رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد شمروخ يكتب : عماد الفقى.. رصاصة الرحمة قتلت الحصان النبيل

محمد شمروخ يكتب : عماد الفقى.. رصاصة الرحمة قتلت الحصان النبيل
الراحل النبيل (عماد الفقي)

بقلم : محمد شمروخ

عندما يعجز العقل عن تفسير الأشياء، لا يبقى إلا الجنون كأنسب الوسائل لاستيعاب ما حولك، لكنى لن أدع فرصة للجنون عند الحديث عن صديق العمر الذي رحل محدثا برحيله دويا هائلا سيظل طويلا لم يجاوزه غير مرارة سكنت ثنايا قلوبنا فأثقلتها بما لا تطيقه الجبال.

لن أرثيه هنا فأحيانا يبدو الرثاء تصنعا لا يستقيم مع جيشان الأحزان التى يضيق بها الصدر وينفطر لها القلب، ولسنا بحاجة لدموع جديدة، فما بكت به القلوب يكفى، فلألزم الصمت حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.

لكن كان الحادث مناسبة، وليس فقط إشارة، لما تعيشه دولة الصحافة المدبرة من حال لا يخفى على أحد، فقد جحدها الغريب وأنكرها القريب وصار صديق أمسها متربصا في يومها واقفا في طريق غدها.

انتزع بلاط صاحبة الجلالة ليباع في المزادت ونزلت مليكته العصماء عن عرشها ولم يعد مشهد الجريدة في يدك دليلا على ثقافتك واهتمامك بأمر هذا العالم، بل بات مثيرا للسخرية ومغريا بالنظر إليك شذرا من شبيبة يتغامزون من حولك!

شئنا أم أبينا مضى عهد الصحافة الورقية بعد أن تمكنت صحافة الثرثرة والعبث عبر شاشات الموبايلات في يدى ويدك وأيد الجميع.

كان هذا واحدا من أسباب نهاية (عماد) المفجعة أم لم يكن، لا يهم، المهم أنه أدركه وتجرعه في كل مرة يأتى إلى مقر الجريدة ليقوم بما أو كل إليه من عمل!

لقد صار كل شيء حول الصحافة ينكرها ويطالب بسرعة التخلص منها، اقتصاد، مجتمع، سياسة، رياضة، فن.

أما أجهزة الدولة فقد باتت تتعامل مع الصحافة، معاملة أبناء السيد لخادمهم الطاعن، لم يمنعهم من إلقائه في عرض الطريق، غير تأجيل عار الاتهام بـ (قلة الأصل) حتى حين!

كنت أنا وعماد الفقى وكثيرون من أبناء جيلنا الذي يميد به انتصاف خمسينات العمر نحو حافة القرار المحتوم، قد لحقنا بأواخر العهد الذهبي للصحافة، عندما كان الناس حديث الصحف والصحف حديث الناس، وكيف كانت فكرة مصطفى أمين ومواقف أنيس منصور ومفكرة يوسف إدريس ويوميات أحمد بهاء الدين وجراح مأمون الشناوى ونص كلمة أحمد رجب في أيامنا وليالينا.

محمد شمروخ يكتب : عماد الفقى.. رصاصة الرحمة قتلت الحصان النبيل
الصحافة الالكترونية قضت على الورقية

مقالات وموضوعات تهدر بها المطابع ما بين الأهرام والأخبار والجمهورية وروزاليوسف وآخر ساعة وأكتوبر وصحف المعارضة، أهالى، وفد، أحرار، شعب.

كان حظ هذا الجيل أن يكون قبل الأخير وقد يدرك قرارات وقف إصدار الصحف الورقية بعد أن هجرها القاريء والمسئول معا!

لكن عزاءنا أننا أدركنا أيضاً، أن موت الصحافة الإكلينكى الذي نعيشه حالياً، لم يكن لتقصير من هذا الجيل ولا ممن سبقوه أو لحقوا به، فقد شاهدنا من العبث والتضليل والكذب والاختلاق وتزييف الوعي من صحافة الوسائط الإلكترونية ما يريح ضمائرنا ويعلن براءتنا مما كان ينسب إلينا.

نعم.. نحن برءاء من هذه الطوافين الكاذبة، فقد كانوا قديما عندما تغضبهم الصحافة يتهمونها بالكذب، فيصفون أحاديثها بأنها (كلام جرايد) لكنهم عندما يحسمون بحدوث أمر يقولون (الجرايد كتبتها).

فما الحال الآن أيها القارئ الحانق؟!

أنت نفسك ستقرأ هذا الذي أكتبه الآن عبر وسيط إلكترونى وليس جريدة ولابد أنك كنت تطوف مشارق فيسبوك ومغاربه قبل أن تختار على سبيل قتل الملل، أن تفتح هذا الرابط.

هل أنت راض عن محتوى ما طالعت عيناك؟!

هل أنت ساخط؟!

لا يا صديقى: فكلا السؤالين يحتاجان إلى تعديل، فلا اعتبار للرضا والسخط مع حالة الأسر التى نخضع لها جميعا تحت وطأة الرغبة المحمومة في تقليب صفحات المواقع ومتابعة البوستات والتويتات والانستجرامات والفيديوهات، انظر حولك، لأصدقائك، لأبنائك، لزملائك في العمل ولركاب الميكروباصات والأتوبيسات، جميعنا نحنى رؤوسنا ونسلم عقولنا لفيوض هادرة من الثرثرات والإثارات في سباقات محمومة بلاهدف ولا فائدة!

كم من مرة استنكرت تصرف من شخص ما تحدثه في أمر مهم فإذا به ينصرف بكل وعيه عنك إلى شاشة موبايله ويتركك تكلم نفسك كالمجنون مهملا وجودك كله؟!

كم مره فارت الدماء في عروقك عندما لاحظت أن أحدهم يقود سيارته وأمامه الموبايل يعبث فيه برغم زحام كوبرى أكتوبر؟!

محمد شمروخ يكتب : عماد الفقى.. رصاصة الرحمة قتلت الحصان النبيل
الأخبار أصبحت تلاحق القارئ أينما ذهب

لكن مع كل ذلك أعود فأقرر لك إن قرار موت الصحف الورقية لم يكن بسبب كل هذا الذي سبق؟!

انت تسأل ما علاقة ما تقول بفاجعة موت (عماد الفقى)؟

نعم أنت محق لأن نهاية (عماد )المفجعة لا يبررها ذلك، لكنه بقراره المميت جعل من أزمة الصحافة حديثا لابد أن يحكى!

صدق عندما أخبرك بأنه لم يكن يائسا من الصحافة بل كان مصرا على أمل عودتها من جديد.. لو..

كنا نردد دائما أن الكتاب الورقي مازال يحتفظ بمكانته بل يزداد قوة وبنظرة إلى معرض الكتاب السنوى والمعارض الموسمية وباعة كتب سور الأزبكية وكوبرى أبو الريش أو على الأرصفة، ستقرر لك أن الكتاب لم يهزم كما هزمت الصحافة!

لن أزايد على الحرية، فالحرية متاحة بلا قيود على مواقع التواصل الاجتماعى ويمكنك أن تكتب ما تشاء، لكن هل كسبت الحرية سوى أنها صارت هى نفسها قيمة مشكوك فيها ولم تعد بتلك الصورة السمائية قبل عهد التواصل، بل صارت سيئة السمعة حتى أنها تكاد توجد أعذارا للقمع؟!

ثم إن عصر الستينات المتهم بالقمع وتقييد الحريات، كان عصر الكتابة الذهبي في مصر!

فلتبحث عن سبب آخر!

هل لأنها صارت مهنة مكلفة؟!

لكن الصحافة رسالة وليست سوقا لعرض السلع ولا منجما قديما للفحم الحجرى.. عذرا أنت تضحك الآن من ترديد كلمة رسالة!

هل تذكرتها؟!

هى ليست الجمعية الخيرية التى كانت تطاردك باتصالاتها، لكنك تسخر لأن كل شيء في ثقافتك الاستهلاكية يقاس بالمكاسب والخسائر، مع ذلك فها أنت تخسر كل لحظة لأنهم يستنزفون رصيدك يوميا عبر موبايلك وتدفع أضعاف ما كنت تدفعه في نسخة جريدة ورقية في تفاهات بلا جدوى، فإذن فنحن الأولى بالسخرية منك، لأنك سخرت من رسالة الصحافة!

صدقنى لقد خسرت كثيرا ولن يجدى استعطافك كقارئ لكى تعود للجريدة، ثم أننا نحن كصحفيين مازلنا مستمسكين بالجمر، نعلم تماما أن عهد الصحافة الورقية ولى وأننا لابد أن نطور أنفسنا ونخاطبك عبر شاشة موبايلك – أذكرك بأنك تقرأ لي على موبايلك – لكنك كما كفرت بنا هناك، ستكفر بنا هنا!

وهنا تكمن مأساتنا (نحن ولا أنت مكانا سوى)، فقد خسر من الصحفيين من آمنوا بأن الثرثرة هى رسالتها من أتباع طريقة الرجل الذي عض الكلب، كما خسر المنتمون للفئة نفسها بإهدار أعمارهم في البحث عن الفصيلة الإنسانية النادرة من عضاضي الكلاب.

صدقنى مجالات السفه والتفاهة والبلالين العملاقة على فيسبوك ويوتيوب وتويتر لم تغر كثيرا من الصحفيين مثل عماد الفقي ليغير مجاله، فالأمر لن يزيد عن موبايل حديث وبعض التقنيات البسيطة ثم يجلس على مكتبه ليفاجئك بأن صلاح الدين هو أحقر شخصية في التاريخ ولا يباريه في الحقارة إلا أحمد عرابي، أو أن أبا بكر كان داعشيا وأن عمر بن الخطاب كان مهملا في تأمين حياته حتى قتله (سيدنا) أبو لؤلؤة!

.. الحديث سوف يطول وأنا الآن أشغلك عن متابعة الحلقات الأخيرة من مسلسلاتك المفضلة، كما أن الفاصل قد طال بك لتعود لمتابعة ما استجد من الأحداث.. فعذرا!

بس الله يرحمك ويسامحك يا عماد.. فلربما أردت بما فعلت إطلاق رصاصة الرحمة.. لكنك حتى اللحظة الأخيرة، لم يصبك ما أصاب خيل الحكومة من شيخوخة، غير رصاصة رحمتك قتلتنا كلنا معك!.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.