رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

أبراج النصب العلنى !

بقلم : محمد شمروخ

نهاية كل سنة وبداية ما بعدها فرصة كبرى للنصب العلنى عبر برامج تلفزيونية ومواقع إلكترونية وصحف ومجلات وكتب وفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعى، كلها تصب في مجرى واحد حول التنبؤ بأحداث العام الجديد عبر وسائل التنجيم وقراءة الطالع وفتح المندل وتقليب أوراق التاروت.

وكل سنة يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن العقليات العلمية أو الثقافية المدعاة في كثير من المستويات التعليمية والاجتماعية المرتفعة، ليست سوى وهم كبير وما تصدير الجديد إلا كإمعان في إتقان فنون النصب والخداع.

فلكل طبقة ومستوى اجتماعى أو ثقافي، معتقداته الخرافية التى يقنع نفسه بها ويؤمن بها إلى درجة اليقين غير القابل للشك، بداية من الفئات الدنيا التى  تعتقد في التبرك بالأضرحة وتأثير الجان والأعمال السحرية ونهاية بالفئات التى تتعامل مع الأبراج والطب الروحانى، والتى تجدها منتشرة فيمن يدعون أنهم علية القوم.

وكل عام في نهايات ديسمبر تنشط هذه السوق ويتهافت عليها معدوا البرامج لتقديم فقرات يتم من خلالها عرض التنبؤات التى سبق أن ترددت في أعوام 2021 و2020و2019 وما قبلها من سنين وأحيانا تتطابق بالنص!.. وكأن اللعبة متفق عليها هم يكذبون ويعلمون أنهم كاذبون والبعض يصدقهم ويعلمون أنهم مخادعون!

هؤلاء لا يكفون عن الكذب وأولئك لا يسأمون من سماعهم ويتجاهلون أنه في كل سنة يثبت كذب ما لا يقل عن 99% من نبواءاتهم والـ 1% الباقية إما صدفة أو موقف منتظر وقوعه بين لحظة أو أخرى.

وتذكر معي كم مرة توقعوا وفاة ترامب وإليزابيث وبوتين وغيرهم ما بين موت طبيعى أو بالاغتيال، وعن كم زلزال وإعصار وحوادث وحرائق وكوارث تقع كل سنة وكل شهر وكل يوم، ولكن حذار أن تناقش أحد منهم في مجال اعتقاده، خاصة المؤمنين والمؤمنات بما يدعى بالأبراج سواء بالصفات أو بالحظوظ.

لكن القضية ليست فقط في المؤمنين بالدجل ولا الخرافات، فهم مبثوثون في كل طبقة ومستوى تعليمى وثقافي، بل القضية هى الترويج الإعلامي لهذا النصب باستضافة وتنجيم شخصيات مجهولة تتحدث بلا أى سند لأى علم أو خبرة، فالكلام مرسل وليس له داعم من العقل أو العلم أو التجربة، فما يدعى بعلم التنبؤ عن طريق الأبراج هو أساسا من بقايا المعتقدات الوثنية والأسطورية في المراحل المبكرة من تاريخ الإنسانية، ولكنهم يعتمدون اليوم على عوامل نفسية أهمها إتقان الكلام بجدية والإصرار بشكل منظم على أن ما يقدمون علم يدرس في أوروبا وأمريكا لزغللة العيون وتعكيم العقول، لكن لا أحد يقول لنا من هم علماء وأئمة هذا العلم ولا ما هى الطرق التى تم تلقى العلم بها، وهل هو يعتمد على الاجتهاد الشخصى المعتمد على خصائص نفسية معينة أم أنه علم تراكمي تعليمي.

غير أنه في الحالين سوف تقابلك إجابات مبهمة واصطناع للجدية مع الإصرار على أنه هذا الدجل هو علم حقيقي وليس علما زائفا.

لكن انتشار هذا الهراء سنويا مع تقديمه كوجبة أساسية في برامج آخر السنة مع إنصات مقدم البرنامج أو مقدمته، باهتمام شديد يؤكد لضيفه أو ضيفته، يقطع بأننا نعيش في أزمة وعي حقيقية وأن التعمية وتضليل العقل لعبة يشارك فيها بعض المؤسسات الإعلامية والتى تمثل ثقافة شرائح معينة من المجتمع.

الأمر لا يقتصر على الإعلام، فهناك رجال أعمال كبار لا يقمون على أي صفقة أو مقاولة أو أي عملية في مجال الأعمال إلا بعد اللجوء إلى عرافيهم وسحرتهم، ولقد شاهدنا وتابعنا إحدى القضايا الكبرى التى اتهم فيها رجل أعمال كبير ومالك لإحدى القنوات الفضائية، وكيف كانت علاقته بواحد من أكبر وأشهر السحرة والمشعوذين، وكيف تشاركا في البحث عن الآثار باستخدام السحر والتنجيم وتسخير الجان.

ولم يكن رجل الأعمال هذا حالة استثنائية، بل كان نموذجا لكثير من زملائه وأصدقائه من كبار رجال الأعمال وبعض المسئولين الكبار!

وحتى لا نتهم مجتمعنا وحده، بل كثير من المجتمعات الأخرى تتغلغل فيها تلك الثقافات الخرافية، لكن ترسيخ هذه الثقافة لدينا بشكل موسمى، يتنافر مع الدعاوى الإعلامية للتنوير، فالخطر على العقل والوعي، ليس فقط من قوى التعصب والسلفنة والإرهاب، ففي الموازاة هناك الدجل والشعوذة والإيمان بالأبراج والتاروت وما شابه، تعلن بدورها حصار الوعي ومسخ العقل ومجافاة العلم.

إنه لشيء محزن أن تنتظر كل سنة من يحدثك عن نبوءات العام القادم، مع ضرورة  أن نتنتبه جيد إلى حقيقة لا مراء فيها، وهى أن الدائرة الزمنية الكونية ليست بالضرورة متطابقة مع التقاويم التاريخية ولا يمكن أن تكون تابعة لها، ولا أحد يستطيع أن يزعم ذلك إلا افتراضا جدليا، لأنه من الواجب أن تخضع التقاويم للظواهر الكونية وليس العكس، فالعالم لا يعنى ببداية سنة ونهاية أخرى ولا طريقة العد التراكمي للسنين.

فأول أمس بدأت سنة جديدة حسب التقويم الميلادى الجريجورى الذي وضعه بابا روما جريجور الثالث عشر في القرن السادس عشر والذي قام بتعديل التقويم السابق عليه وكان معروفا بالتقويم اليوليانى المنسوب ليوليوس قيصر والذي انتابته بعض الأخطاء، مما دعا لتعديله وهو المعمول به حتى الآن، لكن التقويم الجريجورى ليس الوحيد في العالم، فهناك عشرات التقاويم المعتمدة، كل تقويم له طرق حساباته، إذن فقدوم عام جديد هو حدث لا يعني الكون في شيء، فلا الشمس والا القمر ولا النجوم ولا الأفلاك تخضع للتقاويم البشرية ولا طريقة حسابها، بل التقاويم وضعت أساسا كجهد بشري لتنظيم الحياة الإنسانية في ظل الظواهر الكونية المستقلة أساسا عن أي تقاويم.

فبداية كل تقويم مختلفة عن الأخرى، هناك السنة الشمسية التى يخضع لها التقويم الميلادي بتعديلاته قبل وبعد الميلاد، وهناك التقويم القبطى الذي يعتمد على ظهور نجم الشعرى وهناك التقويم العربي المعتمد على القمر، وهناك تقاويم بالعشرات هندية وفارسية وصينية وإفريقية، وأخرى عديدة تختلف ما بين الشمسي والقمرى، وكل تقويم له بداية ونهاية مختلفة عن التقويم الآخر، فلماذا يختار المنجمون شهر ديسمبر من السنة الميلادية حسب التقويم الجريجورى، ليذكروا أحداث ستقع في العام الجديد، متجاهلين أو جاهلين أن هذا العام الجديد هو فقط جديد بالنسبة للتقويم الجريجورى وأن هناك أعواما أخرى تبدأ وتنتهى ولا نكاد نعلم عنها شيئا، فبأى عام سوف يدور الكون دورته السنوية؟!

عموما هذا الكلام لن يعتنى به رواد النصب السنوى لأن العملية في الأساس قائمة على النصب والخداع في أرضية من الجهل والتخلف، ولكن مع الأسف هناك من يريد فرض تلك الثقافة المغيبة التى تلهى الناس عن حقائق حياتهم بالإغراق في التفاهات والضلالات الموسمية، والتى لا تكاد تختفى حتى يقوم غيرها ليعمى العقل ويشوش الوعي تحت أى زعم جديد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.