بقلم : محمود حسونة
لدينا تاريخ يجهله معظمنا، ويعرف عنه الآخرون أكثر منا، بل ويحرصون على تدريسه لأبنائهم في المدارس والجامعات باعتباره تاريخ للإنسانية ونحن على مقاعد المتفرجين جالسين. ولدينا حضارة تشغل العالم أكثر مما تشغلنا، وتتبارى دول الكوكب على اقتناء موروثاتها سواء بالسرقة أو باستغلال جهلنا في عصور مضت، ونحن لهم مباركون ولها مهملون، ولدينا علوم تعلمت منها الدنيا ثم سبقونا سنوات حضارية ونحن في سبات عميق.
نعم، لدينا ما يمكن أن نتباهى به، ونجعل بلادنا الأولى عالمياً في جذب سياح كل الدنيا إليها لو أدركنا قيمة الكنوز التي تركها لنا الأجداد، ولدينا حضارة عجز العلم عن فك ألغازها وسبر أغوارها، وعلى أرضنا عاش عظماء الأرض، وفي باطنها أسرار ستظل عصية على البوح بمكنونها لعقود بل وقرون، وعلى جدران مقابر أجدادنا ومعابدهم تركوا لنا قصة (أم الدنيا) وعظمة ملوك هذه الأرض ومعارك جيوشها ويوميات أهلها وإبداعات فنانيها وعبقرية معمارييها. (أم الدنيا) التي سبقت التاريخ وطوّعت الجغرافيا لبناء أعظم حضارة شهدتها الإنسانية منذ أنزل الله آدم على الأرض.
لدينا ما نتباهى به، ولكن عندما نعجز عن التباهي، ونخبئ ما لدينا، ولا نعرف أولادنا عليه، ولا نكشفه أمام الناس ولا نسّوقه للعالم، يصبح كأنه لم يكن، لا جدوى منه سوى للباحثين ولعشاق حضارتنا والذين يسعون منذ قرون لاكتشاف كنوزها ونحن ليس لنا دور سوى تمهيد الأرض لهم وتقديم المساعدة الممكنة؛ ومنذ سنوات وبعد فك العالم الفرنسي (شامبليون) لرموز حجر رشيد، أصبح بالإمكان معرفة النصوص المكتوبة على جدران مقابر ملوك وملكات الفراعنة وعلى جدران معابدهم المنتشرة على مساحة المليون كيلومتر مربع التي تمثل مساحة مصر، أدركنا أن لدينا كنوزاً، وبدأ بعضنا يدرس الآثار وعلم المصريات، وأصبح لدينا علماء ينقبون بأنفسهم عن كنوز أجدادنا المدفونة في قلب الأرض والغارقة في أعماق البحر، واليوم لدينا علماء يبهرون العالم بما لديهم من معلومات ورؤى حول الحضارة المصرية القديمة.
ولكننا بالرغم من كل ذلك لم تسع أجهزتنا المعنية لمنح حضارة أجدادنا وتاريخهم العظيم المكان والمكانة اللائقين في مناهجنا الدراسية، ولم تدرك وسائلنا الإعلامية قيمة حضارتنا وتمنحها المساحة المستحقة في صفحات صحفها وعلى شاشات قنواتها التليفزيونية، والأمر نفسه ينطبق على أصحاب القرار في صناعة الدراما والسينما، ويبدو أن تجربة العظيم (شادي عبدالسلام) مع فيلم (المومياء) لم تحفز الغافلين على البحث في تاريخنا الفرعوني لتقديم شيء عنه للمشاهد حول العالم، أو أضعف الإيمان للمشاهد المصري وذلك رغم مرور 53 عاماً على إنتاج (المومياء) والنتيجة أننا كما كنا بالماضي، وعي بقيمة حضارتنا مفقود واهتمام عالمي بها متصاعد، وترك تاريخنا للآخرين يعبثون به كيفما يشاؤون على شاشات السينما العالمية وفي محطات التلفزة الغربية والشرقية، ليروي كل منهم تاريخنا للرأي العام العالمي من وجهة نظر غير موضوعية وبما يتوافق مع سياساتهم الخبيثة، وكأن تاريخنا (مال سايب) نتركه لمن يسرقه أو يستغله أو يعبث به ونحن في اللهو منخرطون.
أخيراً، أنعم الله علينا بكاتب ومخرج اسمه (محمود رشاد)، قرر أن ينصف تاريخنا وحضارتنا وملوكنا وملكاتنا وإنساننا القديم الذي بنى حضارة الخلود والتسامح وأهدى للعالم علوماً ونظريات ومصابيح اهتدت بها البشرية في خلق وتأسيس حضاراتها المتعاقبة. محمود رشاد قرر أن يحكي لنا قصة (أم الدنيا) التي أنجبت الحضارة والتي ولد من رحمها التاريخ والتي كانت وستظل صاحبة الفضل الأول على الإنسانية والتي أكدت أن إنساننا القديم لم يكن بدائياً كما الآخرين، ولكنه كان مثقفاً ومتعلماً ومتحضراً ومبدعاً ومتجدداً من عصر إلى عصر، قرر أن يقدم للعالم الغارق في وحل الصراعات السياسية والعسكرية والمحاصر بالفيروسات والأوبئة، والمعتدي على الطبيعة والمسبب للاحتباس الحراري والملوِث للمياه والهواء قصة حضارة أبدعت بناءً وعلماً واحترمت الإنسان حياً وخلدته ميتاً ونادت بالتوحيد منذ قديم الزمان.
حكاية (أم الدنيا) تعود إلى 19 ألف عام قبل الميلاد، وتحكي قصة المصري القديم من عصر إلى عصر، تتناول عصور ازدهاره وعصور انحداره والتي يطلق عليها تاريخياً (عصور الاضمحلال)، حلقات وثائقية مسلسلة تتتبع آثار وتطور الإنسان المصري القديم، مروراً بتوحيد الأرضين (الشمال والجنوب) وعصر بناء الأهرامات، وعصور الاضمحلال الأولى والثانية، وملوك الهكسوس وازدهار ملوك الدولة الحديثة حتى حكم كليوباترا.
المسلسل ترويه النجمة صاحبة الملامح الفرعونية (سوسن بدر)، واصطحبتنا خلاله في جولات على كل الأرض المصرية، إلى المقابر والأهرامات والمعابد وقرأت لنا العبارات التي دوّنها ملوكنا وملكاتنا على الجدران في لحظات النصر وأحياناً الهزيمة، وعرفتنا من خلال لقاءات مع أساتذة مصريات ومتخصصين في التاريخ الفرعوني ليس على الملوك فقط ولكن على العامة والفنانين الذين تركوا لنا بعضاً من أقوالهم وتراثهم وأنماط حياتهم الاجتماعية والمهنية، وسردت بأداء معبر قصص الحب والتآمر وحكايات انتقال السلطة من أب لابنه وعلاقات الزواج بين الإخوة والأخوات حفاظاًعلى الدم الملكي والأمراض التي أفرزتها هذه الزيجات.
حكايات وحكايات ثرية ومعلومات كثيرة نجهلها، بل وكانت تجهلها الفنانة سوسن بدر قبل أن تلعب بطولة هذه السلسلة، حكايات تصلح لمسلسلات طويلة وأفلام غنية ولكن لم يلتفت إليها أحد من تجار الفن والساعين للشهرة السريعة، حكايات ُتعِلمنا وُتثِقفنا وتؤكد لمن لا يعرف أن المصري القديم تفوق على إنسان اليوم في بعض المجالات.
حكايات تستحق أن تروى، وإذا لم ننجح في ذلك سابقاً فلنعتبر هذا المسلسل هو البداية، ولنبدأ ننتبه أكثر لحضارتنا وتاريخنا وسنجد فيه الكثير من الدراما وعناصر الجذب، والكثير من الدروس والعبر، وسنجد فيه الكثير مما يستحق أن يُروَى سينمائياً ودرامياً، ويستحق أن يُسوَق عالمياً.
للأسف أن هذه السلسلة تعرض فقط على منصة (ووتش إت)، ولم يتم عرضها على أي من شاشاتنا الكثيرة والتي أصبحت تعرض الكثير من الغث الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ولم أر قبل أو خلال عرضها إعلاناً واحداً عنها في الشوارع مثلما يحصل مع مسلسلات رمضان (وأكثرها رديء)، التي كانت إعلاناتها تحاصر الناس في الشوارع وعلى كل الطرق الرئيسية والفرعية، ولم نسمع عن أي محاولة تسويق خارجي لهذه السلسلة القيمة، ومن يتتبع الصحافة لن يجد سوى بضعة أخبار هزيلة على بعض المواقع، ولم تجذب النقاد والمحللين الذين لا تنشغل أقلامهم بمثل هذا العمل الهادف قدر انشغالهم بالمجاملات والكتابة الرخيصة عن أعمال رخيصة، والكارثة أن نسبة مشاهدتها ضعيفة جداً والدليل أنها لم تثر أي حالة جدل على مواقع التواصل ولم تركب الترند مثل تفاهات حياتنا ومعاركنا المفتعلة لهدم وطننا.
إذا كنا نريد تنشيط السياحة فلتكن البداية من (أم الدنيا)، وإذا كنا نريد ما نتباهى به أمام الأمم فلتكن البداية من (أم الدنيا)، وإذا كنا نريد أن نرفع وعي أبنائنا وحسهم الوطني ونزيد انتماءهم لبلدهم فلتكن البداية من (أم الدنيا)، وإذا كنا نريد أن نتعلم الوعي بقيمة العمل وعظمة الأجداد ونرتقي ببلادنا فلنشاهد (أم الدنيا)، وإن كنا نريد أن نظل محلك سر ونروج للتفاهة الفنية ونترك تاريخنا يعبث به الآخرون به فلنتجاهل (أم الدنيا)، وننسى هذا التاريخ، وهو الذي سيؤدي في النهاية إلى أن ننسى أنفسنا !!!