رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عبدالعزيز مخيون يرصد بكارة الموهبة الفنية في قرية مصرية (1/2)

يتذكر أيام وليالي من مسرح القرية

* يتحدث (مخيون) فى الباب الأول (أيام بلا تاريخ) عن قرية (زكي أفندي) التى لم يمسها التيار الكهربائي بعد، وتمضي لياليها بلا نور!.

* كان على أن أواجه رصيدا كبيرا من السخط على (الأفندية) وقدرا كبيرا من السخرية الدفينة يكنها الفلاحون للأفندية.

* اقترب من القرية مسرح جديد عليها، قدمه جماعة من الطلبة والشباب، تناول موضوعا واقعا في القرية ومعروفا للجميع وهو سيطرة كبار الملاك على الانتخابات بالريف.

صاحب تجربة فريدة في المسرح المصري قبل أن يكون ممثلا عظيما

كتب : أحمد السماحي

من التجارب المهمة والغنية التى خاضها الفنان الكبير (عبدالعزيز مخيون) تجربة تقديمه لعمل مسرحي من الفلاحين الهواة الذين لا يجيد بعضهم القراءة والكتابة لكنهم يمتلكون الموهبة الفطرية، وتناول الفنان فى كتابه أو يومياته بالتفصيل تجربته الرائدة فى متنتصف عقد السبعينيات لتقديم مسرحية (الصفقة) لـ (توفيق الحكيم) فى عزبة (زكى أفندي) بأبو حمص بالبحيرة، حيث أسند بطولتها إلى الفلاحين أنفسهم، بل إنه سمح لهم أن يقدموا رؤيتهم للمسرحية وتغيير عنوانها إلى (صفقة توفيق الحكيم كما يراها فلاحو قرية زكى أفندى) يرصد المؤلف تأثير تجربة التمثيل والمسرح على فلاحين بسطاء يمتلكون فطرة سليمة وأجهزة استقبال يقظة لم يكتشفها أحد.

وهذا الكتاب يوثق التجربة بكل صعوباتها وطرائفها ووثائقها، وتعد هذه التجربة ضمن تجارب أخرى فى بدابة السبعينيات مثل مسرح القهوة.

غلاف كتاب يوميات مخرج مسرحي في قرية مصرية

أيام بلا تاريخ

يتحدث (مخيون) فى الباب الأول والذي حمل عنوان (أيام بلا تاريخ) عن قرية (زكي أفندي) التى لم يمسها التيار الكهربائي بعد، وتمضي لياليها بلا نور، ومع مغيب الشمس تظلم القرية ويلفها الظلام وتراها في سكون الليل في الفراغ الممتد عبر الحقول (كتلة من الطين) مجموعة من المساكن الهزيلة التصقت وتماسكت كأنها تستند على بعضها خشية أن تسقط من شدة الضعف.

وهذه القرية كما يذكر ــ مخيون ــ تتنفس نسيم العالم من خلال الراديو الذي هبط عليها فى أوائل الستينات أو من جريدة وحيدة تزور القرية مع مدرس أو موظف أو عامل يقرؤها بمفرده في المساء وأحيانا يقرؤها لأصدقائه في دكان القرية.

فى هذا المجتمع الذي يدين بإنتمائه إلى قرن آخر أكثر من انتمائه إلى آواخر القرن العشرين كان على أن أبدأ (المسرح) وهو مسرح ينتمي إلى القرن العشرين ويستخدم أساليب تعبيرية راقية ويستفيد بما أنجزته البشرية منذ عربة (تسبس) حتى جروتوفكسي وغيره.

السخط على الأفندية

يضف مخيون : كان على أن أواجه رصيدا كبيرا من السخط على (الأفندية) وقدرا كبيرا من السخرية الدفينة يكنها الفلاحون للأفندية، وبالطبع كنت أتلقى هذه المشاعر (كأفندي) قادم من القاهرة بطريق غير مباشر أحيانا وبطريق مباشر أحيانا أخرى.

تعرف القرية أشكالا من الدراما فى حفلات الأفراح والختان والعودة من الحج، وفى الموالد الدينية، حيث تقام الحفلة فى ساحة القرية أو أمام القرية فى أجران الحصاد، أو أمام منزل صاحب الاحتفال ويجتمع جمهور كثير يتوسطه المنشد الديني أو المغني وفرقته أو الشيخ (الصييت) وبطانته ويستمر الغناء والإنشاد مع شرب الشاي والتدخين من بعد صلاة العشاء حتى الساعات الأخيرة من الليل فى جو من التواصل الحي بين المؤدي والمستمعين عن طريق الحوار بين الطرفين أو التعليق من الجمهور على ما يسمع بالاستحسان وإظهار التأثر أو طلب إعادة مقطع من الأغنية أو جزء من الحكاية.

النجم المثقف عبدالعزيز مخيون

السامر

هناك نوع آخر من التمثيل يشبه كثيرا الكوميديا المرتجلة يؤديه في الأفراح محترفون ينتقلون من المدينة كجوق صغير، ويسمى الفلاحون هذا النوع بـ (السامر)، وهذا السامر يقدم فى نفس حلقة الجمهور الذي يحيط بالفنانيين، ويعتمد فنانو السامر فى تأثيرهم على النكات الغليظة وعرض النماذج الكاريكاتورية المبالغ فى تجسيمها، والحركات الشاذة وتعرية السيقان وهز الأرداف، ويتخلل عروضهم فواصل غنائية يقلدون فيها الأغاني التى تذاع فى الراديو.

قلب كلام الأغاني والنقطة

كان الفلاحون أحيانا يقلبون كلام الأغاني بحيث يؤدي إلى معان أخرى، وبين كل أغنية أو فقرة تمثيلية يدفع لهم المتفرجون (النقطة) وهى نقود تقدم على سبيل التحية لصاحب الفرح أو هبة للممثل أو المغني، ومعظم تمثيليات السامر تقوم على ثالوث (الباشا والخادم والخادمة)، وتدور المغامرات والمقالب التى يؤلفها الخادم الذكي بارع الحيلة، ليتخلص من تسلط الباشا الفظ غليظ القلب الذي يرغب فى اغتصاب الخادمة الجميلة التى يحبها الخادم الذكي صاحب النكتة المقرب من الجمهور.

ودائما تنتهي القصة بزواج الخادمة من الخادم بعد اجتياز كل العقبات، إن هذه الحدوتة تهتم بالمضمون الأخلاقي، ولا تعير العلاقة الطبقية بين الباشا والخادم أي اهتمام، وهؤلاء المحترفون لا ينالون احترام الفلاحين الذين ينظرون إليهم على أنهم (مسخ أو شواذ) تتعيش من المسخرة، بينما يحظي المغني الشعبي وكذا المنشد الديني (الصييت) بالاحترام والتقدير.

فى آخر ظهور اعلامي له مع محمود سعد

أغسطس 1973

تحت هذا العنوان كتب الفنان (عبدالعزيز مخيون) قائلا : شهدت قريتنا نوعا آخر من المسرح يختلف عن الأشكال المسرحية الشعبية المأثورة التى عهدها ريفنا طويلا، اقترب من القرية مسرح جديد عليها، قدمه جماعة من الطلبة والشباب، وكان دوري لا يتعدى مشاهدا يمدهم بالنصح فقط دون أن أشارك مشاركة مباشرة، أعد الشباب لهذا الحفل بأن جمعوا تكلفته من فلاحي القرية، وعكفوا لمدة أسبوع يؤلفون ويتدربون حتى خرجت قطعة مسرحية ركيكة التأليف والإخراج، لكن كان لها قيمة كبيرة فى نظري.

لقد تناولت موضوعا واقعا في القرية ومعروفا للجميع وهو سيطرة كبار الملاك على الانتخابات بالريف، تضمنت هذه القطعة المسرحية كشفا فاضحا للعلاقات الانتخابية وخضوعها تماما للأوضاع الطبقية، وأظهرت كيف ينتزع المالك الكبير صوت الفلاح الصغير وكيف يسلبه حقه في التصويت الحر.

يحمل شهادة تكريمه مؤخرا

نظر الفلاحون إلى هذا العمل باحترام ونال تقديرهم كعمل جاد فهم مثلا لم يستنكروا مطلقا أن يقوم الأستاذ فلان المدرس يتقمص شخصية الشيخ الهزلية الماجنة المنافقة، وبعد انتهاء التمثيل ترقبت العلاقة الجيدة بين هذا المدرس وأهل قريته فوجدتها قد تغيرت، تغيرت إلى الأحسن بلا شك فلم تقلل مما كان يتمتع به كمدرس من ثقل اجتماعي، ولم يسلم الشباب من عداء ذوي النفوذ في القرية والقرى المجاورة بعد هذه التمثيلية التى تجرأت فى نقدها الحر لهم.

كانت تلك المسرحية اختبارا عمليا لموقف جمهور القرية من الدراما الحديثة، إن جاز التعبير، ففى تلك الليلة الحافلة بدفء الجمهور الغفير وروعة الاكتشاف والمعرفة عرفت أن احترام قريتنا للتمثيل وليس (التشخيص) تفرضه جدية الموضوع المعروض وكيفية عرضه، وهل يعبر عنهم؟ هل يعرض مشاكلهم؟ وهل يحاول تقديم الحلول لهذه المشاكل؟ هل يتواضع ويقترب من وجدانهم الشعبي ويقدم حكايتهم دون تعال أو تغريب.

وأظن أن ذلك كان تمهيدا كافيا بالنسبة لي كي أبدأ معهم تجربتي المسرحية.

………………………..

البقية فى الحلقة القادمة..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.