رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

إبراهيم رضوان يكتب: (محمود رضوان).. سمك الصينية.. (1)

بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان

فجأة قالت لي زوجتي (اعتدال الجمل) سمك الصينية ده.. كان بابا (محمود رضوان) الله يرحمه بيحبه جدا.. أنا أيضا أحبه جدا.. لكنني لا أجرؤ على الاقتراب منه.. لسبب غريب للغاية احتار فيه الأطباء.

تصيبنى أزمه قلبية عنيفة.. كلما أكلت شيئا لا يعجب المعدة.. أحاول دائما الاعتماد على شوربة الخضار .. وللتنوع  أضيف  لها أحيانا شرائح الباذنجان.. وأحيانا قطع (البوروكلي).

بعد أن فشلت فشلا ذريعا قبل ذلك في العثور علي (قرنبيطة) واحده.. وبأي ثمن في كل أسواق مصر.

عاودت النظر إلى (سمك الصينية).. بخارها يتسلل إلى أنفى .. إلى كهوف الذاكرة.. خرج لى أبى (محمود رضوان) من إحدى مغاراتها في زيه العسكرى.. هذا الرجل العظيم.. أول من شجعني علي الكتابة.

كان يرتدي زيه العسكري.. مستقلا القطار إلى  القاهرة.. ساعيا هناك في كل الزوايا لمقابلة الفنانين.. وعرض إنتاجي عليهم..  رغم أنني حينها..كنت في مرحلة الطفولة..

تنهدت.. ودقات قلبى تضرب صدرى في قسوة.. قلت لزوجتي متجنبا  النظر إليها :

لماذا الكلام في سيرته الآن؟

قالت وابتسامتها الدائمة تنفرج أكثر:

و إيه اللي خلاك تقترح أعمل (سمك الصينية) النهار ده مع انك مش هتاكل منها؟

جرجرت ابتسامة إلى شفتاي..  لم أعد قادرا علي الضحك منذ خروجي من معتقل طره السياسي.. ثمنا لديوانى (الدنيا هي المشنقة).

يخايلنى والدي واقفا امام الكهف.. يتشمم (سمك الصينية) بيننا متلذذا

والدي يتشمم (سمك الصينية)

ما زال والدى (محمود رضوان) ببزته العسكرية.. يخايلنى واقفا امام الكهف.. يتشمم (سمك الصينية) بيننا متلذذا.. مكررا (الله) فاكر لما قلتلك عايزه اشوف بابا.. وأتعرف علي الإنسان اللي جابك ليا علشان تسعدني..وانك أكيد طالع حلو له.. بس أكيد كمان هو أحلي منك بكتير.

ابتسم لى أبى أمام المغارة مضاحكا:

طبعا أحلى منك يا واد.. تقدر تنكر؟.. هاهاها

إبراهيم .. إبراهيم .. سرحت في ايه؟

رفعت ملعقة شوربة الخضار المتلكئة إلى فمى.. احتسيها في بطء

مفيش!

يوميها أول مرة أشوفك وانت مخنوق بالدموع.. والناس حوالينا في نادي المعلمين بطلخا.. استغربت يومها لأني عارفه ان والدك عايش.. ما حاولتش اسألك عن سبب دموعك  احتراما لمشاعرك.. شفتك بتدخن  أكتر من علبة سجاير.. وكنت بتبلع الدخان وتكح!

التفت لى أبى من أمام المغارة محتدا:

مش قايلك الدخان داه هايمرضك يا (إبراهيم).. مفيش رجى منك أبدا.. يا سااترر!

حاولت أخرجك من الجو ده.. ولأني عارف إن الشعر حياتك.. قلت لك ماتسمعني شعر.

رديت عليا وقولتلي:

عندك الراديو..افتحيه في أي وقت هاتسمعي قصايد ليا .

إلتفت إلى أبى (محمود رضوان) أمام المغارة وأنا  أشكو له:

بأكتب يا أبا.. وولاد الكلب يقبضوا أذون الصرف.. بيستغلوا طيبتي ويسرقوني.

يشيح أبى بيده ممتعضا:

طول عمرك خايب وعلى نياتك .

في هذا الوقت.. كان في جيبي قصيدة.. لو أسمعتها لها.. كانت ستعرف سر هذا البكاء الذي استمر نشيجه يخالط نسيج الروح  حتي الٱن.. هذه القصيدة ظلت قابعة في ظلمة درج المكتب إلى اليوم.

قلت لها:

لو مصرة تعرفى شوفى اللى هارفعه على صفحة الفيس بوك بتاعتك بعد شوية .

التفت ناحيتى أبى(محمود رضوان).. و كأنه يعرف ما سأنشره.. و كأنه يدرك أنه هو الآخر لن يتحمله.. استدار يخطو مبتعدا لتبتلعه ثانية ظلمة المغارة .

التفت محاولا التبصر داخل ظلمة المغارة.. بالكاد كنت أرى شبح ظهره ببزته العسكرية

(اعتدال) منخرطة في نوبة بكاء

كتبت القصيدة علي صفحتها الخاصة.. بعد ساعة  وأنا احتسى كوب الشاي.. تناهى إلى نشيجها .. أسرعت إليها.. كانت (اعتدال) منخرطة في نوبة بكاء حاد.. أخبرتني أن القصيدة أرهقتها نفسيا.. و أنها أدركت اليوم أن  الدموع كانت أقل ما يمكن أن يعبر عن أشواكها .

التفت محاولا التبصر داخل ظلمة المغارة.. بالكاد كنت أرى شبح ظهره ببزته العسكرية.. واقفا و كأنه ينتظرنى حتي ألقى عليه كلمات القصيدة قبل أن يغيب.. رددتها هامسا :

كنت مراقبك..

وانت حزين في الأوضه الضلمه..

هناك مراقبني

في عنيك عتمه ودمع مجفف بيغربني

كنت كسير يا حبيبي يا بويا

يا (محمود رضوان) الأصلي

فصلي وأصلي

كنت ضعيف يا ضنايا وضعفك

كان بيزود حزني عشانك وبيتعبني

وبيضربني..

بكرباج حزني عليك الزايد..

جدا يا ابه

شلل الإيد والرجل مخلي العيله غلابة

فين جبروتك

فين تكشيرك

فين تكسيرك لما تلاقي القلل الفاضيه..

فاضيه ف بيتك

فين إسرافك.. رنة صوتك

واستقبال روحك لضيوفك

كل الناس كانت بتشوفك..

أعظم (صول) في الدنيا الواسعة

أرجوك خبي عليا الدمعة

أنا يا حبيبي مقدر جدا كل ظروفك

ما انتش عايز حد يشوفك

حاضر يا ابه

مش هانخلي يا نخلة روحنا..

حد يشوفك

أوقات تمشي في قلب الصالة..

بتعرج جدا و بتتداري

وساعات نلمح لما تنخ..

تقع من طولك

نلمح جوه الصرخه مرارة

وساعات تانية تبص علينا..

بعدين تاني تهز كتافك

ما انتش عايز حد يشوفك

كل الناس يا حبيبي بتسأل دايما عنك

ما انت ملك في المركز كله

إنسان عمر الضعف ما ذله

ما انت ملك في السوق الفاضي..

بدون ما تزوره

كنت بتصبح نوره.. وصوته..

وخوخة.. وعنبة.. وقمحة..

 وتوتة

فاكر جري الناس لسيادتك..

وانت بترفع إيدك ليهم

فاكر.. قول.. إيه اللي جرالك

ساكت ليه.. مالك.. مش عادتك

أيوه يا ريت تأمرني سعادتك

ما انت السيد.. وانت سندنا

وانت خادمنا الدافي وسيدنا

إيدك ليه مشلولة وهي..

كانت لو نحتاج تساعدنا

لو نخينا في يوم تسندنا..

تاخد إيدنا

يا اللا أسعدنا وقوم اتكلم

مش عايزك يا كبير تتألم

كرسي القهوه ما زال مستني..

رجوعك تاني لكل صحابك

ليه قافل عليّ، نفسك بابك

أرجوك رد عليا.. دموعك بتعذبني

كرباج فوق الضهر المحني..

 عليك يا حبيب أيامي الغامقة..

بيزيد فيا آلامي وتوهتي..

و بيضربني

أنا مش عايز ربك أبدا ..

يوم يعاقبني

لو قصرت في حقك لحظه

أو راح أقصر

أنا حاسس إنك متأثر

أيوه كأنك..

ليل ونهار واخد على خاطرك

من أفعال الدنيا معاك..

يا نجوم أيامنا

ما احنش سامعين نص كلامك

ما انتش سامع نص كلامنا

أما النص التاني سمعته

أيوه كأنك جوه الروضة

بس أنا سامع صوت في الأوضة

كان الله عنك يا حبيبي.. بيكلمنا

و للحديث بقية..

من كتاب (مدد.. مدد)

سيرة ذاتيه لبلد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.