رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

براعة الصمت والحركة والسكون عند نيللي كريم في (ضد الكسر)

الصمت الموحي عند نيللي كريم يؤكد براعتها في التجسيد

كتب : محمد حبوشة

ربما يكون مشهدا قصيرا في مساحته الزمنية التي لا تتجاوز الدقيقتين إلا قليلا، لكن يبدو دالا جدا في فحواه، حيث عبرت النجمة نيللي على جناح الصمت والإيحاء عن مشاعرها الداخلية في رمانسية حالمة تلامس أطراف الإبداع في التجسيد الدرامي في تأكيد واضح على أنها ممثلة تعرف مواطن الشجن والدفء الإنساني، ففي وسط الخلافات الحادة وظروف الحياة الضاغطة على شخصية (سلمى) عاشقة الطبخ تخرج علينا نيللي من بين المشاهد التراجيديا بابتسامة خجول تشير إلى حرفيتها في التجسيد الدرامي الحي في المشهد الأخير من الحلقة 30 ليكون ماستر سين الحلقات كلها في نهاية تبدو متفائلة رغم أن الحلقات الـ 29 كانت مشحونة بالتوتر والخيانة والقلق، فضلا عن الأكشن البوليسي.

حالة من الاسترخاء بدت كلوحة تشكيلية ثرية بالألوان

ربما لا تحتوى قصة مسلسل (ضد الكسر) على حبكة درامية محكمة من جانب المؤلف (عمرو الدالي) الذي تصدر ورشة الكتابة هذه المرة، حيث وقع في أخطاء ساذجة في لعض الأحين وفي بعضها الآخر أصاب المسلسل قدر من الملل في بداية الحلقات الأولى، لكنه نجح بعد الحلقة السادسة والسابعة في صنع أجواء غامضة ومشوقة، حيث تأخذنا (سلمى) نجمة (السوشيال ميديا) إلى محطات من حياتها بين الحاضر والماضي، عبر أحداث اتسمت بالسرعة إلى حدا ما فيما بعد رغم أنها بدأت من نقطة ساخنة بحادث مروع، تعرضت فيه لمحاولة قتل داخل فيلتها، تدخل على أثرها المستشفى وتعاني من غيبوبة، ما يضع كل مَن حولها في محل شك، لا سيما زوجها (كريم)، لا سيما بعد وجود خلافات حادة بينهما.

وقد نجح المسلسل إلى حد معقول في أن يزيح الستار عما يعاني منه المجتمع العصري في ظل انتشار المنصات والتطبيقات الإلكترونية، مسلطا الضوء على الحياة الزائفة ذات المسافات الواسعة بين الواقع الموجع أحيانا والمظاهر الخادعة دوما، فيفاجئنا المؤلف بأن (اللمة العائلية) التي نظمتها سلمى احتفالا بالانتقال إلى منزلها الجديد ما هى إلا لمة مغلفة بدفء كاذب، حين نكتشف أن زوجها (كريم / محمد فراج) غارق في خيانته لها، وأن أختها (ملك / تارا عماد) تكن لها كل الحقد، وقد تأتي الخيانة أيضاً من جانب صديقتها المقربة (نادين) التي تجسدها لقاء الخميسي!

سلمى تتأمل موج البحر وتقلباته

ما بين الحارة بأزقتها الصاخبة وعشوائيتها البارزة وأثاث منازلها المتواضعة والكمبوند بمفرداته الهادئة وتنسيقه المعماري شديد التأنق وديكور فيلاته الأنيقة وتوابعه من مطاعم ونواد ليلية فاخرة تحظى بالصخب والضجيج يتنقل أبطال العمل ومعهم المشاهدون الذين يرصدون التطلعات الواضحة بالمسلسل، لا سيما تطلعات (سلمى) وشقيقتيها، ما بين الثراء السريع وأحلام الانسلاخ عن طبقتهن الاجتماعية قفزا إلى طبقة أخرى، ويعد المشهد الأكثر تعبيراً عن ذلك حتى الآن هو مشهد تارا عماد مع زوجها (مصطفى / حمزة العيلي) السعيد بسهرة هادئة أمام التلفزيون، وكل حلمه تناول وجبة مشويات من الحاتي، بينما تنشغل هى بمتابعة فيديو لأختها تبثه من سهرة صاخبة بناد ليلي، وقد ظهر على ملامحها الانبهار الشديد بسعادة أختها (البراقة الخادعة) في حين تقع الأخت الصغرى في مشكلة كبيرة خلال الحلقات القادمة بسبب انخداعها هي أيضاً بالمظاهر.

ويحسب للمؤلف أنه لأول مرة يتم طرح شخصية (مدونة طبخ) في الدراما المصرية، والحقيقة أن المؤلف نجح في أن يدراي على بعض عيوب السيناريو بأن ينتقل من الكوميديا التي قدمها العام الماضي عبر مسلسل (بـ100 وش) إلى دراما الغموض والتشويق، ولو أنه اعتراه بعص القصور في الحبكة الدرامية المحكمة، فضلا عن الحشو والتطويل في أحداث المسلسل، لكن نظرا لأن نيللي كريم ممثلة موهوبة أمكن للمؤلف الاستناد إليها مطمئناً حيث برعت من قبل وستبرع هذه المرة في تجسيد شخصية صعبة ومركبة مثل (سلمى)، تتلون وتتشكل وفقا للدور وفي الوقت نفسه معروف عن نيللي أن مريحة للغاية في العمل حيث تحترم الورق ونفدت تعليمات المخرج (أحمد خالد) على نحو جيد ما كتب للمخرج النجاح في خلق إثارة تكفل للمسلسل المنافسة الشرسة هذا العام.

أيضا تميز أيضا أداء محمد فراج لشخصية زوجها (كريم الدمنهوري) بكل تناقضاته وصراعاته الداخلية وازدواجيته المستفزة، وتأتي إطلالة تارا عماد بالحجاب والانتماء لمنطقة شعبية مفاجأة للمشاهد الذي اعتاد رؤيتها في إطلالات أخرى، وبالطبع كان هشام إسماعيل مفاجأة كبيرة في تجسيد دور المحقق أو ضابط البوليس بشكل انسيابي ينم عن موهبته وطاقته التمثيلية، لذا قدم دور الضابط بشكل رائع، وأداء سلس غير تقليدي، وكذلك الحال مع شخصية (مصطفى) التي جسدها (حمزة العيلي) بطريقة غاية في الروعة ما يؤكد صدق موهبته التي نشير لها ونتمنى أن ينتبه لها المخرجين والمنتجين بشكا يتناسب مع إمكاناته الكبيرة في التمثيل، وأيضا مصطفى درويش في دور الندل (صلاح العمري) الذي لعبه بحرفية وإتقان.

مع الهواء الطلق على الشاطي تعيد حساباتها مع كريم

لكن نيللي بحكم حرفيتها استطاعت أن تتجاوزر بعض العيوب الموجودة بالورق وتسمو بمشاعرها المتدفقة وحيويتها وخفة حركتها وظلها بين الحين والآخر، وظلت طوال الوقت تصنع حالة إبداعية خاصة تثبت براعتها وقوتها كممثلة متمكنة من أدواتها، وهنا تكمن تكمن أهميتها في التقمص وفي مقدرته على فهم الشخصية والدور الذي يلعبه، في إشارة واضحة إلى إن امتلاك الممثل لطاقة خلاقة قادرة على تفهم الدور، هو ما يجعل الممثل متمكنا من وقادرا على التفاعل مع الجمهور مهما كان ضعف القصة.

إن الممثل الجيد يبني في نفسه عادة ملاحظة الآخرين وتذكر طريقة تصرفهم. فلو قبل ممثل دور رجل عجوز، على سبيل المثال، فيمكنه التحضير للدور جزئياً بملاحظة كيف يمشي المسنون وكيف يقفون وكيف يجلسون ، بعدها ، يمكنه تطبيق هذه الحركات لتتماشى مع الشخصية التي يريد تأديتها، تماما كما فعلت (نيللي) في تفاعلها وخفة حركتها مع شخصية المدونة (سلمى) في صولاتها وجولاتها في الحياة والمطبخ وعلاقاتها بالآخرين ممن حولها مرورا بحالات مختلفة تتقلب بين التراجيديا والكوميديا الخفيفة النابعة من روحها، وهنا دلالة واضحة أنها من النوع الذي يتعلم الممثل كيف يستجيب أناس مختلفون لنفس العواطف (مثل السعادة والحزن والخوف) بطُرق مختلفة .

ويمكن للممثلين تطوير ذاكرة عاطفية تمكنهم من استرجاع الموقف الذي أوجد عندهم رد فعل عاطفي مماثل لذلك الذي يودون تأديته، غير أن هذه طريقة تمثيل معقدة ولا يجب استخدامها إلا بعد أن يطور الممثل فهما شاملا وعميقا لها،وهذا أمر لايخفى على ممثلة بحجم (نيلي كريم) التي تغيرت كثيرا وبأوجه مختلفة عبر الشخصيات التي جسدتها على مدار رحلتها، وهى من الممثلين الذين يجيدون فهم الآخرين بفهم ذواتهم وقدراتهم العاطفية قدر المستطاع، وإنهم يصورون الآخرين باستعمال معلوماتهم عن أنفسهم وتطوير نوع من التحكم بالاستجابة بعواطفهم .

من ملاحظاتي الدقيقة في أثناء المشاهدة أدركت أن (نيللي كريم) تعرف كيف تتحكم في منطقة الرأس، وهى المنطقة التى تعلو الكتفين حتى أطراف الشعر وأى تعبير يصدر من هذه المنطقة عندها يحمل في طياته إيماءة كايماءة بالرفض أو بالقبول بشكل أفقى أو رأسى أو تعبير من قسمات الوجه، كما تدرك جيدا كيف توظف منطقة الجذع،  وهى المنطقة التى تختص بتغيير الاتجاه أو زاوية اتجاه الجسد، و أى تعبير لديها يصدر من هذه المنطقة يرمز لاتجاه، فمثلا عندما تتجه ناحية اليمين أو ناحية اليسار في أثناء تصوير فديوهاتها اللايف فإن ذلك يشير إلى دلالة معينة عند الشخصية.

كما تجيد (نيللي) التحكم في منطقة الأطراف، أي الذراعان والقدمان فالتعبير الصادر من الذراعان  كما لاحظت في أدائها لمشاهد مختلفة لـ (سلمى)، فمثلا عندما يشير ناحية اليمين أو يشير ناحية اليسار يؤكد في ذات الوقت على التعبير الصادر من القدمان كالحركة الى الأمام أو إلى أحد الأجناب أو إلى الخلف، ناهيك عن صوتها الذي هو جاء من منطقة القرار في أغلب المشاهد معبرا برقة عن الأحاسيس والمشاعر والانفعالات الداخلية والخارجية للشخصية .. باختصار تبدو لغة الجسد عندها واضحة المعالم وصادقة للغاية.

ظني أن نيللي كريم بحكم ممارستها لفن البالية أصبح لديها خبرة كافية للتميز بحساسية كبيرة وهو ما ظهر جليا في ممارسة حركات متنوعة عبر إدارة الرأس مع الارتخاء التام للرأس إلى الوراء وإلى الأمام من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين وتكون الدورات بطيئة و يتم تسريعها بتدرج حركة أفقية مرة إلى الأمام ومرة إلى الخلف، حركة أخرى بإسناد الرأس وبغير إسناده، تحريك الفك الأسفل عموديا وأفقيا، تحريك الشفتين دون الفك الأسفل في اتجاهات مختلفة، تحريك العينين أفقيا وعموديا و بإدارتهما في المحجر، وغيرها من حركات يتضمنها أدائها بطرق تلقائية ربما لا ينتبه لها الجمهور العادي من فرط اعتيادها على ذلك دون تعمد ظاهر من جانبها.

كريم يقتحم عالمها الرومانسي مؤكدا حبه لها
سلمى أنا مش جاي أتكلم في أي حاجة
أنا عارف اني مهما عملت مش حتصدقي إني بتغيير

بلغت (نيللي) ذروة التألق في المشهد الأخير، ورغم أنها لم تنطق بكلمة واحدة إلا أن حساسيتها وكفاءتها وتعبيراتها الصادقة جسدت الحالة بشكل يعكس خبرتها الطويلة في التعامل مع شخصية تتأرجح بين التراجيدي والكوميدي كما جاء هذا المشهد الذي أعتبره (ماستر سين) الحلقات على النحو التالي:

تفكر جيد وهى تتجه إلى البحر في كلام (بيومي فؤاد) لها بأن تعطي لنفسها فرصة أخيرة للجلوس مع (كريم) الذي مازال يحبها رغم ما حدث طوال الحلقات الـ 29 السابقة، ومن هنا وقفت على الشاطئ شاردة تفكر في الأمر، ثم وجهت رأسها نحو البحر مصحوبة بموسيقي ناعمة على إيقاع الكمان، وشردت فيما يمكن أن تفعله في أيامها القادمة، ثم ذهبت إلى نهاية لسان صخري تتأمل الموج ولون الماء الأزرق حتى دخل عليها (كريم) قاطعا خلوتها وسط حالة الصمت تلك.

كريم : سلمي أنا مش جاي أتكلم في أي حاجة أنا جاي أباركلك بس (يقصد افتتاح مطعمها الجديد).

سلمي تدير رأسها بزاوية أفقية وتنظر إلى وجه مريم في تأمل يعكس الحيرة بين التصديق والنفي.

كريم : بصراحة كمان عاوز أشوفك .. وحشتيني.

تهز رأسها مصحوبة بابتسامة فاترة، لكن كريم يفاجأها بحركة غير متوقعة حيث يقبض بيده على يدها.

كريم يرفع يدها قائلا: أنا عارف إني مهما عملت مش حتصدقي إني ممكن اتغير .. بس صدقيني دي الحقيقة .. أنا اتغيرت يا سلمى وعرفت قيمتك بجد.

عيني سلمي تعكسان بداية تصديق ما لكريم.

كريم : أي نعم أنا بقيت ع الحديدة.

عند إذن تنظر (سلمي) من أسفل إلى أعلى بابتسامة تدلل على بداية مصداقية كلامه.

أنا باحبك ياسلمي .. باحبك

كريم يكمل حديثه : بس مش مهم .. فداكي كل حاجة

ترفع سلمي رأسها بابتسامة رضى وموافقة ضمنية على العودة لكريم

كريم : بتهيألي عندي فرصة أبدأ معاكي من جديد.

تهز رأسها وفي تنهيدة بسيطة وتصحبه نحو الشاطئ قاصدين المطعم.

كريم بعد أن توقف فجأة وسط الطريق : سملى أنا معنديش استعداد إني أخسرك تاني يا سلمى .. أبدا .. أنا مش عايزك تردي عليا دلوقتي .. خدي وقتك وفكري زي ما انتي عايزه إن شالله تقعدي سنين حاستنى .. أنا بحبك يا سلمى، وفي انحناءة رأسه نحو اليمين يردد الجملة ثانية: باحبك .. ثم يقبل يدها.

بعد نظرة طويلة وبلغة العيون التي تعكس الرضا والقبول يكملان الطريق إلى المطعم مع اتفاق ضمني بمواصلة حياتهما سويا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.