رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

على صفيح ساخن .. الورقة الرابحة في الدراما السورية

المسلسل ركز على عالم المهمشين الذين يعيشون في نكب القمامة
سيف الدين سبيعي

بقلم : محمد حبوشة

على الرغم من الكبوة التي تعيشها الدراما السورية هذه الأيام جراء الحرب التي لاتنتهى، وفي ظل وجود مافيات وشلليات و(هجرة النجوم) إلى الخارج، إلا أن مسلسل (على صفيح ساخن) يأتي كوجبة استثنائية استطاعت أن تستعيد سحر الدراما السورية من جديد على جناح قصة كتبت بعناية لـ (يامن الحجلي وعلى وجيه)، وأداء تمثيلي يحسب لكل طاقم العمل، وربما يرجع الفضل في ذلك إلى تحكم المخرج (سيف الدين سبيعي) بدقة فائقة في حركة الممثلين، وهو ما مكنه بالضرورة من صنع صورة بصرية مدهشة وسط القمامة وعالم المهمشين والفقر و(التعتير) – بحسب اللهجة السورية – ومن هنا يشكل هذا المسلسل مفاجأة على صعيد النص المحكم، والحبكات المتداخلة والطرح الجديد لأكثر من موضوع، أبرزها مافيا النفايات، وتداخل تجارة المخدرات مع تبييض الأموال عبر الجمعيات الخيريّة ذات الطابع الديني الفاسد.

وظني أن هذا الطرح في (على صفيح ساخن) عكس وجهة نظر حقيقية وواقعية، فلم يغرق كثيرا في تحميل (الإثم) للمعارضة كما جرت العادة في المعالجة الدراميّة السابقة لعدد من الأعمال السوريّة التي شهدناها في السنوات الماضية، في حال تماسها الاضطراري مع أحداث الحرب، كذلك تناول العمل قضية محاولة اللجوء هروبا من الحرب والضريبة التي دفعتها عائلة (هلال وهند وهاني الحجّار)، بعدما تعرضت لاحتيال المهربين، من دون إغراقنا في الطرح المباشر للحرب وتفاصيلها، التي تبدو مرهقة للعقل والعين، إلى ذلك، يتفادى المسلسل الخوض في سيناريو (واجب الصمود وأن الهروب يتحوّل إلى مشكلة)، بل يطرح المسببات الأساسية للأزمة اجتماعيّا وأسريا عبر تدعيات الحياة اليومية للمواطن السوري المجبر على العيش وسط النار والبارود من فوهات مفتوحة على مصراعيها.

الندان (الطاعون وهادي) .. مشهد لا ينسى

وأرى من خلال مشاهدتي لكل الحلقات أن مسلسل (على صفيح ساخن) شكل واحدة من التجارب السورية المفعمة بالنجوم التي تشي كثيرا بوضع الدراما السورية هذه الأيام، إنه في واقع الأمر مسلسل يستعمل تقريبا (سحر) الدراما السورية الأصلي الذي جعلها واحدة من أهم مدارس الدراما في العالم العربي، على مستوى قوة أداء النجوم السوريين ومعهم النجمة الجزائرية أمل بوشوشة، والقصة الاجتماعية التي تمس الواقع المعاش بشكلٍ يومي، حيث يحكي العمل قصة مفاجئة من عمق المجتمع، بالطبع هي قصة (هامشية) تتناول الحياة السرية لجامعي القمامة، تلك الطبقة التي يمكن اعتبارها أكثر من هامشية كونها في المعتاد لا يتنبّه إليها أحد، فضلاً عن أنّها لا تحظى بأهمية إعلامية إلا إذا ما حدثت جريمة كبرى تلفت النظر إليها.

يدخل المسلسل عالم (زهير الطير/ سلوم حداد) صاحب اللقب الغريب (الطاعون)، زعيم لمجموعة كبيرة من الأطفال/ الكبار الذين يعملون في هذه المهنة التي تدرّ مالاً وفيراً، وعالم (الطاعون) الغريب كما يبدو لنا ذا أسماء غريبة (الخفاش والطاعون وسواهما)، الذي لا يعرف المشاهد ما إذا كانت هذه التسميات (حقيقية) تستخدم بشكل فعلي في هذا الوسط، أم أنها استخدمت (إبداعا) دراميا فحسب، فضلا عن هلال (باسم ياخور) ابن أخت الطاعون، القادم من الخارج، الذي يسعى للحصول على (مال) اشترك والده و(الطاعون) في مشروعٍ عليه، وأكله الطاعون عليه، وفي الوقت نفسه، يكثر العنف في المسلسل – ورأي أنه مبرر لضرورة أو حتمية درامية بحكم وجود الكاميرا وسط هذا العالم غريب الأطوار والأحادث – لربما هذا ما جعل العنف يأتي في لغة منطقية حقيقية لهذا المجتمع، وهو ما أعطي جوا حقيقيا للمسلسل الذي غاص في دنيا المهمشين بملضع جراح قدير.

القدير سلوم حداد الذي تمكن من أدائه بإبهار ودهشة

يحمل (على صفيح ساخن) أكثر من ورقة رابحة في قلب الدراما السورية الناضجة، فبالأمس القريب كنا نترحم على الراحل الكبير(حاتم علي)، وكأنه أول وآخر المخرجين السوريين، لكن المخرجين (محمد عبد العزيز والسدير مسعود) أعادا الأمل بجيل من المخرجين الشباب المميزين، إلا أن (سيف الدين السبيعي) أثبت في هذه التجربة الدرامية  أنه (شيخ كار) في الإخراج الدرامي بحيث بدت حلقات المسلسل الأولى أثقل وأعمق في المشاهد التي تتصل بالـ (نباشين)، وبشكل خاص كيفية تصوير الأطفال ضحية هذه المافيا.

وتلك المشاهد تفوقت على مشاهد (عائلة الحجار) والفندق المهجور، لكن سرعان ما صار هناك توازن ما، ويبدو واضحا أن المخرج قد تبنى هذا المشروع الدرامي وقاتل بكل أدواته كي يظهر تفوقه فيه.

ومن هنا قدم (سبيعي) العمل للتحدي، من خلال صناعة صورة بصرية مدهشة، الأمر الذي جعله يترك بصمة في عالم الدراما السورية، من أجل إستعادة ما فقدته من شغف جماهيري، وعلى قاعدة (السهل الممتنع) تنتشر خيوط العمل وتتشابك، تمسك الأحداث، منذ الحلقة الأولى، عصب الحكاية، ولا تبدو هنالك أدوار شكلية للشخصيات ولا تفرد أمام الكاميرا، وحدها الوقائع تفترش عين المشاهد وتأسره بتوازنها وترابطها، أزمة تليها أزمة، وحكاية تقود حكاية، وتمهد لأخرى حتى حلقة  النهاية التي جاءت مفتوحة ومعلقة في آن ربما بهدف عمل جزء ثان في رمضان 2022.

قدّم صناع مسلسل (على صفيح ساخن) عملهم على أنه بحث في الهامش المتروك ربما عمدا أو دون قصد، من خلال عمليات نبش في المسكوت عنه، على اعتبار أنهم يطرقون مكانا قلما ذهبت إليه الدراما، أو ربما لم تفعل أساسا، فمعظم أحداث العمل تجري في مكب للقمامة، أو فوق الحاويات في شوارع المدينة، مع مجاميع للأطفال، النباشين، لكن المشاهد لا يسمع البتة، بعد عشرين حلقة، صوت أي منهم، من هم هؤلاء؟ من أين جاؤوا؟ لأي حكايات وخلفيات اجتماعية ينتمون؟، ما يوحي أنهم مجرد ديكور لا أكثر، (كومبارس) يروحون ويجيئون طوال المسلسل بلا حول ولا قوة.

هند / أمل بوشوشة تتهيأ لاستقبال أخيها بالصفعة المدوية

صحيح أن (على صفيح ساخن) تعد دراما سورية موجعة، شخوصها على الفوهة، يجمعهم غليان الحرب غير المرئية، المطلّة برأسها على شكل تحوّلات اجتماعية مخيفة وفضائح بالجملة، لكنها تجسد الواقع السوري ما بعد الحرب، بوجوهه الممزّقة وشرايينه المقطوعة، تغيب القذائف وصوت الرصاص، لتعلو مكانها الأصوات الداخلية، كل شخصية تعبر عن قضية، ولا شخصيات لملء الفراغ، كلّها معذبة، أكانت جلادا أم ضحيّة، تتألف عائلة الحجار من هند (أمل بوشوشة) وهلال (باسم ياخور) وهاني (ميلاد يوسف)، ثلاثة أدوار رائعة، هى اختزال لشرذمة البيت الواحد حين يتعلّق الأمر بتكبير حجم الطموح ودوائر الأحلام، الأروع أن ثنائية (ياخور- بوشوشة)، ليست عاطفية) بل تجنح نحو الندية والتضاد.

إنها أخوة الغرماء بينهما، والتي تمرر في طيات أحداثها رسائل أقوى، فماضيهما كان شيئا وأصبح شيئا آخر مختلفا كليا، اليوم هما الند بالند، قويان في الأداء، هو بضميره وأخلاقه وخوفه على ما تبقى من العائلة، وهى بانكسارها وخذلانها واستعدادها للتعويض بأي ثمن، ثنائية من المجتمع السوري (بوشوشة بلهجة سورية متقنة، لا تترك مجالاً لتذكر جنسيتها)، سدّدت أقساطها، لكن الحياة الطماعة لم تتركها وشأنها، وفيما هلال يرمي نفسه بوجه المدفع كطلقة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، يدا بيد مع هاني الطبيب المتنقل بين خيبات المهنة وقلة تقدير الكفاءة؛ تسير هند بطريق عكسية، مقدّمة نفسها طعما لأعداء الدين والوطن، المتسترين بعباءة طاعة الله والعمل الخيري (جمعية) أو التجارة الشريفة (حلويات)، لتبييض الأموال والابتزاز وتغيير هوية سوريا المتعدّدة، وجرّها نحو التشدّد، وإحكام السيطرة عليها عبر المافيا وتجار المخدرات.

القدير سلوم حداد الذي تمكن من أدائه بإبهار ودهشة

الشيئ الأهم والأبرز في مسلسل (على صفيح ساخن) هو الأداء التمثيلي البارع لكل فريق العمل وعلى رأسهم القدير (سلوم حداد) الذي يعد واحدا من أفضل الممثلين العرب، فهو قادر فعليا على إقناعك بأنك أمام شخصية (حقيقية)، فهو لا يمثل أنه (الطاعون) بل هو فعليا (الطاعون) بكل ما في تلك الشخصية من صفات، وعادات، وسلوكات، ولعلك لاحظت تقمصه وغوصه الكامل الشخصية، وتلك عادة الممثلين الكبار الذين يعيشون ويحيون تماما بالدخول تحت جلد الشخصية ويعكسون الشعور والإحساش والانفعالات على المستوى الداخي والخارجي في براعة محمكة.

باسل ياخور امتلك قدرة هائلة على التجسيد

أما (باسم ياخور)، فقد يمتلك قدرات مشابهة لحداد على مستوى الأداء الاحترافي، وكلاهما method actor؛ وإن كان (سحر) ياخور قد خفت خلال الأعوام الفائتة لابتعاده عن أداء أدوار تظهر مقدراته المرتفعة وذات التقنية العالية، إلا أن أداءه بدا مغايرا تماما في شخصية (هادي الحجار) بحيث استطاع إقناعا تماما بالشخصية، ومن جانبه يقدم لنا المؤلف العمل يامن الحجلي (عياش الأعرج) شخصية مختلفة هذه المرّة، وهو يثبت في هذا المسلسل أنه يعمل على تطوير أدائه، فغيّر من ملامحه كثيراً، حلق شعر رأسه، وغيّر من طريقة مشيته، وإن كانت طريقة لفظه لا تزال هى ذاتها.

عبد المنعم عمايري .. قدم رجل المافيا في ثوب احترافي

وعلى مستوى الأداء الاحترافي الجيد يأتي عبدالمنعم عمايري (أبو كرمو) بدور تاجر الحلويات الذي يخبئ خلفه مهنته الحقيقية: تاجر (الحساس) أو حبوب (الكبتاغون) كما يسمونها في عالمها بحسب المسلسل، جاء (عمايري) بتجسيد فائق الجودة للشخصية التي يلعبها بأسلوب السهل الممتنع، بحيث يذكر بزئبية رجل المافيا العجوز في السينما الأمريكية على غرار (آل باتشينو وروبرت دينيرو)، لكنه هنا يختلف أداءه في تعايشه التام مع البيئة الحاضنة لهذه النوعية من رجال المافيا الذين يستغلون ظروف الحرب بأساليب ملتوية، ولقد أبدع (عمايرى) بلغة جسد حساسة للغاية في مشاهد علاقته مع زوجته (أم كرمو/ نظلي الرواس) التي تقود العمليات القذروة من خلال عملها بجمعية خيرية، كما أعجبني جدا في لعب دور المنسحق أمام مطالبات رؤوس المافيا له بالتهام العقارات بأسلوب جشع يعكس التناقض الحاد في الشخصية.

صدمة (هند) من هول الصفعة المفاجئة
أمل بوشوشة أصبحت رقما صعبا في قلب الدراما العربية

ونأتي لدرة التاج في العمل الجزائرية ابنة الدراما السورية أمل بوشوشة (هند) شقيقة هلال، وابنة أخت الطاعون، والتي اجتهدت إلى حد كبير في هذا المسلسل الذي يعيدها إلى الدراما السورية بعد 4 سنوات من الانقطاع، ولهذا حاولت أن تغير من نمطية أدائها، من خلال نبرة صوت مختلفة، وسلوكا جسدياً مختلفا من حيث التعبير والإحساس والشعور، ويبدو لي أنها في كل دور تلعبه تضع جزء من روحها فيه، وإلا أصبح الدور كذبة، ولا شك أن جمال الممثل/ الممثلة لا يلعب الدور الرئيسي بأداء الشخصيات وتأثر الناس بها، فقوة الممثل تظهر بالأدوار الصعبة التي يجسدها، وكم سيتفاعل الناس معها، تماما كما فعلت أمل بوشوشة في (على صفيح) ساخن، بداية من الصفعة القوية في الحلقة الأولى في صعود متوزان لايهتز مع تقلبات الشخصية ومنطق الصراع الدائر بينها وبين شقيقها (هلال) غريمها الأساسي في الأحداث الساخنة.

ويبدو لافتا للانتباه أنه لايمكن أن يخطر في بالك أنك أمام ممثلة جزائرية، جراء أدائها بإحساس عال يخرج من عينيها ومن ابتسامتها التي تبدل فيها ردود أفعالها المتقلّبة بتقلب الأحداث والمواقف، وهو مايؤكد أنها أصبحت صاحبة خبرة كبيرة في الأداء، طبقا لمفاهيم  (ستانسلافسكي) في فن المعايشة، وهذا ما يشير إلى أن الفكرة الحقيقية والعميقة لا تصل للمشاهد عندما يفهمها فحسب، بل لا بد للمشاهد من معايشتها، كمعايشة (أمل) لشخصية  (هند) وفقا لكل ما يدور من أحداث، وهنا تكمن أهمية فن المعايشة بالنسبة لـ (ستانسلافسكي)، فهو ليس خلافا حول شكل الأداء وأسلوبه بل في النتيجة النهائية والتأثير النهائي المرجو من العمل الفني – الهدف الأسمى – ورسالة الفن على المتلقي، والمشاهد، ورأي الشخصي أن (أمل بوشوشة) أصبحت رقما صعبا في الدراما العربية، ما يجعلني ألفت نظر المنتجين والمخرجين المصريين إلى موهبتها.

جنا العبود .. أدت دورها بلا ماكياج تقريبا وبواقعية كبيرة
معن عبد الحق .. أداء مخلف عن معتاده
يامن الحجلي .. جسد شخصية جديدة عليه

كما أن اللافت أيضا في المسلسل هو الممثلة الشابة جنى العبود (تمارا) ابنة الطاعون، والتي أثبتت أن لديها مستقبلاً واعداً كثيراً؛ فقد أدت الفنانة الشابة دورها بلا ماكياج تقريبا، بواقعية كبيرة، وهو ما يذكر كثيرا ببدايات النجمتين (كاريس بشّار، وديما قندلفت) ومن جانبها، نظلي الرواس، شأنها شأن معن عبدالحق، يقدمان أداء متميزاً للغاية، فيما يخوض معن عبدالحق تجربة مختلفة تبتعد كثيراً عن معتاده، فيخلق شخصية مختلفة للغاية، ولا يمكن أن يسأل أحد عن حرفية  أداء القديران (سليم صبري، وسمر سامي)، وكل من (ميلاد يوسف، يزن خليل، عبد الفتاح المزين، شادي الصفدي، وائل زيدان، عبد الرحمن قويدر)، وإضافة إلى كل هؤلاء كل التقدير للمؤلف (يامن الحجلي) والمخرج سيف سبيعي صانع الصورة البصرية المشغولة بشغف في (على صفيح ساخن) ما أمكنه استعادة سحر الدراما السورية من جديد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.