رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

حجاج أدول يكتب : بهجة أفلام الويسترن .. الكاوبوي (2)

بقلم الأديب الكبير : حجاج أدول

يظن الساذج أن فترة القتل والتقتيل في الويسترن وإسالة الدماء وإزهاق الأرواح كانت في زمن ولى، من قرن أو قرن وبعض سنين، لكن لا، هى من بدء الخليقة، سواء اقتربت منها تاريخا دينيا فتجد قتل قابيل لهابيل، أو علميا فتجد الإنسان الأول البدائي وهو يقاتل بعضه مستخدما قواه البدنية ثم الحجارة وأغصان الأشجار، ثم الأحجار ثم الحراب والنبال، ثم اكتشاف النار والقتل بها إلخ، حتى نصل لعصر القنبلة الذرية، وأشار لهذه البدايات المخرج البريطاني ستانلي كوبريك، في فيلم أوديسا الفضاء، ثم نجد مشهدا عبقريا في فيلم ذئب وول ستريت (Wolf of Wall Steet)، وهو من إخراج مارتن (سكورسيزي)، المشهد صالة كبيرة للموظفين، وكل موظف يقف أمام مكتبه أمامهم صاحب الشركة وهو بطل الفيلم ليوناردو ديكابريو، الجميع سعداء بالنمو السريع لشركتهم والمكاسب الهائلة التي يجنونها، ديكابريو يحفز العاملين عنده للعمل العنفواني المندفع العاصف.

فماذا فعل؟ إنه ينفعل ويقلد الغوريلا في وضع الاستعداد للقتال.. يصيح.. هُو هُو هُو.. يصيح وهو يضرب بيمناه على صدره، فيقلده موظفوه في حماسة فيصير الجميع غوريلات بدائية في حالة استنفار للقتال!.. إنه التوحش الغاباتي في وول ستريت.. إنه الكاوبوي الحديث، الفيلم ليس إفتكاسة كاتب بل الفيلم مستوحى من مذكرات رجل أعمال حقيقي، صعد وانهار في دراما تكاد تكون ميلودرامية، وأكيد ما رأيناه في عالم الأسهم في وول ستريت، موجود في منافسات الشركات الكبرى المنتجة للأسلحة والسيارات والكيماويات والأدوية والبرمجيات إلخ، وإن لم تعد المبارزات بالمسدسات فقط في بلدان وفيافي الويسترن، بل ولا في الطريق العام وعلى مرأى من الجميع، مثل أفلام عصابات شيكاغو، بل تطورت المبارزات وصارت بطرق إضافية اقتصادية، ليس فيها القتل الصريح الواضح، هذا وإن استمر القتل الدموي المباشر متواجدا خفية وشبه خفية.

ليونرادو ديكابريو في مشهد الصالة العبقري يستعرض أمام الموظفين

حالة الكاوبوي منذ البداية وستستمر للنهاية، كل ما في الأمر أنها انتقلت من الوحشية المتجسدة الفجّة إلى الوحشية الناعمة السلسة!، فالإنسان هو الإنسان تتغير بيئته ويغير ملبسه وألفاظه ووسائل القتال البينية ليس إلا، فالإنسان المتجسد في الغرب الأمريكي سواء كان كاوبوى يتمنطق بمسدس يطلق منه النار مع كل جود مورنينج وجود نايت وكل هاي، أو كان مليونيرا يبتسم ابتسامة طيبة، ويقول بليز وثانك يو، مثلما هو في فيلم money never sleeps لمايكل دوجلاس، وهو فيلم أيضا عن بورصة المال في نيويورك، حيث غابة البورصة المالية للامبراطورية المالية للولايات المتحدة، تلك الامبراطورية التي تسيطر على حوالي ثلث التجارة العالمية.

ففي بورصة المال الأمريكية تدور معارك المليونيرات والبليونيرات، تدار بذكاء وحنكة ودهاء وخباثة مع الجنس الباذخ الطافح، مع نوازع الجشع والطموح والطمع والشراهة، كل هذا على أرضية من القسوة التي تصل للقتل المعنوي وتحطيم الخصوم بكل الوسائل، فشارع المال هو نفسه شارع البلدة البدائية في أفلام الويسترن والمبارزة بالمواجهة بالمسدسات وإطلاق الرصاص من الخلف في الويسترن يقابلها المبارزة بالمؤامرات والطعن في الظهر والخسّة والرشاوي إلخ، فالإنسان هو الإنسان كما هو ما يمثله الكاوبوي التمثيل الصريح المباشر.. مع كل نفس يتنفسه هو مستعد أن يحطم منافسه لينتزع منه صفقة أو لينفرد بمجال اقتصادي معين، مستعد أن يطرد العاملين ويستغنى عن أعز أصدقاؤه في أول منعطف، فالعمل ليس له قلب.

 ففي فيلم money never sleeps قال (مايكل دوجلاس) للشاب حبيب ابنته، والذي يعمل بنجاح في البورصة، (هل أنت مثالي أم رأس مالي؟!) أي لا تتعجب أيها الشاب من القسوة والخسّة في المعاملات المالية، وفي نفس الفيلم تقول بطلة الفيلم وهي ابنة (مايكل دوجلاس)، تقول لحبيبها عن والدها رجل الأعمال مايكل دوجلاس: (وأنا طفلة لم أعهده أبدا كشخص مسالم، هذا يرعبني).. هذا يبين أن الكاوبوي مستمر بوسائل أخرى مثلما نقول أن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى، فالقتال والتقتيل مستمران يتلونان حسب كل عصر.

مايكل دوجلاس بطل فيلم money never sleeps

مخرج هذا الفيلم هو (أوليفر ستون) جعل نغمة أحد تليفونات المحمول، الموسيقى التصويرية الشهيرة لفيلم (الطيب والشرس والقبيح)!، فهل (أوليفر ستون) فعل هذا صدفة؟.. لا يمكن!.. إنه يقول لنا نحن في الكاوبوي، نحن في الويسترن تحت قصف أنواع حديثة من طلقات الرصاص.. نحن فينا ما في فيلم الطيب والشرس والقبيح، انظر وتمعن ستجد أهم أبطال فيلم (الطيب والشرس والقبيح) متواجدون هنا في فيلمي (money never sleeps).. أي والله.. هنا كما كان هناك.. المصلحة الشخصية هى المبتغى، ولا يهم أن ندهس الآخرين.

من هذه البدايات في الغرب الأمريكي خلق الأمريكان الواقعية السحرية الكاوبُووِيّة السينمائية.. سمعنا كلنا عن الواقعية السحرية خاصة في أدب أمريكا اللاتينية، وعلى وجه الخصوص في رواية (مائة عام من العزلة) لجابرييل جارثيا ماركيز.. فعلت هوليوود هذا قبله بطريقتها.. إن كان ماركيز اخترع بلدة غير موجودة، ومن أحداث الرواية يقول القارئ: إنها موجودة بالفعل وأنها تمثل الحياة الواقعية!، فالفيلم الهوليودي خاصة أفلام الكاوبوي فعل نفس الشيء، اخترع البلدة الكاوبُووِيّة وأبطالها حاملي المسدسات، وتشاجروا وأحبوا وكرهوا، وتقاتلوا وأسالوا الدماء، فيقول المشاهد: إنها موجودة بالفعل، وأنها تمثل الحياة الواقعية! وإن كان الفيلم فنياته عالية، لا تقول أنه يمثل الواقع، بل يأخذك لتعيش فيه، فهو الواقع، خاصة وأنت خلال المشاهدة.. لاحظ أن الترقي في الفنيات العالية تفعل نفس الشيء في مختلف الفنون.. إنها تأخذك لتعيش فيها فتكون واقعك خلال المشاهدة أو القراءة أو الاستماع.

هوليوود أبدعت حالة فنية خاصة جدا، لا نحاسبها حساب المعقولية الحياتية، بل نحاسبها بمدى واقعيتها الفنية.. أفلام الويسترن نجحت في تشييد صرح عظيم هو حالة سينمائية أمريكية صرفة.. حالة لا تختلف عن الحالة العامة للفيلم الهوليودي، والفيلم الهوليودي لا يختلف عن الحالة العامة لأمريكا، فهي من الثقافة العامة الأمريكية، تُشِيد بالفردية وترسخ حقها في الطموح والسعي الشرس لتحقيق هذا الطموح شبه المجنون.. حالة القوة فيها هي الفيصل، قوة نيران البنادق والمسدسات، وقوة اللكمات، مع قوة وسطوة الجمال النسائي، وقبل كل هذا سطوة المال قبل الوصول إليه، وبعد تكدسه أكواما في البيوت وفي البنوك، وكل هذه القوى لا أقول تشجع على فورة الأفكار والابتكار، بل الأفكار والابتكار والخيال، قواعد ثلاثة من ضمن القواعد الأهم للحالة الأمريكية، قواعد أساسية بدونها لم تكن أمريكا تتواجد وتتعملق وتكون هكذا إمبراطورية هائلة لها ما لها وعليها ما عليها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.