بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
منذ أن ابلغنى الصديق الدكتور جمال ياقوت بموافقة اللجنة العليا لمهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبي على ترشيحه لى لأكون ضمن المكرمين فى الدورة الثامنة والعشرين للمهرجان ، لم تفارقنى صورة أستاذى الدكتور فوزى فهمى ، فى وسط مشاعر متضاربة من المفترض أن يغلب عليها الفرحة بالتكريم و لكن تهب عواصف من الحزن مختلطة بالدهشة و أحيانا الأسى .
من المؤكد أن يرتبط فى الذهن اسم المهرجان بالدكتور فوزى ، فبرغم إنه ليس صاحب فكرته و برغم عدم وجوده على رأسه فى الدورة الأولى ، إلا أنه صاحب الفضل فى استمرار المهرجان و ترسيخ وجوده و تطويره ، حتى أصبح حدثا مسرحيا متميزا ، تتسابق الفرق و الأفراد للمشاركة فيه ، لما له من فرادة فنية بين مهرجانات المسرح العالمية و قيمة علمية أضفتها مطبوعاته و ندواته . و نتج عنه تطور مؤكد على مستوى الحركة المسرحية المصرية و العربية ، فلقد أثّرت عروضه فى كثير من المسرحيين بعد أن فتح لهم أبواب المشاهدة و الاطلاع على أحدث الاتجاهات ، فنهلوا منها ، حتى بات هناك جيل من الممكن أن نطلق عليه (أبناء التجريبي).
و من المؤكد أيضا أننى أعتز بتلمذتى فى بداية الثمانينات على يد الدكتور فوزى فى المعهد العالى للنقد الفنى ، حيث كان يدرّس لنا مادة الدراما ، و لكن العلاقة الشخصية بدأت عندما قدمت له نسخة من خطة رسالتى لنيل درجة الماجستير ، و المسجلة بقسم أصول التربية بكلية التربية ، جامعة عين شمس و التى تحمل عنوان ( المسرح الجامعى ) ، حيث تتناول الرسالة دراسة النشاط الطلابى المسرحى فى الجامعات المصرية خلال النصف الأول من سبعينيات القرن الماضى ، مقارنة بين مايجب أن يكون و ماهو كائن . و بعد أن قرأ الاستاذ الخطة استأذننى فى الاحتفاظ بنسخة منها، و كان ذلك مبعث فخرى و سرورى . و صارت بيننا ( معرفة ) و لكنها تنامت مع الوقت و مع مشاهدته لعروضى ، حيث كان متحمسا لما أقدمه ، فقربنى منه حتى صرنا أصدقاء ، و كان مبادرا بالاتصال فى أغلب المناسبات حتى أنه أخجلنى ذات مرة و هو يتصل بى ليطمئن على أحوالى عندما شاهد صورة لى على مواقع التواصل الإجتماعى يبدو فيها أننى ضقت بالحياة ، فأكبرت له اهتمامه بأحد تلاميذه – و هم كُثر – لهذه الدرجة .
و برغم أننى لست من أبناء أكاديمية الفنون – و التى كان الدكتور فوزى معتزا بها و بخريجيها إلى أقصى حد ، و كان داعما لوجود أبنائها فى معظم الوظائف القيادية بوزارة الثقافة – إلا أنه ساندنى كثيرا فى مسيرتى المسرحية ، دون حتى أن يذكر لى أو لسواى هذا ، فذات مرة ثار الوزير فاروق حسنى بعد أن شاهد عرضى ( اللى بنى مصر) – الذى قدمته فى وكالة الغورى من إنتاج الثقافة الجماهيرية عن نص الدكتور محسن مصيلحى – بسبب ما تضمنه العرض من نقد قاس للحكومة ، التى كانت وقتها تجمع الأموال لسداد ديون مصر ، و جاء العرض ليتساءل على لسان بطله الاقتصادى الكبير طلعت حرب : ( مين السبب فى ديون مصر ؟ و ازاى دينّها ؟ و الفلوس دى اتصرفت فى ايه ؟ و المصريين كانوا فين ؟ ) ، و انصرف الوزير بعد نهاية الفصل الاول مستاء ، محاولا إغلاق المسرحية ( بشكل قانونى ) عدة مرات ، و فوجئت ذات مساء بالدكتور فوزى يحضر العرض وحده دون مرافقين ، و كأنه مشاهد عادى ، و فى موقف لم أتوقعه على الإطلاق همس فى أذنى بعد العرض ( انت قلت اللى كلنا نفسنا نقوله ، اتمسّك بالعرض ) ، و لاحظت بعد مشاهدة الدكتور فوزى أن مطاردات الوزير توارت ، انتظارا لانتهاء أيام العرض المقررة ، و بعد نهاية اليوم الأخير ، لم يسمح الوزير بمد العرض أو تصويره ، بل لم يوافق على طلب المنتج الكبير محمد فوزى بأن يشترى جميع حقوق الملكية و أن يسدد كل ما دفعته وزارة الثقافة من تكاليف إنتاج ، مقابل أن يقدم العرض على مسرحه الخاص !!
و تعددت مواقف الدكتور فوزى المساندة ، فلن أنسَ بالطبع تشريفه لى باختيارى عضوا بلجنة التحكيم الدولية الخاصة بالمهرجان التجريبى عام 2007 ، و التى كانت تتكون كل عام من 11 شخصية مسرحية عالمية و بها عضو مصرى واحد – و هذا تشريف و تكريم كبير لأى فنان مصرى أن يحتل هذا المقعد – و أيضا اختياره لى عضوا بلجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة تحت رئاسته على مدى دورتين و احتماله لآرائى الحادة و الناقدة لنظام العمل بوزارة الثقافة . بل أعتقد انه كان وراء ترشيحى لإخراج عرض افتتاح المسرح القومى ( و بحلم يا مصر ) عام 2014 ، و كيف لا و قد رشحنى عدة مرات لتقديم أعمال فى مناسبات هامة .
فلماذا تظل صورته تثير فى ذهنى مشاعر مختلطة و مضطربة ؟ .. بالتأكيد هو فى مكان أفضل فما سبب الحزن و الدهشة و الأسى ؟ و فى لحظة أدركت أن السبب هو تكريمى فى مهرجان مرتبط بالأستاذ و فى دورة تحمل اسمه ، فى حين أنه هو نفسه لم يكرم لا فى مصر و لا خارجها !!
و لكنى أعلم جيدا أن هذا ليس لتقصير من تلاميذه و أحبائه أو عن إهمال أو إنكار للقامة و القيمة ، و لكن لرفض الدكتور فوزى لأى تكريم ، فعند عودة المهرجان فى الدورة الثالثة و العشرين بعد توقف لمدة ست سنوات ، اتصل به الدكتور سامح مهران – رئيس المهرجان – لينقل له رغبة مجلس الادارة فى تكريمه ، و لكنه رفض ، ثم أرسل خطابا مؤكدا رفضه يقول فيه : ( أعاود شكري وتقديرى لاتصالكم بشأن إخطارى برغبتكم فى تكريمى هذه الدورة ، حيث اعتذرت لسيادتكم شارحا موقفى من أمرين : هما التكريم والجوائز ، وذلك أمر يعود الى عام 1962 ، إذ كتب استاذى الدكتور محمد مندور عن البحث الذى تقدمت به للتخرج مقالا اعتبرته الجائزة الأولى والاخيرة التى حصلت عليها طوال حياتى – مضيفاً – مرة أخرى أقدر رقى مشاعركم واهتمامكم وأكرر اعتذارى رسميا متمنيا لكم وللمهرجان كل النجاح ) ، و عندما عاودت الاتصال به أصر على الرفض و روى لى كيف رفض حتى الترشح لجائزة الدولة التقديرية ، باعتبار أن مقال أستاذه أكبر من كل التكريمات و الجوائز ، و قال لى بفخر : ( ستظل مهنتى الأولى و رسالتى التى لا أتنازل عنها أننى – خوجه – خُلقت للتدريس ، أما المناصب فهى مجرد مرحلة ، و يشهد الله اننى لم أتأخر عن محاضرة لى قط بسبب المناصب أو المهام ، بل كان للتدريس دائما و أبدا الأولوية . أما التكريم فلن يكرمنى أحد كما كرمنى أستاذى محمد مندور ، و كما ألقى التكريم فى أبنائى و بناتى المتفوقين ) .
و فى النهاية أدركت أن الاسى الذى يشوب فرحى نابع من أننى كنت اتمنى أن أنال التكريم فى وجود أستاذى الجليل ، الذى كان يفخر بأنه ( خوجة ) ، و الذى سعى إليه التكريم مرارا و لكنه رفضه .