كتب : محمد حبوشة
لاشك أن السؤال عن وظيفة ودور الدراما بوصفها أحد أنواع الفنون يرتبط بالسؤال عن وظيفة ودور الفن بشكل عام، وبطبيعة الحال يحيلنا هذا السؤال إلى فلسفة الجمال ومعاييرها الإنسانية، وعلى اختلاف المدراس في فهمها لنظريات الفن والجمال فإنهم يعبرون عن المعايير التالية: (تحقيق شرطي المتعة والفائدة معا، بالإضافة الى الارتقاء بالذوق العام، والتعبير عن هموم ومشكلات المجتمع وقضاياه الأساسية)، لا سيما الحرية بوصفها النزوع الأساسي للإنسان، وبوصف الفن التعبير الأسمى عن هذا النزوع، وفي هذا السياق تأتي وظائف الدراما متعددة وبناء على الهدف الذي تطرحه مسبقا، يمكن تحديد وظيفتها فإن كان الهدف من هذه الدراما ترفيهيا وهو أمر مشروع ، فإنه لا يمكننا أن نطلب منها طرح رسائل عميقة ومن هنا فإن لبعض الأعمال وظائف تنويرية مثلا ولبعضها الآخر وظائف تحريضية، وأخيرا فإن على الدراما في بلدان يسيطر عليها الجهل أن تقوم بدور نهضوي وإلا فهي ليست أكثر من مادة للتسلية لا قيمة لها، وترى ريما فليحان الكاتبة والنسوية السورية أنه في بلداننا النامية يجب على الفن أن يحمل رسالة توعوية، ليس لدينا رفاهية الفن من أجل الفن بعد.
هناك مشاكل كبيرة يغرق فيها المجتمع السوري، ولأن هذا المجتمع يتابع الدراما ويتأثر، بها يجب أن يحمل هذا الفن دورا توعويا نقديا في ما يتعلق بحياة الناس، كل كتاب وكاتبات الدراما يتحملون مسؤولية أخلاقية ويجب أن يكونوا واعين وواعيات تماما ما هى الحوامل الفكرية التي يبنون عليها النص الدرامي ومنها صورة المرأة، ومن هنا فإن السؤال الذي يبقى ضروريا هو في مدى إمكانية مساهمة الدراما في بناء المنظومة القيمية لأفراد المجتمع ومدى قدرتها على تضمين أهداف أخلاقية في معايير العمل الفني، بحيث يعكس قضايا الناس ومشكلاتهم الحقيقة ضمن آليات نقدية غايتها تعرية المفاهيم السلبية وطرح الاسئلة والحلول التي تسهم في معالجة تلك المشكلات.
والمتأمل للمعروض من المسلسلات السورية في عام 2022 سنجد سعي صناع الدراما السورية على مدار العام سواء كانت سورية خالصة أو أعمالا مشتركة (سورية – لبنانية) فمن خلال 12 عملا رمضانيا حققت من خلالها أربعة أعمال فقط (تحقيق شرطي المتعة والفائدة معا، بالإضافة الى الارتقاء بالذوق العام، والتعبير عن هموم ومشكلات المجتمع وقضاياه الأساسية) وهذه الأعمال فائقة الجودة جاءت على النحو التالي:
تميز مسلسل (كسر عظم) عن غيره من خلال النص القوي الذي قدمه كاتب لفت النظر في تجربته الأولى، كما أنه يسجل للرقابة أنها أجازت هذا النص، كما أنه أثبت أن المخرجة رشا شربتجي، متمرسة ومتمكنة تعرف أدواتها، وتقترح حلولا بصرية بعيدة عن التجريب العبثي، (وهذا ميدانها الآثر، وهى قادرة على تقديم وجبة جذابة وغنية جدا حينما تعالج مثل هذه النصوص، وبا لإضافة إلى القصة التي جذبت الجمهور والمنطق الإخراجي، جاء أداء العملاق (فايز قزق) بالإضافة إلى النجوم (كاريس بشار وسامر إسماعيل) بشكل رائع أكسب المسلسل رونقا وبريقا آخاذا، وبالطبع الجرأة في عرض مواضيع تتعلق بفساد السلطة في سوريا ومسؤوليتها عن تهريب الأسلحة والمخدرات، ومواضيع اجتماعية أخرى مثل الأوضاع الاقتصادية السيئة والهجرة وجريمة الشرف وغيرها ساهم إلى حد كبير في نجاح العمل.
(جوقة عزيزة): مسلسل يغوض في تاريخ النضال السوري ضد الاحتلال من ناحية، ومن ناحية أخرى استعاد بريق الأعمال الاستعراضي الغنائيى على جناح أداء عذب لكل من الجميلة (نسرين طافش) والعملاق (سلوم حداد) وباقي فريق العمل الذين تباروا جميعا في الخلط بين الكوميدي والتراجيدي) من خلال قصة شعبية تدور أحداثها في الشام خلال ثلاثينيات القرن الماضي، بطلتها (عزيزة خوخة) الراقصة التي ذاع صيتها، وفتنت رجال زمانها، لقبت بـ (ملكة المسرح)، ووصلت بدهائها إلى مالم يسبقها إليه أحد،
المسلسل من تأليف خلدون قتلان، وإخراج تامر إسحاق، ومنها كان (جوقة عزيزة) بمثابة طيف جميلا في رمضان الماضي على مستوى البهجة والسعادة التي أدخلها على الجمهور طوال ثلاثين حلقة، تشكل كل واحدة منها قطعة فنية مفعمة بالحيوية والإثارة والتشويق إلى جانب تناولها بحس ناضج لشئون وشجون الوطن السوري في فترة الاحتلال الفرنسي الذي عصف بمقدرات بلد يعد البوابة الشرقية للوطن العربي الكبير، فجاءت الأحداث متخمة بالهموم والمظالم تردي الأوضاع التي وقعت في إحدى حارات الشام العتيقة من خلال سيرة حياة (عزيزة خوخة) ملكة المسرح في ذلك الزمان.
(مع وقف التنفيذ): ربما ليست هناك أسباب معروفة هى التي جعلت من مسلسل (مع وقف التنفيذ) واحدا من أبرز الأعمال الدرامية السورية للموسم الرمضاني 2022، والذي بدأ بمشهد افتتاحي تمنع فيه (أم هاشم/ صباح جزائري) أبناءها الثلاثة من قتل شقيقتهم عتاب (صفاء سلطان)، أو حتى مشهد التشهير بـ (فوزان فضل الله/ عباس النوري) على يد (هاشم / فادي صبيح)، أو كما يقال باللغة العامية (التجريص)، على مرأى من الحارة وهو ينادي عليه بـ (القواد)، حتى نكاد نجد أنفسنا في حيرة عند البحث عن الأسباب التي تدفع بكتاب الدراما الاجتماعية إلى تكريس فكرة التسليع والتقليل من قيمة النساء في الأعمال المطروحة للجمهور، ورغم سوداوية الأحداث الغارقة في الميلودراما والتراجيديا الإنسانية – إن صح القول – بدءا من (عباس النوري / فوزان) الذي يقدم أداء فريدا مع (أوصاف) التي تؤدي دورها الممثلة (حلا رجب)، بينما يبدع كعادته (فادي صبيح) بتلبس شخصية (هاشم) التي يجسدها ببراعة، وشكران مرتجي بوجهها الخالي من مستحضرات التجميل تقدم نموذج المرأة التقليدية التي تتفانى من أجل إرضاء زوجها وعائلتها، إضافة إلى القدير (فايز قزق)، مقدما الفساد والظلم والسيطرة بأسلوب كوميدي يضيف مزيدا من التألق لهذا العمل، وتسجل عودة قوية لسلاف فواخرجي التي تقدم دور (جنان العالم) بتناقضاتها وطموحها وتنازلها عن كل المبادئ في سبيل الوصول إلى السلطة، إذ أجادت في مرحلة ارتدائها الحجاب وبعد خلعها له وتحولها لأحد رموز الفساد.
(على قيد الحب) واحد من الأعمال التي حققت رؤى بصرية متقدمة، وانعكس هذا الأمر بشكل جلي تماما، من خلال لغة بصرية راقية وهادئة، ويُشابه الشكل الموجود في معظم الدراما العالمية، التي تعتني بالتفاصيل وتقديم إضاءة خاصة، وجاء المسلسل في تشكيل إبداعي محدد ومغامر يتجه نحو هدف يحوطه الحنين لشكل درامي ناجح سبق وتألقت فيه الدراما السورية، وكانت النتيجة تفاعل الجمهور معه حيث وجدوا فيها ذواتهم وأحلامهم وحتى هزائمهم الروحية التي استحالت جراحا قديمة لكنها لما تزل نازفة بصمت، فلا يقدم مسلسل (على قيد الحب) المجتمع السوري المعاش من حيث كونه جرحا دمويا مأزوما يحمل عصابية الحياة المعاصرة وأشكال العنف الجسدي فيها، بل يأخذ مسارا أكثر هدوءا وعمقا، بحيث يحمل ما كان على سوريا على واقع شخصية محددة تحمل اسم البلد وتحمل بعضا من صفاته، ولعل ما أكد نجاحه وجود نجوم كبار مثل (دريد لحام وأسامة الروماني وسلوم حداد وصباح الجزائري ونادين خوري وجرجس جبارة وجلال شموط ومهيار خضور ووفاء موصلي وترف التقي وعاصم الحواط ومديحة كنيفاتي وهافال حمدي ومعن عبدالحق ويزن خليل ونسرين فندي ويام كفارنة وليث مفتي ومحمد قنوع وعلاء قاسم وروعة ياسين.
وعلى الرغم من عودة الفنان الكبير والقدير أيمن زيدان هذا العام للكوميديا بعد غياب لسنوات طويلة، وتفاءل الكثيرون خيرا بهذه العودة، لكن عند العرض لم يتمكنوا من لمس هذه العودة؛ إذ يتناول المسلسل معاناة بعض الرجال الكبار في السن، نتيجة الوضع الاقتصادي في سوريا، فيلجأون مع عائلاتهم لتأمين قوت يومهم بطرق مختلفة وأحياناً ملتوية، وربما لم يحقق (الفرسان الثلاثة) الغرض المطلو بسبب تأخر وقت عرضه، واقتصر العرض على قناة واحدة وهى الفضائية السورية.
وعلى الرغم من أن (ذئاب الليل) يمثل عودة للفانتازيا التاريخية، فقد سجل تراجعا ملحوظا من خلال قصة تدور حول مدينة محاصرة بالشر والطمع، تحرك أحداثها الحب، وخلاصها هو من يحدد مصائر عشاقها، والمسلسل من تأليف هاني السعدي، وإخراج سامي الجنادي، وبطولة: سلوم حداد، ونادين خوري، ومهيار خضور، ولجين إسماعيل، وزيناتي قدسية، ومحمود خليلي، ورشا إبراهيم، ورنا جمول، وممثلون كثر آخرون.
ولم يستطع الجزء الـ 15 من سلسلة (بقعة ضوء) الكوميدية الساخرة تحقيق ذات النجاح الذي حققته الأجزاء الأولى، وربما يعود ذلك لاقتصار عرضه على القنوات السورية والأردنية، وكما جرت العادة، يشارك في اللوحات الكوميدية مجموعة من الكتاب والمخرجين والممثلين، كأيمن رضا، أحمد الأحمد، شكران مرتجى، محمد حداقي، وغيرهم الكثير، وينضم لقائمة التراجع (حوازيق) من تأليف: زياد ساري، وإخراج رشاد كوكش، وبطولة: سلمي المصري، ووائل رمضان، وممثلون كثر آخرون.
أما بالنسبة للدراما الشامية، فلم يدرك صناعها بأنها أصبحت موضة قديمة، وقد استهلكت للحد الأقصى، وأصبح من غير المطلوب الغوص فيها، بشكل أو بآخر، لذا فإن مسلسل (الكندوش) لم يلق قبولا من الناس، حيث اعتمد نص مفكك، والمخرج لم يتبن العمل بقدر ما اهتم بتحصيل أجره، رغم التعديلات التي أجريت على القصة بسبب النقد الكبير الذي تعرض له العمل السنة الماضية، وكذلك الحال مع (باب الحارة) الذي وجِد أيضا في السباق الرمضاني هذا العام بجزئه الـ 12، على الرغم من غياب معظم نجوم الأجزاء الأولى عنه والتي منحته الشعبية الكبيرة التي نالها خلال السنوات الماضية، وأيضا نفس الأمر ينطبق على الجزء الثاني من (بروكار) من تأليف الراحل سمير هزيم، ويتناول عالم صناعة وتجارة الحرير في دمشق خلال القرن الماضي،
ومع كل ما مضى من ملاحظات سلبية حول أعمال البيئة الشامية فإن الموسم الثاني من (حارة القبة) هو أفضل أعمال البيئة الشامية هذا العام من الناحية الفنية، حيث تحدث عن معاناة الأهالي خلال فترة الحكم العثماني، وهو من تأليف أسامة كوكش وإخراج رشا شربتجي، ويلعب أدوار البطولة فيه كل من عباس النوري، صباح الجزائري، سلافة معمار، خالد القيش، محمد حداقي، وغيرهم، وكذلك الحال كما يبدو لي مع مسلسل (لو بعد حين) واحدا من الأعمال السورية الجيدة إلى حد ما، وتدور أحداثه حول جريمة قتل تحدث خلال حفل زفاف، تتشابك خيوط الجريمة، وتضيع هوية القاتل، المسلسل من تأليف فهد مرعي، وإخراج عمار تميم، وبطولة: (رواد عليو، وجيني إسبر، وجوان الخضر، ولينا حوارنة، وجهاد الزغبي، وسوسن ميخائيل، وأمانة والي) وآخرين.
أما المشهد الدرامي اللبناني فقد شهد في رمضان 2022 ثمانية مسلسلات اتسم منها إثنان بالجودة، ربما لأنها إنتاج (سوري لبنان) مشترك، الأول: هو مسلسل (ظل) بفضل أداء راق لكل من النجمين الكبيرين (جمال سليمان وعبد المنعم عمايري) والذي يحكي قصة (جلال/ عبد المنعم عمايري) صاحب شركة محاماة معروفة ، لكن هذا لا يعني أنه يكافح من أجل العدالة، فهو في الواقع ، يشبه الظل يتحكم في حياة الآخرين دون علمهم، ومنهم بالطبع على رأسهم (جبران/ جمال سليمان) مصمم الأزياء الشهير، والمسلسل من فكرة سيف رضا حامد، وسيناريو زهير رامي الملا، وإخراج محمود كامل، وبطولة: جمال سليمان، وعبد المنعم عمايري، ويوسف الخال، وكندة حنا، وجيسي عبده، وممثلون كثر آخرون.
الثاني: ويعتبر ضمن الأعمال التي يشار إليها بأنها جيدة مسلسل (للموت 2) والذي يأتي ضمن الأعمال (السورية اللبنانية) المشتركة أيضا، بعد انكشاف لعبتهما في الجزء الأول ، تتعرض (ريم وسحر) التي جسدتهما (ماجي غصن، دانيلا رحمة) لمحاولة انتقام سرعان ما تقلب صداقتهما إلى معركة بقاء شرسة تبدأ بفضح خفايا الماضي، والمسلسل من تأليف نادين جابر، وإخراج فيليب أسمر، وبطولة: ماغي بوغصن، ودانييلا رحمة، ومحمد الأحمد، وباسم مغنية، وبديع أبو شقرا، وكارول عبود) وغيرهم.
أما في المواسم الموازية فهنالك أعمال أخرى تتسم بالجودة مثل (من .. إلى، العين بالعين ، رقصة مطر، عالحد، الوسم، السر 2، صالون زهرة، )، والأخير واحد من الأعمال الكوميدية التي تتسم بالعذوبة، ومن خلال مراقبتي لإطلالة (نادين نجيم) في هذا المسلسل الفارق في حياتها الفنية والمهنية، لاحظت أنها قررت الانخراط في مسار فني مخالف لخيارات البداية، من نافذة الكوميديا هذه المرة حتى ولوكانت على جناح السوداوية، متجاوزة التكرار والرتابة ومتخطية حدود النقد اللاذع الذي طال أدوارها في السابق، ومن ثم نجحت في امتحان رسم الابتسامة وإقناع المشاهد بمصداقيتها التي كانت تتطور من مشهد لآخر ومن حلقة إلى حلقة بمزيج من الإثارة والتشويق اللذي ظلا ملازمين لها طوال الوقت دون أدنى افتعال في الإداء، بل كل شيئ لديها محسوب بدقة متنهية تصب في خانة الإبداع ببراعة ساهمت الصورة المبهرة من جانب المخرج في فرض تألقها طوال الأحداث التي كان ينتظرها الجمهور دائما ولم تخيب ظنه في مشهد واحد يشوبه نوع من الرتابة التي تتمتع بها غالبية المسلسلات اللبنانية السورية الحالية.
