في السينما: يا عزيزي كلنا أصدقاء
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
كلنا لنا أصدقاء، وكلنا مر بخيبة أمل من بعض الأصدقاء، ولكن الدنيا لا تسير على وتيرة واحدة، فإذا كان هناك الصديق الخائن فهناك أيضا الصديق الوفي، والصديق الخائن نفسه قد تنقلب الأحداث ويصبح وفيا، والعكس أيضا يحدث، هاتان هما الصورتان الغالبتان للصديق في الدراما، إما أن يكون مخلصا، أو أن يكون خائنا، والصديق المخلص ظهر في معظم الأعمال الفنية المصرية بشكل الصديق التابع، فلا نعرف شيئا عن حياته الخاصة، ولا مشاكله، ولا طموحاته، ولا حتى عمله، هو فقط صديق للبطل، يعمل على نصرته في كل وقت، هو إسماعيل ياسين مع فريد الأطرش، الذي لا يفكر إلا في صناعة مجد صديقه المطرب، وهو عبد السلام النابلسي مع فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، وهو فؤاد المهندس مع عمر الشريف في فيلم نهر الحب، ومع عبد الحليم حافظ في معبودة الجماهير، ومع صالح سليم في الشموع السوداء، هو عبد المنعم إبراهيم في عشرات الأفلام.
والملاحظ أن الصديق هنا هو الصديق صاحب الحس الفكاهي وكأن هذه الشخصية كان يتم صنعها لتضيف إلى العمل مساحة من الكوميديا ليس إلا، لذلك لم يهتم كتاب الدراما برسم شخصية صديق البطل بحيث يكون أحد محاور الصراع الدرامي، أو أن يكون له دور في تصاعد الأحداث الدرامية، إذ اكتفوا بأن يكون دوره ثانويا مهما كانت مساحته في العمل، فقد كان البطل هو الذي تدور حوله أحداث العمل، وأغلب الأحداث تُبنى حول شخصيته، أو قل إن البطل هو الذي يحمل القصة كلها على كاهلها، لكن لا يمكن أن تكون الأحداث كلها مرتبطة بالبطل وحده دون غيره، ففي الأعمال الدرامية، وفي فنون السرد الروائي يجب أن تكون هناك شخصيات أخرى، منها شخصيات قد يبدو أنها أقل أهمية من هذا البطل، لكن لا يستقيم العمل وتصاعد أحداثه من دون الشخص الذي هو في الغالب شخصية صديق هذا البطل، ولكن معظم كتاب الدراما عندنا عندما رسموا هذه الشخصية جعلوها شخصية باهتة، بل في بعض الأحيان كان من الممكن الاستغناء عنها، ورغم براعة الفنانين الذين قاموا بهذه الأدوار، سواء اسماعيل ياسين أو عبد السلام النابلسي او عبد المنعم ابراهيم إلا أن المؤلفين لم يهتموا إلا بجعل هذا الصديق مجرد شخص خفيف الظل يلاصق البطل في كل الأحداث.
وللمقارنة هنا سنرى هذا الصديق في السينما العالمية صاحب دور رئيسي لا يمكن الاستغناء عنه، فمثلا إذا رأيتم فيلم “وداعا شاوشنك” الذي قام ببطولته الفنان العالمي متعدد المواهب “تيم روبنز” ومعه الفنان العالمي “مورجان فريمان” سنجد قصته تدور حول الهروب من أحد السجون، تيم روبنز في القصة تم حبسه ظلما، ومدة السجن في هذا السجن الكئيب طويلة، ويتعرف في السجن على المسجون مورجان فريمان، ومع الأحداث نعرف بالتفصيل قصة كل واحد منهما، وتفاصيل شخصيتيهما، وكيف تكونت الصداقة بينهما، ولماذا كان لكل واحد منهما اتجاهه المختلف عن الآخر في فكرة الخلاص من هذا السجن، فروبنز ظل يفكر ويضع الخطط لكي يهرب، أما مورجان فلم ير أهمية لهذا الهروب لأنه سيخرج بعد سنوات، ولكنه في ذات الوقت يساعد صديقه روبنز أولا في التغلب على مشاكل السجن، وإجرام بعض المساجين، ثم يساعده في الهرب، إلى أن يلتقي به في النهاية على شاطئ المحيط. مثل ذلك ستجده في فيلم “سلام يا صاحبي” بطولة عادل إمام حيث كان صديقه سعيد صالح، ومن سياق الأحداث نعرف طبيعة شخصية كل واحد منهما، وكيف أصبحا يدا واحدة، وأصحاب طموحات واحدة، بحيث الواحد منهما مثل الآخر تماما، وكيف انهما اتحدا لمواجهة كبار تجار السوق السوداء، أو مافيا هذا السوق.
وهي قصة نموذجية في كيف يكون لصديق البطل دورا موازيا للبطل، بحيث لا يمكن الاستغناء عنه لأنه شخصية محورية، وفي فيلم “الزهايمر” يستدعي البطل عادل إمام في ذاكرته شخصية صديق عمره “سعيد صالح” وقد استعادها عندما وجد أن الوفاء انعدم في الجيل الجديد، وكأنما كان يريد التأكيد على أن الوفاء سيظل موجودا، وقد كان استدعاء هذا الصديق له رمزيته، إذ عندما ذهب يبحث عنه في دار من دور المسنين وجده قد أصيب بالزهايمر، والرسالة التي يرسلها لنا هذا الموقف هو أن الصداقة كانت فيما مضى فقط، هي الآن في دار المسنين، ثم انها فوق ذلك فقدت ذاكرتها الطيبة، الصداقة الآن أصبحت مشوشة، وقد نجح عادل إمام بامتياز في تشخيص حالة الحسرة التي أصابته عندما رأى صديقه ـ أو الصداقة ـ على هذه الحالة، كما نجح سعيد صالح في تجسيد الصديق، أو الصداقة، التي فقدت ذاكرتها.
والخيانة كان لها وجودها أيضا، فلا يمكن للحياة أن تمر دون أن يكون بيننا من يخون، ولن يكون لك في الحياة أصدقاء إلا إذا كان منهم من خانك، والخيانة لها أسبابها، فقد يكون سبب الخيانة هو الحقد والحسد، وهي مشاعر كثيرا ما تدخل إلى قلوب الناس، فمنا من يطهر قلبه من آثام القلوب، ومنا من يجعلها واقعا في حياته، وقد استطاع كاتبنا العبقري نجيب محفوظ تجسيد شخصية الصديق الخائن في فيلم “اللص والكلاب” فسعيد مهران اللص الذي قام بدوره شكري سرحان يتم القبض عليه بسبب خيانة صديقه “عليش سدرة” الذي قام بدوره زين العشماوي، الذي أبلغ عنه وأوقع به، وكان يبتغي من ذلك الزواج من زوجة سعيد مهران بعد أن يتم تطليقها منه بسبب السجن، وعندما يخرج سعيد مهران من السجن يجد صديقه الصحفي “كمال الشناوي” قد أصبح صحفيا لامعا، فيتنكر له، ويجد عليش وقد تزوج من زوجته، فيسعى إلى الانتقام من الجميع إلى أن تقتله الشرطة في النهاية، وقد كانت شخصيات هذا العمل على أعلى ما يكون من الضبط، كل شخصية أعطاها المؤلف صفاتها، ومبرراتها، وكلها لا تصلح إلا أن تكون كذلك، لذلك فإن قيمة العمل إنما تُستمد أولا من التأليف، ثم يأتي الإخراج بعد ذلك.
وفي فيلم الأرض نجد أن أصدقاء محمد أبو سويلم الفلاح الأصيل قد وقعوا في الخيانة، فتركوه بعد أن حصلوا هم على مصالحهم، وكانت أبرز صور الخيانة متجسدة في “الشيخ حسونة” الذي أدى دوره الفنان يحي شاهين، فبعد أن قدم من المدينة ليقف مع صديقه محمد أبو سويلم في مواجهة الإقطاعي، إذا به يتخلى عنه ويهرب بعد أن اشتراه البك الإقطاعي بأن جعل الطريق الذي يتم إنشاؤه إلى قصر البك يمر بعيدا عن أرض الشيخ حسونة، ولأن القصة للكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي لذلك كانت شخصيات الرواية مرسومة بدقة، بما فيها مطامع النفس التي تجبر الإنسان أحيانا على مخالفة ضميره، وفي فيلم “أدهم الشرقاوي” قام بدران أو مغاوري الذي ادى دوره توفيق الدقن بخيانة صديقه المقرب أدهم الشرقاوي “عبد الله غيث” وأبلغ عنه وترتب على ذلك الإيقاع به وقتله.
أما القصة العالمية “الكونت دى مونت كريستو” التي تم تمصيرها وتمثيلها في العديد من الأفلام كان منها (أمير الدهاء، وأمير الانتقام، ودائرة الانتقام)، فقد كانت تدور حول مجموعة من الأصدقاء قامت بخيانة صديقهم الطيب الشهم، فأبلغوا عنه كذبا لرئيس الشرطة متهمين إياه بارتكاب جريمة ما، فيتم حبس هذا البطل الطيب عدة سنوان، ثم يهرب من سجنه ويعود للانتقام من هؤلاء الأصدقاء الخونة، وقد كانت أحداث تلك القصة في صورها المتعددة تدور حول خيانة الأصدقاء، لذلك كانت الاهتمام الأكبر هنا بشخصيات هؤلاء الخونة والمغانم التي حصلوا عليها بسبب خيانتهم هو الخط الدرامي الرئيسي في هذا العمل، وهو المحرك الأكبر للأحداث فيه.
والدراما المصرية مليئة بالأعمال التي تدور حول الصديق الخائن، ستجد تلك الشخصية في فيلم (إبراهيم الأبيض) حيث قام عمرو واكد بخيانة صديقه إبراهيم، حتى أن ابراهيم يسأله بعتني بكام؟! وستجد قديما محمود المليجي في فيلم (لك يوم يا ظالم) وهو يقتل صديقه بإغراقه في النيل بسبب حقده عليه والضغينة التي كانت تملأ قلبه من ناحيته، ثم يتزوج من أرملته وينهب أموالها، إلى أن يموت في نهاية الفيلم غريقا في مغطس في حمام شعبي جزاءً وفاقا، والجيد في معظم الأعمال الفنية أن الخائن كان يلقى الجزاء دائما، اللهم إلا في القليل من الأعمال مثل “اللص والكلاب” حيث نجا كل الخونة، وقُتل الصديق المغدور به الذي كان يريد أن ينتقم منهم، وقد كانت تلك النهاية عبارة عن رسالة واضحة، فقد كان يقول لنا: (في الحدوتة يدور الصراع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، الوفاء والخيانة، وفي النهاية ينتصر الخير وتعلو راية الحق، ولكن الدنيا غير ذلك، فالخيانة ستظل باقية في حياتنا ما حيينا، والباطل ستعلو رايته كثيرا).