رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(سامر أبو دقة).. شهيد إسكات الحقيقة المرة على لسان الصحفيين

كتب: محمد حبوشة

على الرغم من أن استشهاد مصور الجزيرة الصحفي (سامر أبو دقة) يحمل الرقم 92 في سلسلة استهداف الصحفيين الفلسطنيين في مواقهم الميدانية على يد الآلة العسكرية الصهيونية الغادرة، إلا أن أبنه (زين أبو دقة) صنع منه رمزا حيا لنضال الصحافة الفلسطينية.

وبرغم ألم الفراق غنى ابنه الصبي الصغير (زين):

يابا شقد مشتاق

عذبي الفراق

قلبي بعدك ضاق

والمر يابا داق

…………….

يابا غيابك ويل

وأنا توه في الليل

درب الأم طويل

وما ظل فيا حيل

…………….

يابا شقد مشتاق

…………….

الأغنية جاء كأصدق تعبير عن معاناة تغطية جرائم الاحتلال على صعوبتها، إلا أنها ليست كتشييع جثامين إخواننا الذين يستشهدون بلا ذنب ارتكبوه سوى أنهم يعيشون فوق أرضهم، هنا الألم تعجز عن وصفه الكلمات.

(سامر أبو دقة) قدم مواقف حفرت بداخل الذاكرة الفلسطينية، فكثيرا ما صور لقطات عديدة لأم تبكى وحيدها مرتمية فوق نعشه ببكاء حار، وطفل يحتضر في حضانته، و طفل آخر أصابه الذهول بعد أن سقط أبوه على الأرض لإصابته برصاص الاحتلال.

ومن المواقف المؤلمة، التي صورها (سامر أبو دقة)، وحفرت بداخلنا أيضا بسبب الإغلاق منع الاحتلال سيارات الإسعاف من نقل سيدة حامل في حالة وضع، وأم أخرى ثكلي تودع أفراد عائلتا كاملة، أو رجل مسن يبكي حال، ولايملك أمام قصف بيته سوى قوله: (حسبي الله ونعم الوكيل) في اليهود.

(سامر أبو دقة) الذي صنع ابنه (زين) رمزية حية للصحافة الفلسطينية

(سامر أبو دقة).. رمزية الشهادة

سجل (سامر أبو دقة) بالكاميرا شهادات الأسرى الذين كانوا قد اعتقلوا بعد الحرب على غزة، ثم أطلق سراحهم مؤخرا، ويقول أحدهم، إنه تعرض لضرب المبرح، وحرمانه من أبسط حقوقه، قام جنود الاحتلال بتجريده من ملابسه ونومه عاريا على الأرض دون غطاء.

ومنعه لأيام من الأكل، ثم السماح بالطعام مرة واحدة يوميا، وحرمانه من استخدام دورة المياه أيضاً، وغيره من الأسرى يقولون إنهم كانوا يتعرضون للتنكيل يومياً، والضرب داخل مراكز التوقيف، وتم الإفراج عنهم دون سابق إنذار، وتركوهم في مناطق خالية بعيدة عن المناطق السكنية .

لاتكف الآلة العسكرية باستهداف الصحفيين وليس آخرهم (سامر أبو دقة) الذي صنع رمزية حية للصحافة الفلسطينية، بل يقتحمون منازل عائلاتهم، وهناك زملاء كثيرون لى لم يسلموا من رصاص أسلحة الاحتلال، واستشهدوا وآخرون معتقلون وأماكنهم مجهولة،  وبعض من زملائنا من أُصيبوا بإصابات أدت إلى الشلل وبعضهم فقد بصره، أو إحدى عينيه.

إن التحديات التي يواجهها الصحفيون حاليا أكثر بكثير مما كانوا يواجهون منذ بداية العمل الميدانى؛ ورغم أن الاحتلال يتعامل مع الصحفيين الفلسطينيين بغطرسة وعنف دائما؛ ولكنهم منذ حرب (غزة) يعيشون أبشع مرحلة من الاعتداء والقتل والتعذيب.

لقد أصبحت تلك الاعتداءات أشد ضراوةً بعد حرب (غزة)، وأيضا ازداد معدل الاستهداف المباشر للصحفيون الذين يعملون في الميدان من قبل جنود الاحتلال، وقد تم الاعتداء عليهم أكثر من مرة أثناء التغطية الميدانية والمواجهات والاشتباكات.

استشهاد زميلنا المصور (سامر أبو دقة) بعد أكثر من 5  ساعات ونصف من إصابته مع زميله وائل الدحدوح، ومنع سيارات الإسعاف من الوصول إليه بمكان إصابته وتركه لينزف بمحيط مدرسة فرحانة في خانيونس جنوبي قطاع غزة.

هى جريمة حرب متكاملة الأركان لا يمكن أن تمر مرور الكرام، لابد من فتح تحقيق دولي في استهداف الصحفيين الفلسطينيين، هذا خرق للقوانين التي تكفل حمايتنا، فهذه السترة التي يرتدونها ومدون عليها (press) لم يعد لها فائدة فهى لا تحميهم للأسف.

وعلى الرغم من الصدمة تسيطر على الصحفيين، ولا يستطيعون النوم، فحجم الدمار الذي يؤرونه في قطاع غزة مرعب، صور أشلاء الأطفال عالقة بالأذهان، ومشاهد الدماء حاضرة بأذهاننا دائما.

وصور النساء الحوامل وهن تحاولن النجاة بأجنتهن يدمى قلوبهم، مشاهد الجثث العالقة تحت الأنقاض، لم نرتر جرائم مثل تلك التي تُرتكب في قطاع غزة، والأمر الأكثر خطورة الصمت الذى يخيم على المجتمع الدولى إزاء تلك المجازر.

تساؤلات ربما لن يجد (سامر أبو دقة) وزملائنا من الصحفيين إجابات عنها طالما المجتمع الدولى أبقى على صمته

تساؤلات ربما لن تجد الإجابة

تساؤلات ربما لن يجد (سامر أبو دقة) وزملائنا من الصحفيين إجابات عنها طالما المجتمع الدولى أبقى على صمته: لماذا تُهدم المنازل فوق رؤوس ساكنيها الأبرياء؟: بأى حق لماذا يُقتل الجنين والرضيع والطفل؟ ما الجرم الذى ارتكبه؟

أين المنظمات التى تتشدق بحقوق الإنسان وتتعهد بحمايتها من المطالبة الفاعلة بمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم؟

يصرخ من تبقى من صحفي فلسطين: انقذونا.. ساهموا في نقل أصواتنا للعالم حتى يستفيق.. فلم تعد في فلسطين أية منطقة آمنة للصحفيين أو المدنيين، ويتم استهدافنا من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي على مدار الساعة بكل الطرق.

ورغم قساوة المشهد إلا أننا لن نترك الميدان إلى تحرر أرضنا من أيدي هذا الغاصب المحتل الذي لايملك وازع من ضمير، ويخلو قلبه من ذرة إنسانية.

استشهاد 92 صحفيا وآخرهم (سامر أبو دقة) منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، واستهداف عائلات الصحفيين والمصورين، تعتبر بمجملها محاولة لاغتيال الشاهد والصورة، وتاليا الحقيقة، لكن دون جدوى لشعب مقاوم يوصف بأنه شعب الجبارين.

وهذا يذكرنا بالشهيدة (شيرين أبو عاقلة)، التي صرحت أكثر من مرة بأنها مستهدفة من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين؛ لأنها  تغطي على الدوام جرائمهم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني.

وتم اغتيالها بطلقة بالرأس من قِبل جيش الاحتلال وهى تغطي اقتحامه لمخيم الصمود في جنين، لترتقي شهيدة صباح الأربعاء 11/ 5/ 2022.

وبعد عملية اغتيال الصحفية (شيرين أبو عاقلة) يمكن الجزم بأن سياسة اغتيال الصحفيين والإعلاميين الفلسطينيين إنما تهدف إلى تغييب حقيقة إسرائيل العنصرية، ومجازرها ضد الشعب الفلسطيني، التي لم تتوقف البتة منذ إنشائها عام 1948.

(سامر أبو دقة).. سيرة عطرة ومسيرة من النضال الفلسطيني

(سامر أبو دقة).. سيرة عطرة

جدير بالذكر أن الشهيد (سامر أبو دقة) والملقب (أبو يزن) جنوب قطاع غزة عام 1978، وعاش وسكن بلدة عبسان الكبيرة قرب خان يونس التي استشهد فيها.

له 3 أبناء وبنت يقيمون في بلجيكا بعيدا عن أبيهم الذي اختار البقاء للعمل الميداني في غزة.

و(سامر أبو دقة) بقي مرابطا في الميدان ينقل الحقيقة والخبر، ويوثق انتهاكات الاحتلال لأهله وبلده، حتى صار أحد أثمان عدوان (السيوف الحديدية) وأحد شهدائه، وبقي ينزف 6 ساعات دون تمكن سيارات الإسعاف من الوصول له، فارتقى شهيدا يوم 15 ديسمبر 2023.

عرف بين زملائه بابتسامته التي لم تفارق وجهه، وبتفاؤله المستمر، وبشخصيته المحبوبة بين الجميع، وبطبيعته المرحة، بالإضافة إلى أدائه الإبداعي والمميز في الوسط المهني، وبرسالته الصحفية التي تمسك بها حتى آخر نفس.

وكان دائما هو من يدفع الزملاء نحو إكمال إيصال الرسالة عند تعبهم من تغطية الأحداث من قلب المعارك الدامية.

وقبل أشهر من وفاته، زار (سامر أبو دقة) عائلته في بلجيكا مخططا معهم أن يلم شملهم في غزة ويعودوا لأرض الوطن، ورغم محاولة إقناعه بالخروج منها في وضع الحرب الإسرائيلية عليها التي بدأت يوم 7 أكتوبر 2023.

إلا أنه رفض رغم الإقامة الأجنبية التي بحوزته وقال (لن أغادر)، وآثر الاستمرار في التغطية مؤكدا ذلك قبل استشهاده بيومين.

التحق بالجزيرة في يونيو 2004، وعمل مصورا وفني مونتاج، ويعد من النواة الأولى التي أسهمت في تأسيس مكتب الجزيرة في فلسطين، وقاد الفريق التقني في مكتب الجزيرة في غزة، وتجاوزت مدة عمله في الجزيرة 20 عاما.

تميز (سامر أبو دقة) بعدسته التي أخرجت صورا مميزة، وصورت تقارير إنسانية وأفلاما وغيرها من الإنتاجات الإعلامية لمنصات الجزيرة المختلفة، وكان يتابع ويشرف على الإخراج الفني لتقارير الجزيرة.

وأثناء تغطيته العدوان الإسرائيلي على القطاع، الذي بدأ يوم 7 أكتوبر 2023، كان (سامر أبو دقة) لا يتوقف عن العمل، وكان حريصا على تغطية الأحداث طوال الوقت، فيحمل كاميراته بيده ويهرع لمكان الحدث، ويوثق الشهداء والانتهاكات من وسط الاستهدافات.

استشهد (سامر أبو دقة) أبو دقة أول أمس الجمعة الماضي 15 ديسمبر 2023 بعد أن ظل ملقى على الأرض ينزف ومحاصرا في محيط مدرسة فرحانة لـ 6 ساعات، حيث لم تتمكن سيارة الإسعاف من الوصول إليه إثر إصابته إلى جانب زميله (وائل الدحدوح) خلال تغطيتهما قصفا إسرائيليا على المدرسة.

وعلى قبر (سمير أبو دقة)، أدلى المراسل (وائل الدحدوح) بشهادة مؤثرة عن مسيرته

الدحدوح على قبر (سمير أبو دقة)

وووري الثرى صباح يوم أمس السبت 16 ديسمبر 2023 في خان يونس، وشيع جثمان (سامر أبو دقة) أفراد من عائلته وزملاؤه ومحبوه في قطاع غزة.

وعلى قبر (سمير أبو دقة)، أدلى المراسل (وائل الدحدوح) بشهادة مؤثرة عن مسيرته، قائلا: إنه كان من أكثر الزملاء إخلاصا لمهنته وللجزيرة، وفقدناه في فعل همجي (رغم أننا) كنا في مهمة رسمية موافق عليها وبتنسيق مباشر.

وقال الدحدوح إن العزاء الوحيد في رحيل المصور أبو دقة هو وجود زملاء له يحملون رسالته النبيلة ويستمرون في أداء الواجب بمهنية وشفافية.

وكتبت وزيرة الدولة للتعاون الدولي بالخارجية القطرية (لولوة الخاطر)، على حسابها في موقع إكس): (صحفي آخر يقتل وصوت آخر يسكت) مضيفة: أن هذا هو أكبر عدد من الصحفيين الذين يقتلون في أي نزاع مسلح خلال هذا الوقت القصير.

وذكرت المسؤولة القطرية بأنه: لاعندما وقع الهجوم على المجلة الفرنسية الساخرة (شارلي إيبدو) احتشد زعماء العالم من أجل حرية التعبير، لكن من الواضح أنه لا يولد الصحفيون متساوين.

واختتمت الوزيرة القطرية: (عزيزي سامر نعتذر لأننا لم نتمكن من حمياتك وتركناك وحدك تواجه ترسانتهم العسكرية الوحشية بكاميرتك فقط.. لقد خدعونا وأخبرونا أن الكلمات أقوى من البنادق، وقد كانت حياتك وحياة عشرات الصحفيين ثمنا لندرك أن هذا مجرد كذبة.. لترقد روحك في سلام).

ونقلت صحيفة واشنطن بوست الأميركية عن مصور يعمل لصالحها في غزة عبارات إطراء للزميل الشهيد حيث قال: (اقتربت خلال الحرب من سمير أبو دقة)، وكنا نمضي وقتا معا في مستشفى الناصر، هو دائم الابتسام والجميع يحبه).

وفي النهاية أقول قولة حق: لا أظن أن منصة إعلامية عربية دفعت ثمنا لمهنيتها وإخلاصها لرسالتها مثل (قناة الجزيرة) وكوادرها، دفعوا الثمن دمهم وحياتهم لتصل الحقائق إلى الناس.

رحم الله الشهيد (سامر أبو دقة)، وكل من سبقوه من ضحايا الغدر الإسرائيلي والأمريكي المقصود والمتعمد لإرهاب أهم منبر إعلامي دولي يفضح وحشيتهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.