رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

د. مدحت الكاشف يكتب: المسرح والهوية الثقافية

بقلم د. مدحت الكاشف *

منذ نشأة المسرح في مصر نشأت معة الأسئلة القلقة نحو ضرورة تغييره إلى الأفضل مما هو عليه، وربما لم تكن البدايات المسرحية في مصر منذ آواخر القرن التاسع عشر بنفس حدة القلق كما هى عليه خلال مراحل تطوره.

وعندما بدأ في الانتشار ووصل إلى شرائح أكثر من الجمهور الذي بدأ المجتمع يشاهد المسرح بوصفه وسيلة تنويرية وترفيهية، بل بدأ يبحث من بين ثناياه عن الرسالة أو القيمة التي يبثها

و هو ما تجلى مع حلول عقد الستينيات بعد استقرار نظام الدولة بعد فترة قصيرة من قيام ثورة يوليو1952، حيث انتعش المسرح المصري وأفرز كتابه ومخرجيه وفنانيه.

خاصة العائدين لتوهم من بعثات خارجية من أمثال سعد أردش وكرم مطاوع وجلال الشرقاوي إلى جانب الجيل الذي سبقهم من أمثال عبد الرحيم الزرقاني وكمال يس ونبيل الألفي وغيرهم، ناقلين إلى الجمهور كل المستجدات المسرحية العالمية.

إقرأ أيضا : د.مدحت الكاشف يكتب: الإبداع .. رؤية حول الحرية

ومن ثم طرح القضايا حول الفن المسرحي، بل والبدء في  طرح إشكالية ربط المسرح بالهوية الثقافية للمجتمع المصري آنذاك بعد عقود سابقة اعتمد فيها المسرح على مسرحيات مقتبسة عن نصوص غربية.

ليبدأ فن الكتابة المسرحية في التبلور لينتج نصوصا مصرية خالصة تجسد آمال وآلام وطموحات وإحباطات المجتمع المصري، مع ظهور نعمان عاشور وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمود دياب وميخائيل رومان ويوسف ادريس وغيرهم.

إلى جانب الأجيال السابقة على رأسهم توفيق الحكيم،  ولكن من خلال ذات القالب الغربي لكتابة المسرحية وما تبعها من قضايا التأصيل والبحث عن صيغ مصرية/ عربية تحمل مضامين ورسائل ثورية.

وذلك اتساقا مع انشغال وطن يبحث عن هويته المجتمعية، في ظرف تاريخي شديد الخصوصية، يرنو إلى التحرر من كل بقايا مخلفات الاستعمار والعهد الملكي.

متطلعا إلى تحديث بنية المجتمع المدني وتحقيق العدل الاجتماعي، وبلورة رؤيته للمسرح كأحد أبرز وسائل التعبير والاتصال التي كانت مؤثرة في وعي الجماهير، والاهتمام بتقديم هموم المجتمع المصري آنذاك.

مع جرعة من الإسقاط السياسي تحليلا للوضع القائم أو ربما نقده بشكل غير مباشر وفق مساحة لا بأس بها من الحرية، وإن كانت في حدود ضيقة لا تتجاوز الخطوط الحمراء.

إزدات الأزمة مع هزيمة 67 فتعثرت عجلة المسرح

تعثر عجلة المسرح

إزدادت حدتها مع هزيمة 1967 وهو الأمر الذي بدأ معه المسرح في الأفول لتتعثر عجلة المسرح المصري عن مواصلة ما بدأه لعدة أسباب في مقدمتها المتغير السياسي والاقتصادي والاجتماعي خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات حيث انتشر على يد مجموعة من رؤوس الأموال خارج مجال المسرح الرسمي الحكومي.

وخارج بقايا الفرق الخاصة التي كانت قد بدأت في الاختفاء، ليطفو على السطح مسرح جديد ترفيهي تجاري كانعكاس لنظام اقتصادي يعتمد على السوق بنظام شبه رأس مالي آنذاك.

كانت له آثاره السلبية التي لازال المجتمع يعاني منها ونحن على مقربة من انتصاف العقد الثالث من الألفية الثالثة، حيث اختفت معه الثقافة الجادة والقضايا المصيرية وظهر جمهور جديد نابع من طبقات اجتماعية صاعدة كان في مقدورها تغذية شباك التذاكر وفق متطلباتها.

مما أدى لهجرة الكثيرين من كتاب ومبدعى المسرح الملتزمين بقضايا المجتمع المصيرية، وبرز الحديث عن قيمة المسرح التسويقية، وعن أزمة المسرح الجاد فى مواجهة المسرح الهزلى حيث حملت الفرق الخاصة العديدة مهمة ترويجه.

ونجحت فى تسييد مفهومه وسط الجماهير العريضة بالسيطرة الكاملة على البث التليفزيونى وقتها ولا يزال، ليترسخ في أذهان المشاهدين بأن مايشاه دونه عبر شاشات التليفزيون هو النموذج الأمثل للمسرح.

إقرأ أيضا : د. مدحت الكاشف يكتب : الفنون والقيم الاجتماعية

وهو ما يتنافى مع حقيقة وجوهر المسرح الحقيقي، واختفي الجمهور الحقيقي للمسرح إلى حيث لا رجعة، واهتزت الصورة التي كان المسرح الجاد يروج لها قاصدا الترسيخ لهوية ثقافية مجتمعية خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.

ولم يسع التيار المسرحي التجارى إلى إثارة القضايا المجتمعية وركز جل شغله على الاضحاك وإثارة الغرائز وإرضاء شباك التذاكر فقط، وعلى جانب آخر نجد أن المسرح الجاد فى مجمله لم يعد قادرا على جذب شرائح الطبقة المتوسطة المختلفة.

والتى دعمت وجوده فى ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضى، فاكتفى ببعض من شرائحها المثقفة، التي بدأت في هجر الذهاب إلى المسرح والبقاء أمام شاشة التليفزيون التي تتيح لها آلاف المحطات الفضائية، فلم يعد يثق في المسرح لم يعد يحتاج إلى المسرح.

ومن جانبه لم يعد المسرح يمتلك وسائل جذب للجمهور سواء من ناحية المحتوى أو من الناحية الفكرية أو الجمالية أو حتى البنية التحتية وأماكن دور العرض التي بات الوصول إليها صعبا بفعل الباعة الجائلين، التي تستعمر محيط المسرح القومي الرسمي الأول في مصر، في قلب ميدان العتبة.

لقد فسدت ذائقة الجمهور في تلقي المسرح، أجيال ولدوا أثناء ذلك المتغير فوجدوا أنفسهم أمام هذا الركام المسرحي الذي لا طائل منه، رغم محاولات هذه الأجيال التي نهلت من النتائج الايجابية التي أفرزها مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي.

والتعرف على تجارب مسرحية عالمية حركت قدراتهم الإبداعية، نحو مسرح جديد مغاير، فضلا عن انتشار الكيانات البديلة سواء التابعة لاشراف الدولة أو المستقلة وأظنهم لا يزالون يناضلون من أجل مسرح جاد.

المسرح ساهم في تشطيل الهوية الثقافية

المسرح والهوية الثقافية

لكنهم في مواجهة مشكلة الجمهور الذي كان قد فقد الثقة في مسرح سابقيهم وربما إلى اليوم، وبالتالي تظل أزمة الهوية الثقافية للفن المسرحي كصناعة إبداعية قائمة.

والذي فقد دوره في التعبير هوية مجتمعه الثقافية، ومخاطبة جماهيره المتعددة، فالمسرح ليس بخير، فنحن ننتج زخما من العروض المسرحية هنا وهناك.

ونقدمها في فضاءات المسارح المختلفة وتعتمد لها الميزانيات زادت أم قلت؟، دونما اهتمام بحجم من شاهدها وتأثر بها وفعل وجوده فى المجتمع بعد مشاهدتها.

بل ربما تقتصر في بعض الأحيان على إنتاج عروض يشاهدها المسرحيين أنفسهم ولا وجود لافت للجمهور العادي، خاصة بعد غياب النقد الجاد بصورة أساسية فى معظم الصحف الورقية والالكترونية، ويضاف إلى هذا ظهور الترويج الإعلامى المبالغ فيه للبضائع المسرحية الفاسدة في الصحف وصفحات الانترنت، .

لاشك أن  لدينا موهوبين فى كافة حقول الإبداع المسرحى، من كتاب ومخرجين وممثلين وسينوجرافين ومؤلفين موسيقيين، لكن الموهبة وحدها لا تكفى.

فالثقافة أمر هام والوعى بدور المسرح فى المجتمع أمر أكثر أهمية، ومن ثم يحمل مسرحنا أعباء فكرية كثيرة فوق أعبائه التقنية، فهو يواجه مجتمع يحتاج إلى إنماء وعيه بهويته الثقافية.

إقرأ أيضا : د. مدحت الكاشف يكتب: الدور الاجتماعي والنفسي لفن الأداء التمثيلي

ولهذا فالقضية اليوم ليست مجرد إنارة المسارح، لإثبات الوجود، بل تثوير المسرح ليشارك فى تثوير الواقع وتغيير بناء المجتمع لصالح شرائحه المتعلقة بحلم العدل الاجتماعى، ليلعب دوره الفاعل بتقديم رؤيته لما يحدث ويجرى على أرض الوطن.

إن المسرح ضرورة اجتماعية فالمسرح ينهض بالمجتمع نحو الأفضل والأرفع والأنفع، ولكي يقوم المسرح بهذا الدور عليه أن يغير نفسه أولا، فالمسرح لو استطاع أن يغير نفسه وأن يجدد نفسه ربما يستطيع أن يغير بعض الشئ في المجتمع ذاته.

ولتحقيق تلك الرؤية لابد من رصد أنواع الأنشطة المسرحية التي تعتمل في المجتمع وتحتاج كل واحدة منها السير على الطريق السليم الذي خصص لها بحيث لا تتداخل إحداها مع الأخرى.

فالمسرح الرسمي يضطلع بدور تنويري، والمسرح المدرسي له دور تربوي وتعليمي، وكذلك المسرح الجامعي له دوره في بناء عقل وفكر أجيال الشباب في مرحلة الجامعة قبل خروجهم إلى معترك الحياة، ومسرح الطفل له دوره الترويحي والتربوي.

وعلى يسار الحركة المسرحية نجد المسرح المستقل ومسرح الهواة الذي يقوم كل منها بدور لابد أن تدعمه الدولة بشكل أو بآخر حتى لو دعم لوجيستي محدود.

المسرح صناعة إبداعية بالأساس

المسرح صناعة إبداعية

ويتبقى لنا المسرح الذي تقدمه الهيئة العامة لقصور الثقافة على أهميتها وخطورتها لابد أن نتوقف عندها كثيرا، لقد حظيت مصر وثقافتها بعدد من الثقافات المحلية التي تميز محافظة عن أخرى بل كل قرية عن جارتها.

وهو ما يعنى ثراء الثقافة المصرية وتعددها وتنوعها، الأمر الذي يجعلنا ننظر إلى مسرح الأقاليم نظرة أنثروبولوجية تحفظ لكل مجتمع ثقافته وفنونه، ولا مانع من الانفتاح على النصوص العالمية كمسارح العاصمة الرسمية وغير الرسمية.

ولكن في ذات الوقت لابد أن تحافظ على هويتها وترسخها في نفوس مجتمعها الصغير الذي بات تائها بين ثقافات لا قبل له بها غيرت من منتجه الإبداعي أقلها الأعمال الدرامية التليفزيونية التي صورت له عالم العاصمة بشكل أكثر تزييفا أو حتى مجتمعه الريفي أو الصعيدي بشكل لا علاقة له به في حياته اليومية.

 وفضلا عن ذلك لم تستطع أن تسد الغياب المسرحي، وضعنا أيدينا على هموم وقضايا الوضع الراهن للمسرح والأمر يحتاج إلى إعادة ترتيب الأوراق في الملف المسرحي بوصفه أحد أهم الصناعات الإبداعية لما يتفرد به من خصوصية اللحمة الحية التي لا تتوفر في أى فن آخر، وهو الأمر الذي يمسح على الفن المسرحي كصناعة إبداعية أهمية كبرى.

ومن هنا تنطلق اقتراحاتنا من الآتي :

* ضرورة إعادة النظر في القوانين المنظمه للمؤسسات المسرحية من الناحيتين المالية والإدارية.

* إعادة هيكلة المسارح على اختلاف تنوعها وتوجهها وفق فلسفة كل مسرح بما يتفق وأهداف الجمهورية الجديدة ورؤاها المتفائلة بمجتمع أفضل.

* إعادة النظر في قوانين الرقابة لتصبح رقابة جودة وليست رقابة منع أو فسح أو تصنيف عمري غير مجدى.

* تذليل الصعوبات التي تحول دون الوصول إلى دور العرض كما هو الحال على سبيل المثال وليس الحصر مسارح القومي والطليعة والعرائس الكائنة بميدان العتبة، والتفكير في بناء ممر آمن للراغبين في الذهاب إلى المسرح دون عناء.

* لابد من الاهتمام بالمحتوى الذي يقدمة المسرح.

* توفير الحياة الكريمة للمسرحيين والعاملين بالمسرح حتى لا يهجروه إلى الوسائط الأخرى التي تقدم لهم الاغراءات المالية والأدبية الأفضل بطبيعة الحال.

* أن يقوم المركز القومي للمسرح بدوره البحثي لإجراء بحوث حول الجمهور لاسيما في مسرح الأقاليم الذي يخرج عن اهتمامات الباحثين بالشكل الذي يشكل فجوة في الاقتراب من جوهر ذلك المسرح الذي ربما يحقق ترسيخ الهوية الثقافية للمجتمع المصري أكثر من المسارح الأخرى.

* أستاذ بأكاديمية الفنون

 

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.