رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

الريجسير المصري (قاسم وجدي) يحاور الراقصة العالمية (جوزفين بيكر) لمجلة (الصباح)

إعداد : أحمد السماحي

(جوزفين بيكر) –  Joséphine Bakerـ تمتعت بنجاح هائل على المسرح في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، ولدت في (سانت لويس بولاية ميسوري) عام 1906.

وأذهلت الجماهير برقصها المثير في باريس، وحازت على شهرة واسعة النطاق في فرنسا التي لجأت إليها هربا من سياسة التمييز العنصري ضد السود في الولايات المتحدة.

بجانب شهرة (جوزفين بيكر) كراقصة ومغنية شاركت في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، كما شاركت في حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة.

تكريم (جوزفين بيكر)، بضم رفاتها إلى مقبرة العظماء (البانثيون)

(جوزفين بيكر).. ومقبرة العظماء

منذ حوالي ثلاث سنوات قررت الحكومة الفرنسية تكريم (جوزفين بيكر)، بضم رفاتها إلى مقبرة العظماء (البانثيون) في باريس، حيث تدفن كبار الشخصيات الفرنسية، مثل العالمة (ماري كوري).

والكاتب (فيكتور هوجو)، لتصبح (جوزفين بيكر) أول امرأة سوداء تحصل على هذا الاحتفاء، وسادس امرأة تنضم إلى حوالي 80 بطلاً وطنياً.

ويُمثل انضمام (جوزفين بيكر) إلى (البانثيون) اعترافاً بمساهمتها في الفنون الاستعراضية، وشجاعتها في مقاومة ألمانيا النازية خلال الحرب.

نجيب الريحاني مع جوزفين بيكر أثناء وجودها في مصر

(جوزفين بيكر).. والريحاني

(جوزفين بيكر) زارت مصر في ثلاثينات القرن الماضي، في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في شهر فبراير عام 1934، وقابلت الفنان الكبير (نجيب الريحاني)، وأجرى معها حوار لإحدى الإذاعات الأهلية.

وزينت صورتها غلاف مجلة (الصباح) في العدد الصادر يوم 23 فبراير، وأجرى (قاسم وجدي) المحرر الفني للمجلة حوارا معها، و(قاسم وجدي) هو الذي عرفناه بعد ذلك كمؤلف ومنتج لبعض الأفلام السينمائية، وأشهر ريجسير.

وكان (قاسم وجدي) ضمن مجموعة من الفنانيين الذين كانوا يكتبون في مجلة (الصباح) مع زملائه (أحمد بدرخان، وفطين عبدالوهاب، وأحمد كامل مرسي) وغيرهم.

جوزفين بيكر تزين غلاف مجلة الصباح وعلي صورتها اهداء منها لقراء المجلة

كواليس حوار (جوزفين بيكر)

في هذا الحوار وصف (قاسم وجدي) كواليس ما دار من استقبال بعض الفرنسيين والأجانب الكثيرين الذين أقبلوا على حفلات (جوزفين بيكر) في دار الأوبرا المصرية، فإليكم ما كتبه…

كانت تتوسط المسرح بعد انتهاء (الماتنيه)، وحولها مجموعة من الأطفال الأجانب والمصريين، صعدت بهم أمهاتهم إلى المسرح لتقبلهم (جوزفين بيكر).

وكانت كل أم تحمل طفلها وتناوله لـ (جوزفين بيكر) فتحضنه وتقبله، ثم تتنبأ له ضاحكة بمستقبله، فهذا الطفل سيكون ضابطا شجاعا، وآخر سيكون شاعرا كفيكتور هوجو، وأنت طبيبا، وأنت تاجرا.

والأطفال يضحكون، والأمهات يشاركن أبناءهن في الضحك ويشكرن (جوزفين بيكر)، وانتهى دور الأطفال فتقدم فريق من الشبان والشابات، في يد كل منهم صورة لها أو ورقة بيضاء وقلم يطلبون منها امضاءها على الصورة.

أقبل عليها المشايخ ليقبلوا يدها

(جوزفين بيكر).. والشيوخ

انتهى دور الشباب فتقدم ثلاثة يمكن أن يقال عنهم شيوخ، قال أولهم لجوزفين: (قالوا لي أن قبلة من يد جوزفين تعيد الشباب).

 فضحكت (جوزفين بيكر) وقالت: (الشباب في هذا الزمن غير الشباب في زمنك، خير لك أن تظل شيخا!)

واستدارت إلى غرفتها فاستوقفها الشيخ قائلا: (إذن فاعلمي أني مريض، وقد وصفوا لي قبلة على يد زنجية حسناء، ألست أنت حسناء الزنجيات؟!.

وكان إطرائه لها قد أغراها على إجابة مطلبه فقالت: (هذا حسن يسرني أن أكون دواء)، وقدمت يدها في رشاقة والابتسامة منطبعة على شفتيها.

وأطال الشيخ في التقبيل، فسحبت (جوزفين بيكر) يدها وهى تقول مبتسمة ضاحكة: (أوه أنت نهم، هل أوصاك الطبيب أن تتجرع الدواء كله دفعة واحدة؟).

فقال الشيخ: (هذا دواء يستحب!)، فقالت له: (ولكن دع قليلا لغيرك، لست المريض الوحيد).

وفي وسط الضحك تقدم الشيخ الثاني منتهزا الفرصة بقوله: ( أنا يا سيدتي مريض بنفس الداء، وموصوف لي الدواء نفسه)، فنظرت (جوزفين بيكر) للشيخ الأول قائلة: (أرأيت؟!).

ثم مدت يدها للشيخ المتكلم وقالت: (إليك يا بني، تعاط الدواء، ولكن بعقل، الدواء الكثير، كالدواء القليل، كلاهما ضار)، وقنع الشيخ الثاني بقبلة صغيرة على يدها.

وقبل أن تخطو إلى غرفتها وضعت يديها في خاصرتها وقالت في لهجة ممرضات العيادات المجانية: (هيه، انتهت العيادة).

وتقدم الشيخ الثالث وهو أكبرهم سنا يتوكأ على عصا غليظة، وقال: (بقيت أنا يا دكتورتي العزيزة)، فما أن رأته حتى تصنعت الفزع، وقالت: (أوه الهذا الحد أنت مريض؟ لماذا لم تحضر لباريس لتتعاطى الدواء).

وقبل أن يهم بالجواب ناولته يدها مسرعة قائلة: (خذ، خذ)، وكان ضحك من كل من رأي، ونشوة بعثتها (جوزفين بيكر) في جو المكان، ثم أشارت بيدها: أورفوار.

وثيقة حوار مجلة الصباح

حوار (جوزفين بيكر)

عندما وصلت (جوزفين بيكر) إلى باب غرفتها، وهمت بفتحها تقدمت إليها، وعرفتها بنفسي، وكنت واقفا أراقب من بعيد، وأنا متأثر بالشخصيات الغامضة التى كثيرا ما شهدتها في باريس.

ورأتني (جوزفين بيكر) فطبقت شفتيها كأنها تستغيث من هذه (الدوشة) التى لا تنتهي، ولاحظت حركتها فقلت غير عابء لا تتضايقي، أن هذا هو ثمن الشهرة.

قالت: (جوزفين بيكر): (تكلفني غاليا يا صديقي، هيه النهاية ماذا تريد أنت أيضا؟ إمضائي على صورة؟ أم على كارت؟)، قلت: لا هذا، ولا ذاك؟!

قالت وهي تتصنع الدهشة: (لست طالبا مني قبلة هنا على ما أظن؟ وأشارت إلى فمها)، ولم يكن في مقدوري ألا أن أضحك من هذه الدعابة التى تجلت فيها خفة الدم.

* وقلت: (لست طماعا إلى هذا الحد، أنا محتاج حديث بسيط نتبادله لمجلة (الصباح)، سألتني وهى تقفز كطفلة أهديت لعبة جميلة: ستكلمني باسم (الصباح) التى أحببتها منذ نشرت مذكراتي؟.

** قلت لها: نعم، قالت (جوزفين بيكر): صديقي العزيز، قلت لها: (لا تتسرعي في التسمية، قد يكون لي رأي فيك لا يعجبك)؟

** قالت: (يكفيني أن تتحدث عني، وتذكر اسمي في صحيفتك، فأنت تساعدني على الشهرة، ألا تريد بعد هذا ألا أدعوك صديقي العزيز؟

ولم أجاوبها بشيئ لأني قلت في نفسي: (أين جوزفين من ممثلاتنا وممثلينا، ولا أقول راقصاتنا الذين يطلقون أفظع النعوت على كل صحفي يتعرض لهن بأبسط الانتقادات).

ودعتني إلى الغرفة فجلست، وظلت واقفة، فوقفت، فقالت: (اجلس أنت لأني لا أحب الجلوس)، قلت: هل أفهم من وقوفك أنك متعجلة، أنا على استعداد لموعد آخر للحديث.

قالت (جوزفين بيكر): أنا متعجلة فعلا لأتعشى قبل السوارية، ولكني لا أعلنك عن عجلتي بوقوفي، إذ عندي الشجاعة الكافية لأقول لك (بردون).

* قلت: (اغفري لي إذن هذه الملاحظة، فقد حسبت أن إجهادك في الرقص يستلزم منك الراحة بالجلوس)؟

** قالت (جوزفين بيكر): اعتدت أن أبدد تعبي بالوقوف، إذا كان على أن أواصل التعب إذا جلست فمعنى هذا أني لن أستطيع أن أواصل الرقص لأن أعصابي كلها تتحلل ويصبح من العسير جمعها.

* قلت لها: على هذا أنت لا تنالين قسطك من الراحة؟

** قالت (جوزفين بيكر): بالعكس أنا لا أستيقظ قبل الساعة الواحدة بعد الظهر.

إذن فلنحدد وقت الحديث معك، هذه السيجارة عندما تنتهي منها، أكون انتهيت من حديثي، فقالت ضاحكة: على أن لا يتلاشى الحديث مع دخان السيجارة؟

فقلت لها: اطمنئي ساسجله على الورق أولا فأول، فقالت: حسنا تفعل، وقدمت لها السيجارة واشعلتها، وقالت (جوزفين بيكر): هل يجب أن أقول أنها سيجارة آمون؟ فقلت لها: هذا اعلانا، وقسم اعلانات الصباح سيتخذ الإجراءات اللازمة من شركة آمون!.

* وضحكنا وبدأن الحديث، وقلت لها: في رأيك ما الميزة التى كانت سببا في شهرتك؟

** قالت (جوزفين بيكر): قل أنت ما هي؟ قلت لها : خفة دمك!.

فوضعت اصبعها في فمها كما يفعل الأطفال عندما يخجلون، فأردفت قائلا: ها أنت تؤكدين صدق رأيي.

وفجأة ضربت الأرض بقدمها، وصاحت كيف؟ ألا يعجبك رقصي؟ ألا يشجيك غنائي؟

* قلت: يعجبني جدا، ولكن ما قيمتهما إذا لم تعززهما خفة الدم؟.

** قالت (جوزفين بيكر): هذا صحيح، ولكن لا تنس أن لمواطني الباريسيين أكبر الفضل في شهرتي.

وحمدت لها اعترافها بالجميل، وانتقلنا للسؤال الثاني ما رأيك في الحب؟ فسألتني هل تحب؟ فقلت: لا، ولكن هل تنصحيني بالحب؟ قالت: عندك ثروة كبيرة؟ قلت: لا، ولكني اتقن أعمال كثيرة.

قالت (جوزفين بيكر): إذن لا تفكر في الحب إلا إذا كنت عازما على الانتحار.

* قلت لها: أعوذ بالله، وكيف؟

** قالت (جوزفين بيكر): الحب، هو المال.

* قلت لها: ألا يقوم الإخلاص مقام المال؟

** قالت (جوزفين بيكر): ليس هذا هو المهم، ولكن ما يهم هو ايجاد الفتاة التى تقدر الإخلاص، فيغنيها المخلص عن الغني.

* وسألتها وما رأيك في الزواج؟

** سألتني (جوزفين بيكر): أأنت مسرور الآن من هذه الجلسة؟ قلت لها: جدا.

قالت (جوزفين بيكر): لوكنت متزوجا لما نلت هذا السرور.

* قلت لها: إذن تفضلين عدم الزواج؟

** قالت (جوزفين بيكر): يجب أن تسبقه القناعة والرضا بالحرمان من مسرات كثيرة.

* هل ممكن معرفة رأيك في الرجل الفرنسي؟

** قالت (جوزفين بيكر): يضحك!، والإنجليزي، يفكر، والأمريكي: يدفع، والألماني: يضرب، واليوناني: يوفر، وأخيرا رأيك في المصري: يتكلم!.

* ما الذي أعجبك في مصر؟

** طريقة المصريين في مشيهم، وكلامهم.

* سألتها باستغراب: أي غرابة في كلام ومشي المصريين؟

** قالت (جوزفين بيكر): طريقتان بديعتان للرقص!

* قلت لها: أخالك تسخرين؟!

** فقالت (جوزفين بيكر): مطلقا، ولكن راقب المصريين وهم يمشون أو يتكلمون، أن لكل منهم طريقة في مشيه هى أشبه ما تكون بالرقص، حتى ليخيل لك أنهم يرقصون لا يمشون.

وعندما يتحدثون تتحرك كل أعضائهم، ويعبرون بكل شيئ فيهم، أيديهم، عيونهم، رقابهم، هذا جميل، أنه يدل على مبلغ نشاط هذا الشعب الحي، هل يعجبك الجمود أنت؟ الرجل الجامد في مشيته جامد، في عمله ما تحبه.

* دليني على أعظم ما تحبين في الحياة؟

** قالت (جوزفين بيكر): المرأة!.

وعندما لاحظت دهشتي، قالت : لماذا تندهش أتظنني أقل اعجابا بابتسامتي، ورقصي منك، ومن ألاف المعجبين بها؟ أني أحب المرأة لأنها تمتعني بما تتمتع به أنت في ابتسامتي ورقصي.

*هل أنت شجاعة؟

** طبعا.

* كما عمرك؟

** ثمانية أعوام!!

وهنا ضحكت، فسألتني علام تضحك؟، واستكملت كلامها قائلة: لقد بدأ عمري يوم بدأت شهرتي، أتريد أن أضيف إلى عمري سنوات لم يكن يعرفني فيها أحد؟

* بماذا تنصحين الفتيات المصريات؟

** أنصحهن بالرقص لأنه أحسن دواء لإزالة الشحم الزائد.

وانتهت السيجارة فانتهى الحديث.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.