألف القصة الإلحاد والمسيحية لا يختلفان !! وكله عند المؤلف الديني واحد، وكأن (الست أمينة ذهني) كانت داعية دينية.

ما علينا، أولا نبدأ من قصة إسلام نجيب الريحاني فنقول إنه مات مسيحيا كاثوليكيا، وتم دفنه في مقابر المسيحيين الكاثوليك بمصر القديمة، ولا تزال مقبرته قائمة شاهدة على ديانته، أما قصة إسلامه فيظنها البعض حقيقة لأنه كان صديقا للشيخ (محمد رفعت)، ومحبا له ومستمعا لترتيله للقرآن، ولكن (مكرم عبيد) كان أيضا صديقا للشيخ رفعت، وكان المحامي المسيحي (مرقس فهمي) صديقا للشيخ رفعت ولكبار شيوخ الأزهر، وسبق له وأن ترافع في قضية زنا وألقى اجتهادا فقهيا إسلاميا غير مسبوق، مات هؤلاء وهم على ديانتهم المسيحية، ولكن كما قال (مكرم عبيد) إنه مسيحي الديانة مسلم الوطنية، ويقول البعض إنهم عثروا على المصحف في بيت نجيب الريحاني وهذا يدل على إسلامه، ما شاء الله على الاستدلال!!.

مشهد من الفيلم يبدو فيه الريحاني وفرودس محمد وفي الخلفية (الست أمينة)

يا سادتي لقد عثروا على الأناجيل في بيت (عباس العقاد)، فهل هذا يدل على تحوله للمسيحية؟ يا سادتي، نجيب الريحاني كان فنانا مثقفا، فيلسوفا، واسع المعرفة، مطلع على ثقافات متنوعة، وآداب مختلفة، لذلك ليس من المستغرب أن يقرأ القرآن ويحفظ بعض آياته، وليس غريبا أن يستمع لصوت ندي جميل يرتل القرآن بعذوبة تخلب الألباب، ثم أن ابنة الريحاني بذات نفسها أنكرت قصة إسلامه هذه.

هذه قصة فاسدة ولكن ندخل إلى الأمر الآخر، وهو كيف علم مؤلف القصة تاريخ ميلاد (الست أمينة ذهني)، واسمها الرباعي (أمينة أحمد عبد العال ذهني)، وأنها ولدت عام 1860 في محافظة الشرقية، في حين أننا إلى الآن لا نعرف على وجه الدقة تاريخ مولد (محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم)، وغيرهما من بعض المشاهير، ومع ذلك سنصدق تاريخ مولدها، وهذا يدل على أنها وقت فيلم (سلامة في خير) كانت في السابعة والسبعين من عمرها، فكيف كانت لديها إبنة صغيرة تولى الريحاني تربيتها بعد وفاتها وأنفق على تعليمها إلى أن التحقت بجامعة أمريكية واستقرت إقامتها هناك!.

يا عالم، يا من تملكون عقولا، متى أنجبت هذه المرأة تلك الطفلة، وكم كان عمرها وقت مولد ابنتها؟، لو كان عمر ابنتها عشر سنوات حينها  فيكون معنى ذلك أن المرأة العجوز كانت في السابعة والستين يوم أن ولدت ابنتها!! هل تظنونها امرأة سيدنا زكريا التي أنجبت النبي يحي وهى امرأة عجوز؟!! هذه معجزة ورب السماء.

ومن باب الشيء بالشيء يذكر نقول إن نجيب الريحاني مولود في باب الشعرية، ولكنه ترك الإقامة بها منذ أن كان صبيا بعد أن تمرد على والدته التي رفضت رغبته في احتراف التمثيل، فطردته من باب الشعرية، وعاش الريحاني في الفنادق حينا من الدهر، ثم عاش في شقة صغيرة في حي الظاهر، ثم استقر مقامه في شقته بعمارة الإيموبيليا عام 1938 إلى أن مات بها عام 1949.

ثم ما حكاية الخمسين جنيه التي أخذتهم (الست أمينة) عام 1937 لتقوم بأربع مشاهد، خمسين جنيه مرة واحدة؟! .. يا عمنا ، يا سيدنا البيك، (حسين رياض) أخذ أجرا عن دوره في هذا الفيلم خمسين جنيها، وهو الذي كان البطل الثاني للفيلم، وأخذ في ذات العام خمسين جنيها عن بطولته لفيلم (لاشين)، ولك أن تعلم أن محمود ياسين بجلالة قدره أخذ عشر جنيهات عن أجره في فيلم (شيء من الخوف) عام 1969 ، وكانت أجور الكومبارس في فترة الثلاثينيات والأربعينيات لا تتجاوز بضعة جنيهات أو قروش قليلة، فكيف يصل أجر (الست أمينة) إلى هذا المبلغ الخيالي في هذا الوقت؟.

مشهد من فيلم (سلامة في خير)

ومع ذلك ، سنقول إن السائق قتلها ليسرق ثلاث جنيهات لا غير، وسنصدق قصة إن القاتل اعترف لمأمور السجن عند تنفيذ حكم الإعدام بجريمته الأولى، وقتها لن يكون هذا الاعتراف مجرد قصة طريفة يرويها المأمور لصديقه السينمائي الذي سيقوم بنشرها ـ علما بأن أحدا لم ينشرها إلا في عالم الفيس بوك، ومواقع الانترنت – ولكن المأمور عندما يصل إليه خبر جريمة أخرى عند تنفيذ الحكم فإنه سيقوم بتنفيذ القانون، والقانون يقول إنه سيوقف تنفيذ حكم الإعدام مؤقتا ويرفع أمر الجريمة الأخرى للنائب العام، إذ لربما تكون الجريمة الأخرى قد نُسبت لشخص بريء، ويكن قد دخل هذا البريء السجن عن جريمة لم يرتكبها، ولكن هذا كله لم يحدث لأن القصة كلها مختلقة، وخيال المؤلف كان ناقصا فلم يعالج الثغرات، ولم يروها أحد في الصحف أو المجلات إلى أن عثرنا عليها في حفريات النت.

أما أين ذهبت (الست أمينة ذهني)؟، الله أعلم ، هى كومبارس، والكومبارس لا يهتم بهم أحد إذا اختفوا، المهم أن هذه القصة مختلقة، ولكي نتأكد من ذلك الاختلاق سنكتب لكم في المقال القادم عن جريمة أخرى ابتكرها عقل خيالي نتعلقة بفيلم (سلامة في خير) أيضا، فإلى لقاء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.