رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

د. مدحت الكاشف يكتب: الثقافة .. والصناعات الإبداعية

بقلم: الدكتورمدحت الكاشف*

إذا كانت الثقافة بمفهومها الشامل هى مجموعة الخبرات والأعراف والقيم المرتبطة بمجتمع ما، وهى أشياء يمارسها المجتمع أو بعض أفراده من أجل التعبير عن الإبداع الجمعى، فهذا يعنى أن الإبداع بمثابة عنصر أساس في حياة المجتمعات الإنسانية جميعا، والإبداع مايتم تعريفه بمنتهى البساطة بأنه أى عمل تحليلى أو ابتكارى يعبر عن الواقع الاجتماعى بطريقة فنية، وهذا لايعنى أن الإبداع ليس مجرد نقل للواقع فحسب، بل إنه إعادة صياغة الواقع وتحليله وقراءته وقراءة أحدث تجلياته من وجهة نظر إبداعية، أو بالتحديد من وجهة نظر المبدع، فقد تكون وجهة النظر هذه فردية أو جمعية، وبالتالى فإن الإبداع أو فلنقل وجهة النظر الإبداعية للواقع المعاش غالباﹰ ما تتلائم مع معتقدات وتقاليد وقيم المجتمع التي انبثقت عن ثقافته، وعليه فإن ما يعد إبداعاﹰ في مجتمع ما من المجتمعات يعد عيباﹰ اجتماعياﹰ وفق معتقدات وأعراف وقيم مجتمع آخر، وهو الأمر الذي يكشف لنا عن عناصر التباينات بين الاتفاق أو الاختلاف أو المقاربات بين الشعوب الإنسانية بعضها البعض، وهناك من يعرف الإبداع الفني بوصفه ذلك النشاط الذى يشير إلى القدرة على التحليل وعلى توليد أفكار أصلية، أو طرق مبتكرة لتفسير ماهو موجود في المحيط.

إقرأ أيضا : د.مدحت الكاشف: التكنولوجيا وجدلية الفنون!

وعليه: فإن الإبداع ماهو إلا عملية إجتماعية قابلة للقياس، وعلى الرغم من أن تعريف الصناعات الإبداعية يمثل مشكلة لم تتفق عليها الدراسات الأكاديمية، أو حتى فى دوائر صنع القرار السياسى فيما يخص علاقته مع مفهوم صناعة الثقافة، وأحيانا ما يستخدم كل من الصناعات الإبداعية والثقافية بشكل متداخل، ومن أمثلة السلع والخدمات الثقافية العمل الفنى بأشكاله المختلفة: أداء موسيقى – أدب – دراما – سينما- برامج تليفزيونية – حتى ألعاب الفيديو جيم)، وربما تندرج تحتها الظواهر اللإلكترونية مثل (الفيسبوك والانستجرام ، وتويتر، وسناب شات والتيك توك) وما على شاكلتها من وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تشترك تلك كل تلك التجليات التي تعتمل في السياق الثقافي العام، في عدة معطيات، وهى أنه يتطلب إنتاجها بعض مدخلات الإبداع البشري، وأنها تمثل محركاﹰ أساسياﹰ للرسائل الرمزية للمستهلكين لها، كما أنها تحتوي على حقوق ملكية فكرية تنسب لأفراد أو جماعة منتجة للسلعة أو الخدمة.

السلع والخدمات (قيمة ثقافية) مضافة

قيمة الثقافة المضافة

وهناك تعريف آخر لتلك العناصر يشتق من نوع القيمة التي تولدها أو المندمجة فيها، والسلع والخدمات المندرجة تحت تلك الصناعات، إذ يقترح أن يكون لتلك السلع والخدمات (قيمة ثقافية) مضافة، فضلاﹰ عن القيمة التجارية في ذات الوقت، وهذه القيمة الثقافية ربما لاتكون قابلة للقياس كلية في صورة نقدية، وقد يستخدم مصطلح الصناعات الثقافية للتعبير عن محددات الحياة الثقافية المعاصرة، واستمرار استخدامه للتعبير على سبيل المثال ( الأفلام – الموسيقى – الدراما بكافة أنواعها)، ومنظمة اليونيسكو تنظر للصناعات الثقافية على أنها تلك الصناعات التي تضم ما يعرف بإبداع وإنتاج وإستهلاك، وهى مركزية في ترويج وحفظ وصيانة التنوع الثقافي وضمان الحصول على الثقافة بشكل ديمقراطى، وبناء على ذلك المفهوم فإننا نرى أن أي مصنف إبداعي ( فني) يحوي بداخله أبعادا أربعة هى: الأبعاد الثقافية ( أعراف – تقاليد – عقائد – قيم أخلاقية – الذوق العام)، والأبعاد الاجتماعية (أى كل ماله علاقة بالوعى الجمعى والمجتمعى)، أما الأبعاد السياسية فهى (أى كل مايتعلق بمصالح الدولة العليا أو بالنظام السياسى للحكم..).

إقرأ أيضا : د.مدحت الكاشف يكتب: الإبداع .. هل هناك ضرورة لتعلمه؟!

الأبعاد الاقتصادية الصناعية والتجارية: إن هذه الأبعاد الأربعة تدفعنا للخوض في طرح السؤال الأزلي حول حرية الإبداع فى الثقافة والفنون، وهو سؤال يعد طرحا لسؤال في الحياة العامة، وذلك من خلال الكشف عن أساليب القوى التي ترفض الحرية، وتهددها، وأيضاﹰ بتشخيص توترات طاقات التغيير الفكرية والإبداعية، التي تربطها سلسلة من التحولات المتتابعة، إزاء سيطرة التصورات المنغلقة عما حولها، والمنكفأة على ذاتها، ثم بتتبع جدل مملكة الخيال الإنسانى، بوصفها مشرف الإنسان في مواجهتها لتلك القوى التى تعجز عن تصحيح ذاتها، وتقاوم الفهم، وتمارس آلية إعاقة الحرية، بالإصرار على ممانعة ممارسة إبداع لايتناقض مع الزمن ومستجداته، تلك الممارسة التى تجسد الحضور في الحياة، بانتباه واع وإرادي، حيث يعد تغيبها بمثابة أم الخطايا جميعا، ومن ثم، فلابد أن يكون الإبداع قادر على إفشال القوة التدميرية لإرادة المبدعين، بوصفها استعداداﹰ أوليا للحرية، والقدرة على ممارسة تلك الحرية، وتأكيداﹰ بأن ذلك يعد أيضاﹰ منفذاﹰ يسمح لكل حرية أن تستطيع البدء ثانية رفضاﹰ للجمود، ولكل محاولات اختزال الإنسان إلى مجرد علاقة صامته مع قيود وأعراف تنفى التساؤلات ومحاولات الفهم، باعتبارها أهم تجليات الوجود الإنساني وجناحي الحرية.

ترتبط الثقافة بالفن ارتباطا وثيقا

ارتباط الثقافة بالفن

ولذا فإن تعريف ماهو فن وماهو وماهو ليس بفن يرتبد أشد الارتباط بعمليات الصراع والتضاد بين الجماعات الاجتماعية المختلفة، ولقد اهتم علم الاجتماع بالفن والإبداع من خلال تحليلاته للكيفية التى يمارس من خلالها بعض الأفراد ممن يسمون أنفسهم فنانون إبداعاتهم الفنية، وكذلك من خلال تحليلاته حول قيمة ومكانة هذه الممارسات الإبداعية في المجتمع، ومن ثم، لم ينظر علم الاجتماع إلى كلمة (فن) نظرة سطحية كتلك التي تشيع بين العوام، حيث يرى أن لفظة (فن) تشير إلى مجموعة من الأمور التي تحوي أنواعاﹰ معينة من الرسم والنحت والكتابة والأداء المسرحي والموسيقى وغيرها، وبالتالى يميل معظم علماء الاجتماع إلى الاعتقاد بأن الطبيعة الفنية لأي عمل فني ليست طبيعة ذاتية ودائمة لذلك العمل الفني، بل هى صفة توسم بها من قبل بعض الجماعات المعنية بالشأن الفني، هم أفراد المجموعة الاجتماعية الذين تعزز اهتماماتهم عند تعريف نشاط إبداعي ما بأنه عمل فنى.

ورأى كثير من علماء الاجتماع أن دراسة ما يطلق عليه مجتمع (فناﹰ) لايمكن أن يتقدم إلا إذا تخلصنا من مصطلحات الفن والعمل الفني والفنان شديدة التخصص والمشحونة أيديولوجيا، واستبدالها بمصطلحات أكثر حياتية وأقل انحصاراﹰ داخل الحدود التاريخية مثل الأشكال الثقافية، ومنتجات الثقافة، والمنتجين الثقافيين، وهذه المنتجات الثقافية مهما اختلفت صورها يجب أن ينظر إليها على أنها من إبداع أنواع معينة من المنتجين الثقافيين، كما تتضمن الدراسة الاجتماعية للفن في الأساس فحص العلاقات بين الفن من جهة والمجتمع من جهة أخرى، وبشكل أكثر دقة يطرح علم الاجتماع سؤالاﹰ جوهرياﹰ: بأى طرق تؤثر العلاقات والمؤسسات الاجتماعية في ابتكار وتوزيع وتذوق الأعمال الفنية؟.

لابد من ربط الأعمال الفنية بالسياق الثقافى

أسلوب الثقافة الخاص

الأمر الذى يحيلنا إلى مدى قياس توقع الأثر الذى يقع على جمهو المتلقين لتلك الأعمال، وعليه نرى ضرورة ربط الأعمال الفنية بالسياق الثقافى أى إلى العوامل الاجتماعية، فلكل ثقافة أسلوبها الخاص، والثقافة هى روح المجتمع كما يقول عالم الاجتماع الإيطالى فى القرن الثامن عشر (جيامياتيستا فيكو): (إن كل جوانب الثقافة بغض النظر عن مدى تنوعها الظاهري بما في ذلك لغتها ومعتقداتها الدينية وعاداتها اليومية وفنها تتشرب جميعا الأفكار والمواقف الأساسية نفسها)، لقد ذهب (فيكو)  إلى أن الثقافة بمنزلة روح المجتمع، التي تنفخ فيه الحياة، وفن المجتمع هو الأشد تعبيرا عن هذه الروح، وعلى هذا يمكن النظر إلى الإنتاج الفني بوصفه تعبيراﹰ عن أعراف وتقاليد المجموعة، أكثر من تعبيره عن الرؤى الذاتية للمبدعين، ومن ثم يتم فهم وتحليل التجليات الإبداعية في إطار الثقافة التي صنعت فيها، ليس ذلك فقط، ولكن هناك أيضاﹰ تناظر لصيق بين الظروف التاريخية لإبداع عمل فنى ما وشروط استقباله أو ما يعرف بـ (الظرف التاريخى).

* أستاذ بأكاديمية الفنون

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.