بقلم : محمود حسونة
هل نحن عاجزون عن تقديم إعلام يتجاوز الحدود ويساهم في تشكيل الوعي العربي ويكون وسيلتنا لإخراس من يستهدفنا بالكلمة والرأي والتحليل؟
الاجابة ببساطة: لسنا عاجزين ولكننا عاجزون!.. هي إجابة قد يستغربها البعض ويرى فيها تناقضاً، ولكن الحقيقة أنها ليست لغزاً وليس فيها أي تناقض، بالتجربة العملية لسنا عاجزين ولدينا من الإعلاميين من يمتلكون القدرات لخلق إعلام ناجح يقول الحقيقة بصوت عال ويدحض الشائعات ويخرس ألسنة أبنائنا المؤدلجين الذين هربوا من مصر ليخاطبوا أهلها من الخارج بكل ما يثير الفتن ويقلقل المجتمع ويزرع الشك بين فئات الشعب المختلفة ويثير الغضب الشعبي على الحكومة، وهدفهم الأوحد إسقاط دولة عجز جميع الطامعين على مدار أكثر من سبعة آلاف سنة من النيل منها أو تغيير حدودها أو العبث بانتماء أهلها لهم واستعدادهم لبذل الغالي والنفيس دفاعاً عنها.
لدينا إعلاميون تحملوا مسؤوليات إصدار صحف ناجحة، ولا زالت، خارج الحدود، وإعلاميون شاركوا في تأسيس وإدارة قنوات تليفزيونية عربية حركت الشوارع وشكلت الرأي العام العربي وعمل لها صناع القرار ألف حساب وهم يتخذون قراراتهم، ولدينا إعلاميون كانوا ملء السمع والبصر بالقضايا التي أثاروها والآراء التي كتبوها والبرامج التي قدموها وجمعت حولها جمهورا متعدد الهويات والمشارب والانتماءات والاهتمامات، ولكنهم أصبحوا نسياً منسياً، ولعل كل هذه النماذج تؤكد أننا لسنا عاجزين عن تقديم إعلام يؤثر ويستقطب ويحقق الأهداف المنشودة.
أما باقي الاجابة (ولكننا عاجزون) فهي تعبير عن حقيقة، بعد أن حاولنا مراراً وتكراراً إنشاء قناة إخبارية تنافس في الفضاء العربي ويلتف المشاهدون حولها من المحيط إلى الخليج، ولكننا فوجئنا بكل ما أطلقناه قنوات تخاطب الداخل ولا تتجاوزه، وليتها استطاعت الانتشار داخلياً والتأثير الايجابي في الجمهور المصري، بل عجزت وخاطبت العاملين فيها ونادراً ما يشاهدها بعض العاملين في المجال الإعلامي، ليس بهدف المتابعة، ولكن من باب الفضول والاطمئنان على أنها لا زالت محلك سر أم استكملت العودة خطوات إلى ما خلف الخلف.
عندما أنشئت (قناة النيل الدولية) الناطقة بلغات أجنبية قبل 28 عاماً، هللنا وتوقعنا أن يكون لنا القدرة على مخاطبة الرأي العام الخارجي والتأثير فيه، ومع مرور الوقت اتضح لنا أنها ليست سوى أوهام وأضغاث أحلام، وأنشئت (قناة النيل للأخبار)، لنهلل أيضاً ونوهم أنفسنا أننا نملك القدرة على منافسة القنوات الإخبارية العربية حتى يلزم المتجاوزون في حقنا حدودهم، ومع مرور الوقت أفقنا من غيبوبتنا واكتشفنا أن حلمنا لم يكن سوى وهم، ولم يقتصر الأمر على النيل الدولية والنيل للأخبار فقط، ولكن حالة الانصراف الجماهيري امتدت إلى سلسلة قنوات النيل التي لم تعد تخاطب سوى نفسها.
جاءت (سي بي سي نيوز)، وانتظرنا أن تحقق ما عجز عنه الأسبقون، وباستثناء مرحلة الفلتان الاعلامي عقب انتفاضة يناير، انضمت هذه القناة إلى سلسلة القنوات الموجودة على الخريطة الإعلامية وغير الموجودة في الواقع، ثم تحولت إلى (إكسترا نيوز)، ولعله خيراً أنها تحولت إلى قناة إخبارية محلية تلجأ للخبر العالمي في حالة عدم وجود أو نقص الخبر والتغطية المحلية، حيث أن انسحابها من حلبة التنافس العربي كان بمثابة حفظ لماء الوجه.
آخر عنقود القنوات الاخبارية المصرية هى قناة (القاهرة الإخبارية)، والتي اتخذت من (القاهرة عاصمة الخبر) شعاراً لها، وسبق إطلاقها في أول نوفمبر الماضي حملة دعائية ضخمة أوحت للمشاهد العربي بأنها ستكون سيدة القنوات الإخبارية والتي ستخرس كل المتربصين إعلامياً بمصر، وستتصدر خريطة الإعلام الإخباري العربي، هللنا كالعادة وتجاوزت توقعاتنا السقف، وفوجئنا بها مولوداً مشوهاً عاجزاً عن استقطاب المشاهد المصري، ليظل ولاء كل مشاهد للقناة العربية التي اعتاد المتابعة الإخبارية عبرها من دون أي تغيير يذكر.
وبدلاً من أن تكون (القاهرة الإخبارية) وسيلة مصر لتوصيل رسالتها في الخارج والدفاع عن مصالحها في عالم متصارع والتعبير عن مواقفها تجاه القضايا الإقليمية والعالمية وواجهتها الإعلامية التي يعتز ويتباهى بها كل مصري، أصبحت منذ ولادتها مصدراً لسخرية الآخرين منها ومن الإعلام المصري بعد الأخطاء والخطايا التي وقعت فيها إدارتها والقائمين عليها والعاملين فيها، وكانت الفضيحة الأكبر عندما أطل مراسل لها في المؤتمر الصحفي الذي عقدته (نانسي بيلوسي) رئيسة مجلس النواب الأمريكي المنتهية ولايتها على هامش مؤتمر شرم الشيخ للتغير المناخي، والذي عجز عن إلقاء سؤال على المسؤولة الأمريكية باللغة الانجليزية ليثير همهمات المنصة استفساراً عن ما يقصده من الكلمات الركيكة غير المركبة بشكل صحيح التي نطق بها وهو يسأل عن رؤية بيلوسي لمستقبل العلاقات المصرية الأمريكية، كما أثار همهمات الصالة سخرية من مستوى الإعلاميين المصريين، وأثار غضب المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي غيرة على مصر وإعلامها المتهاوي.
كثير من الإعلاميين المصريين لا يجيدون الإنجليزية، ولكنهم لا يبادرون للسعي للتواجد في مؤتمرات دولية، ولو تواجدوا يلتزمون الصمت ولا يكشفون عوراتهم اللغوية والمهنية أمام العالم، وفي الحملة الدعائية السابقة للقناة الجديدة أوهمونا بأن كوادرها مختلفون، مؤهلون، يتقنون عدة لغات، مدربون لغوياً وإعلامياً، ولكن بالتجربة ثبت أن كثير مما قيل مجرد كلام للتسويق، ولو كان تسويقاً لبضاعة جيدة وموثوقة لشاركنا جميعاً في التسويق لها.
عندما أطلقت مصر إذاعة (صوت العرب) في الخمسينات من القرن الماضي نجحت في أن تجمع العرب حولها، وتكون صوت مصر المسموع في كل البقاع العربية، وخلال العشرين عاماً الأخيرة تحدثنا كثيراً وأطلقنا العديد من القنوات الإخبارية، إنما فشلنا في أن نستقطب بها المشاهد المصري الذي سلم نفسه طواعية لقنوات عربية ولقنوات مصرية مغرضة تبث من الخارج بعد أن عجز عن إيجاد ضالته في قناة مصرية تعبر بشكل حقيقي عن مصر الرسمية وإنجازاتها ومصر الشعبية وهمومها، وتستقطب المواهب وتستفيد من الخبرات الإعلامية المعطلة، وتنقل الخبر والحدث العربي والعالمي بما يتوافق ومصالح الدولة المصرية.