رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

ربا الجمال .. لحن شرقي شجي حزين لم يكتمل !

أول ظهور لربا الجمال على المسرح عام 1983

* رحلت والداتها وهى لم تكمل عاما، وذاقت مرارة اليتم والقسوة من زوجة أبيها

* دخلت الملجأ فى طفولتها والدير في صباها، واختبرها (دريد لحام) فى اختبار الأصوات

*  اشتركت في مسابقة (ماريا كالاس) ونالت المرتبة الأولى أمام أكثر من ثلاثين صوتا نسائيا أوروبيا متميزا

* تعاونت مع كبار الملحنيين فى العالم العربي منهم (وديع الصافي، سهيل عرفه، نجيب السراج، أمير عبدالمجيد، صلاح وفاروق الشرنوبي)

* آخر حفل لها كان سبب إكتائبها، وشهدت جنازتها فضيحة

غنت الغناء الوطني بطريقة تجمع بين صوفية العشق والذوبان فى الوطن

كتب : أحمد السماحي

لا يقاس العطاء بالفترة الزمنية التى يطول فيها عمر هذا العطاء فقط، ولكنه يقاس بمدى ما يحققه من إضافات فى عالم الغناء، ولأن العطاء ينجح بقدر ما فيه من موهبة وتعبير وإحساس، فإنه يضمن البقاء الذي يحقق له الخلود، حتى ولو لم يتحقق له الاستمرار على قيد الحياة، ومن أمثلة من قصرت سنوات حياتهم، وطالت سنوات إبداعاتهم الموسيقار العالمي نابغة الموسيقى (موتسارت) الذي رحل عن الحياة وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، وفنان الشعب (سيد درويش) الذي رحل وهو في بداية الثلاثينات.

 وكذلك رائعة الصوت (أسمهان)، والمطربة التونسية (ذكرى)، ومطربتنا التى نحكي عنها هذا الأسبوع المطربة السورية (ربا الجمال) التى لم تكد تحقق وجودها الفني المميز وشهرتها حتى شاءت الحكمة الإلهية أن يتوقف نغم هذه القيثارة الذهبية، وهى فى سن التاسعة والثلاثين من شبابها الغض.

كانت عاشق لخشبة المسرح

يعد صوت (ربا الجمال) من أجمل وأكمل الأصوات التى مرت فى تاريخ الغناء العربي، فعندما تغني ترسم نوت موسيقية بصوتها العذب، فقد امتلكت صوتا دقيق الملامح مميز النبرات سليم التفاصيل بداية من جواباته العالية وحتى قراراته المنخفضة.

 وهى بهذه الحالة الصوتية واحدة من تصنيفات (السوبرانو) فى دنيا الغناء من ناحية السلامة الصوتية، والقدرة الفنية، واتساع المساحة، وعلى الرغم من تصنيف صوت (ربا الجمال) فى عداد الأصوات (السوبرانو) المشهود لها بالقدرة العالية، لكن كان لها قدرة أدائية وإمكانات أهلتها للقفز فوق هذه المنطقة، وخروج الغناء الصادرعنها عبر طبيعة صوتية مريحة التأثير فى الأسماع.

رغم رحيلها المبكر لكنها ستظل باقية فى وجدان عشاق الطرب

أسعدني الحظ بالتعرف على هذه المطربة عندما حضرت مهرجان الموسيقى العربية عام 1995، وكنت فى بداية مشواري الصحفي، وبدأ التعارف بيننا بـ (سوء تفاهم) ففي أحد الأيام كان لديها بروفة فى دار الأوبرا على حفلها، ويومها اقتربت منها لأخذ موعدا لإجراء حوارا صحفيا، وبعد تعرفي بها، وجدتها تتحدث معي بعصبية شديدة، فانسحبت بهدوء وقلت لها (شكرا) لن أجري معك الحوار!، وتركت مكان البروفة فى المكتبة الموسيقية بدار الأوبرا بهدوء شديد.

وبعد حوالي نصف ساعة وجدت الصديق (محمد ظريف) مدير أوبرا الإسكندرية الآن، يبحث عني، وطلب مني الحضور معه لمقابلة المطربة (ربا الجمال) فرفضت فى البداية، لكنه أصر وقال لي: (إنها حلفت لن تكمل البروفة إلا إذا أعتذرت لك)، وبعد إلحاح منه، ذهبت إليها فوجدتها شخصية مختلفة تماما عن ما رأيتها عليه قبل نصف ساعة.

 وجدتها ضاحكة واستقبلتني بالأحضان وطلبت مني أن أتقبل أسفها، لأنها وقت البروفة بتكون مركزة ومهتمة بأدق التفاصيل، ولا تحب أن تخرج من هذا (المود) بالكلام مع أي شخص حتى لا تخرج من الحالة التى تكون فيها، لأن مواجهة الجمهور أجمل وأصعب ما يحدث لها، وطلبت منى أن أحضر البروفات، ووعدتني بإجراء الحوار بعد انتهاء حفلها غدا، وهذا ما حدث، وتوطدت صلتي بها حيث أوصيتني بها المطربة الرائعة الصوت (سعاد محمد).

وفى حفل مهرجان الموسيقى العربية الذي قاده المايسترو (سليم سحاب)، أذهلت (ربا الجمال) الحضور بأدائها وتمكنها المتميز لأغنيات كوكب الشرق (أم كلثوم) حيث قدّمت العديد من الأغاني الطربية مثل (انت عمري، افرح يا قلبي، عودت عيني، يا ليلة العيد، ح قابلوا بكره)، وقدمت هذه الأغنيات  بشخصيتها دون أن تقلد أم كلثوم.

تذكرت ما حدث بيني وبين هذه المطربة طيبة القلب، التى كانت تغضب بسرعة، وبعد لحظات تصفو وكأن شيئا لم يحدث، عندما قررت أن أكتب عنها حيث لم أصادف فنانة موعودة بالعذاب والمعاناة كما وجدت فى مشوار (ربا الجمال)، أو(زوفينار قَره بتيان) التى ولدت  فى سوريا وبالتحديد فى حلب عام 1966 لأب من أصل أرمني، وأم لبنانية.

ربا الجمال قبل الشهرة

الملجأ

 بعد حوالي عاما من مولدها ماتت والداتها، وهى تلد شقيقتها الثانية إثر نزيف حاد، فنمت (زوفينار) ونما الحزن معها ليمتزج فى الصوت، وليكون ترنيمة وترتيلة قدسية فى رحاب الكنيسة، بعد سنوات قليلة جدا تزوج والداها، وأدخلها ملجأ هى وشقيقتها، ليتفرغ لزوجته الجديدة قاسية القلب التى أنجب منه ولدا وبنتا، والتى عاملت (زوفينار) وشقيقتها فى وقت الإجازات بقسوة شديدة.

دير راهبات الوردية

بعد فترة نقلها والداها من الملجأ، إلى دير (راهبات الوردية) في عمّان، وهناك كانت بداياتها مع الموسيقى التى تعلمتها على يد أستاذ روسي الذي كان معجبا بخامة صوتها لدرجة إنه استمر بتعليمها من غير مقابل بعد ما تركت (دير الراهبات)، وبفضله بدأت ترتّل بكورال الكنيسة وتعلّمت الغناء الأوبرالي الغربي، وقادتها جرأتها وهى في الثانية عشر للذهاب إلى مبنى الإذاعة الإردنية والتعرف على مسئول الموسيقى الملحن المبدع (روحي شاهين) الذي استمع إليها وبُهر بأدائها، وطلب أن يتبناها فنيا لكنه صدم برفض والداها الذي كان يحلم لها أن تصبح طبيبة.

في سنوات المراهقة وحلم الوقوف على خشبة المسرح

دريد لحام يختبر صوتها

بعد خروجها من الدير عانت (زوفينار) من قسوة الأب وزوجته، حيث حرمها من الغناء، لكن جدتها وشقيقات والداها كن يشجعونها على الغناء، حتى إنها اعتمدت فى في إذاعتي (دمشق وبيروت) عام 1979 وكان عمرها آنذاك 13 عاما، وكان من بين الأعضاء الذين اختباروها فى الإذاعة السورية النجم الكبير (دريد لحام)، والمطرب (سمير حلمي)، ليكون غناؤها من خلال الإذاعتين الانطلاقة الفعلية لصوت لم تشهد الساحة العربية مثيلاً له برأي كبار النقاد والدارسين في مجال الغناء والصوت والموسيقى.

باريس ومسابقة ماريا كلاس

عندما بلغت سن الثامنة عشر ذهبت الى باريس لتحقق حلم والدها الذي كان يريدها أن تصبح طبيبة وفعلا درست الطب لكنها لم تدرس أكثر من سنة، لأنها كانت تغني في فندق خمس نجوم، ثم تنام حتى السابعة، بعدها تذهب الى الجامعة الى الساعة الواحدة، ثم الى المستشفى لتمارس الطب كمتمرنة الى الساعة التاسعة، تذهب بعدها لتغني فى أحد الفنادق.

 كل ذلك كى تدبر مصروف الجامعة، لكنها عادت لتدرس الطب في لندن، ولم تكمل أكثر من سنة ونصف، لتعود الى باريس، فى هذه الفترة تعرفت على مدير الأوبرا في باريس الذي سمعها بالمصادفة، حيث وجد في صوتها مميزات متكاملة لغناء السوبرانو فتم على هذا الأساس إشراكها في مسابقة (ماريا كالاس)، حيث نالت المرتبة الأولى أمام أكثر من ثلاثين صوتا نسائيا أوروبيا متميزا، ووصف صوتها بأنه أفضل صوت قرار سوبرانو في العالم، وغنت على أهم مسارح العالم مثل اليلدزلار، والكونكورد.

رقة وحساسية أودت بحياة صوت جميل

ليالي الشام

بعد عودتها من باريس حيث لم تكمل تعليمها عادت إلى سوريا وتدربت على العزف على البيانو حتى أصقلته، وأخذت دروس فى (الصولفيج) على يد الأستاذ (نور أسكندر)، وعام 1983 كان أول ظهور لها من خلال حفلات (ليالي الشام) حيث غنت مجموعة من أغنيات سيدة الغناء العربي، ولفت جمال صوتها الوسط الغنائي فسارع كثير من الملحنيين للتعاون معها، وفي هذه الفترة تعرفت على الملحن الفلسطيني الكبير (رياض البندك) صاحب أغنية (يا عيني على الصبر) لوديع الصافي، الذي فتن بصوتها، ولحن لها العديد من أغنيات البدايات، كما تعاونت مع مجموعة كبيرة من مشاهير التلحين في العالم العربي منهم (وديع الصافي، سهيل عرفة، سعيد قطب، نجيب السراج، صفوان بهلوان، أحمد السنباطي، أمير عبد المجيد، فاروق وصلاح الشرنوبي، عماد توفيق) وغيرهم.

علامات على الطريق

قامت بغناء مجموعة من القصائد الشعرية مثل (لماذا تخليت عني) كلمات الشاعر نزار قباني، وتلحين سعيد قطب، التى غنتها فى منتصف الثمانينات، قبل أن تغنيها المطربة (غادة رجب) بلحن كاظم الساهر، كما غنت (ربا) قصيدة (لن أعود)، تلحين (نجيب السراج)، وموشح رائع بعنوان (نسيمات الصبا)، ومن ألحان المبدع (رضوان رجب) غنت دويتو رائع بمشاركة الفنان (فهد يكن) بعنوان ( ورد الهوى) وتم تسجيله في إذاعة دمشق.

وفي الفترة الأخيرة من حياتها كتب ولحن لها الفنان (ماجد زين العابدين) أربع أغنيات ضمها ألبوم غنائي وهذه الأغنيات هى: (لأ يا قلبي، أودعك، صبرني يا قلبي، وليالي العمر)، كما قدمت ألبوم طرح فى مصر بعنوان (فاكر ولا ناسي) تضمن 6 أغنيات هى (ممكن نفترق أصحاب، بأمارة إيه، متخلنيش أكدب عليك، معرفش أنا ليه، هونها بتهون، فاكر ولا ناسي) تولى تلحينهم (أمير عبدالمجيد، وفاروق وصلاح الشرنوبي).

ولا يمكن أن ننسى أغنيات رائعة لها مثل: (حرام كفاية، ساعدني أبدأ، الغربة، همستك، وقف حبك على ده الحد، اسمع نداك، عملت ايه) وغيرها.

لم تعرف الإبتسامة إلا قليلا

الغناء الوطني

رغم عمرها الفني القصير وعدد أغنياتها الخاصة القليل إلا أن (ربا الجمال) قدمت عدة أغنيات وطنية هامة امتزج فيها الأداء الوطني بنبرة صوفية الأداء والإحساس، فحولت الحالة الوطنية فى الأغنية إلى تعبير متفرد فيه كثير من الصدق عبر أغنيات (وطني دمشق، عروس الشام، لنا الأرض، عروس المجد) وتحولت دمشق عبر صوت (ربا الجمال) إلى حالة عشق يمتزج فيها المكان بالتاريخ.

أزمات متوالية

تعرضت (ربا الجمال) فى مشوارها لقسوة الأهل، وغدر الأحباب حيث تزوجت من رئيس فرقتها الموسيقية وبقيت معه خمس سنوات، لكنه لم يكن زواجا ناجحا، كان أجمل ما حدث في هذه الزيجة أنها إنجبت ابنها (رامي)، ثم انفصلت عن زوجها حيث لم يكونا على وفاق، وعادت الى الأردن ثم سافرت إلى لبنان واستقرت فيه، ومنه انطلقت لتقف على خشبات أهم المسارح العربية سواء في (مصر أو تونس أو الأردن) أوغيرها من الدول العربية.

وفى بداية عام 2001 حدثت لها حادثة بالسيارة أثرت على ظهرها، فاضطرت لتناول (الكورتيزون) كي تتمكن من الوقوف على المسرح مما زاد من وزنها وأثّر إلى حد ما على نفسيتها.

حفل كان سبب نهايتها

نهاية (ربا الجمال) كانت مأساة كبيرة تعود أسبابها إلى آخر حفل لها في فندق (إيبلا الشام) في الثالث عشر من شهر مارس 2005، فبعد بدء الحفل لاحظ الحضور الفارق الكبير بين أداء المطربة وأداء الفرقة الموسيقية، وقد بدا جليا كيف كانت تعطي إشارات عديدة للفرقة لكي تواكب أداءها التطريبي وخروجها بمهارة تامة عن اللحن الأصلي، لكن الفرقة لم تستطع مجاراتها، وهذا ما جعلها تقول بعد أن توقفت فجأة في ثالث أغنية عن الغناء: (كل ما بدي سلطن بيطيرولي السلطنة، ما عاد فيني اتحمل، من البروفات قلتلهن!).

 فاستقبلها الحضور بالتصفيق الحاد، ولكن الذي حدث في النهاية كان أشد مرارة عندما غادر أحد العازفين الحفل أثناء غنائها من دون أن يمنعه أحد أو حتى مدير الفرقة، وهذا ما اعتبرته الراحلة قلّة احترام لفنها ما جعلها تتوقف عن الغناء في تلك الحفلة.

لم تكن تحب الفيديو كليب لأنه يخصم من الصوت

تنصل نقابة الفنانيين

كان فشل الحفل كفيلاً بأن يجعلها تصاب بنوبة هستيرية، خاصة أنه كان شاع بأن لديها حساسية مفرطة وتتناول المهدئات لأسباب خاصة أبرزها مرتبط بزواج فاشل، وقد ساءت حالتها في الفترة التي تلت الحفل وأصيبت بجلطة دماغية بسبب حالة الاكتئاب التي لازمتها، دخلت بعدها مباشرة مستشفى (هشام سنان)، لكن المصاريف الباهظة، وتنصل نقابة الفنانين التي رفضت أن تضمنها صحياً، بحجة أنها ليست مسجلة في النقابة حال دون بقائها.

نزيف ورحيل

رجعت إلى بيتها فأصيبت بنزيف دماغي حاد فعادت لتتابع العلاج في مستشفى (دوما) البسيط، وفي الثامن من أبريل عام 2005 طلبت من ابنها (رامي) ابن الخمس عشرة أن يذهب إلى بيتهما ليجلب لها بعض الثياب، لكنه عاد ووجدها متوفية، فاتصل بخالته وأخبرها أن أمه ماتت، كانت العلاقة بين الشقيقتين متوترة لأن (ربا) دخلت الوسط الفني رغماً عن عائلتها، لذلك رفضت أختها وزوجها أن تدفن في مدافن العائلة، فدفنت فى مدافن عامة لجمعية الأرمن الخيرية!.

كان وديع الصافي من أكبر مشجعي ربا وغنى معها دويتو مجنون ليلى لعبدالوهاب وأسمهان
الملحن السوري سهيل عرفة من الذين أمنوا بصوت ربا الجمال

مهزلة فى الوداع

في مشهد التشييع كان المشهد فضيحة بكل المعايير، عشرون شخصا هم فقط من حضروا الدفن والتشييع بما فيهم شقيقتها الوحيدة، وابنها (رامي)، والصديق المقرب (ماجد زين العابدين) الذي لحن لها أغانيها الأخيرة، وبعض من الأصدقاء ورفاق الجوار، ومن الفنانين لم يحضر سوى الفنان (رفيق السبيعي، والشاعر توفيق عنداني، وهادي بقدونس، وسمارة السمارة، ورمزي نعسان آغا) وآخرون!.

ويومها اكتفى نقيب الفنانين الفنان (أسعد فضة) بإرسال إكليل ورد إلى الجنازة باسمه، أما التلفزيون السوري فلم يكلف نفسه إرسال إكليل ورد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.