رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

وحيد حامد رحل .. لم يرحل

بقلم : محمود حسونة

عاش وحيد حامد مميزاً متفرداً، ورحل مكرماً.

مبدع صنع تفرده بكلمات أضاءت نوراً في حياة الناس وكشفت مستوراً لم يجرؤ سواه الاقتراب منه، وفضحت فساداً عشش سنوات وسنوات في مؤسسات وهيئات وتصدت للعابثين بكلام الله ورسالات رسله.

كلماته نبهت وأيقظت وأوجعت وآلمت وفضحت، وأيضاً صنعت مجداً للكثيرين الذين شاركوه مهمة توصيلها للناس سواءً عبر السينما أو التليفزيون أو الميكروفون أو الصحافة، ولهذا كان التكريم الحقيقي ممن يعرفون قيمة كلماته ويدركون عمق أعماله من الفنانين والمبدعين الذين صفقوا له بشكل غير مسبوق، فرحاً وبكاءً أثناء تكريم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لهذا المبدع قبل شهر واحد بالتمام والكمال. وكأن الله أراد له أن يعيش هذا الإحساس بالتقدير، ليلمس من خلاله التكريم الأكبر الذي يكنه له الناس، وليتأكد من أن جهده لم يذهب هباءً منثوراً، وأن لكلماته مفعول كبير كان وسيبقى بين الناس دائماً..

تشعر أيضاً وكأن الله أراد لوحيد حامد أن يعلن أمام الناس أنه راض تماماً عن نفسه وعن حياته وعن أعماله وعن تعاملاته، قبل الرحيل بأيام، وبكلمته الأخيرة “أحببت حياتي وأحببت السينما”، وليؤدي ديناً كان عليه، وهو كلمات الوفاء والتقدير لأصحاب الفضل عليه والذين أخذوا بيده إلى طريق المجد في بداية الرحلة.

كان تكريماً له أن يحكي في محطة حياته الأخيرة عن رحلة العمر وطريق تحويل الحلم إلى واقع، ورفقاء الكلمة والصورة والمعارك التي فرضتها شفافية حروفه وثباته على المبدأ، من خلال الحوار المطول الذي أجراه معه الزميل طارق الشناوي وضمه بكتابه “الفلاح الفصيح” الذي أصدره المهرجان بمناسبة تكريم حامد؛ وما تضمنه الكتاب من كلمات لكوكبة من المبدعين في حق “الأستاذ”، لتكتشف من خلالها حالة الإجماع التي حظي ويحظى بها تقديراً له ولأعماله.

من تابع أعمال وحيد حامد احترمه، ومن عرفه وتعامل معه أحبه، ومن تأمل رحلة حياته انحنى له، ومن حسن حظي أنني عرفته باكراً في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، ولأنني وجدت فيه بساطة أهل قريتي وقريته المتجاورتين “أبو نجاح وبني قريش” بمحافظة الشرقية، ووجدت فيه العمق الذي ينهل منه مجالسوه، وفيه النقاء النادر في زمن التلوث، كنت أحرص على زيارته أسبوعياً في الميريديان، وعايشت ميلاد وتصوير أهم أعماله “الإرهاب والكباب” و”المنسي” و”طيور الظلام” و”النوم في العسل” و”كشف المستور” و”اضحك الصورة تطلع حلوة” وكتابة فيلم “سوق المتعة”، وفِي مجلسه أو على طاولته الصباحية في فندق الميريديان التقيت نجوماً وزملاء من الصحفيين من مختلف المؤسسات لأتعلم وأستفيد وأدرك أنه مقصد الكثيرين من أهل الصحافة والفن والسينما، تجد في مجلسه طلاب معهد السينما وتجد كبار النجوم، وصحافيين كبار مع صحافيين مبتدئين.. وهو يجمع الكل حوله بقلب مفتوح.

على هذه الطاولة كتب أغلب أعماله والتقى بنماذج اجتماعية وإبداعية مختلفة، وراقب نماذج تتحرك أمامه ليستقي منها أفكاراً ويحول بعضها إلى شخصيات درامية، وعليها دارت مناقشات في السياسة والفن وقضايا الشارع وهموم الناس، ولعل من أكثر ما خسرت بعد سفري إلى الإمارات في عام ١٩٩٨ هو لقاءات وجلسات العظيم وحيد حامد، لكن الحظ حالفني مجدداً بسماع صوته بعد هذا الغياب لتهنئته بتكريمه، واتفقنا قبل أيام قليلة من رحيله على لقاء تشوقت له، ولم نعلم أن موعد الرحيل كان أقرب.

لم يكن تفرد وحيد حامد في بساطته وترحيبه بالكبير والصغير سوياً في مجلسه وعمق مناقشاته فقط، بل علاقاته مع زملائه من الكتاب والمخرجين والفنانين، حيث كانت تربطه بالجميع علاقات مودة واحترام، ولَم يُسأل عن كاتب آخر إلا ورد رداً إيجابياً يحمل تقديراً، وإذا حضر عملاً لكاتب آخر ولَم يعجبه تهرب من إبداء رأيه صراحة حتى لا يجرح أحد، وكل مبدع له عند وحيد أعماله المتميزة، وحتى الذين اختلف معهم لم ينل منهم في كلمة، وهو ما حدث مع علي بدرخان الذي تم اختياره لإخراج فيلم “رغبة متوحشة” وطلب إجراء تعديلات لا تتوافق مع رؤية وحيد، ففضل مبدعنا الراحل سحب السيناريو منه والاحتفاظ بالمودة بينهما، ورغم أن بدرخان قدم بعدها نفس الرواية في فيلم “الراعي والنساء” إلا أنه عندما ترشح للنقابة بعدها انتخبه وحيد ودعمه.

خلاف آخر عاشه وحيد حامد مع المخرج سعيد مرزوق بشأن فيلم “قصاقيص العشاق”، فبعد أن وجد المبدع تغييراً يخل برؤيته لم يدخل في معركة، وطلب إزالة اسمه من على الفيلم الذي كتبه ولا يزال يعرض من دون اسمه.

إذا كان وحيد حامد يحرص على أن تكون علاقاته المهنية ودية خالية من المعارك، فإنه خاض الكثير من المعارك بسبب أفلامه ومواقفه، ولعلها محدودة أفلامه التي لم تثر معارك فكرية وصل بعضها إلى القضاء، وقد كنت شاهداً على أحد هذه المعارك عندما رفع عليه يوسف البدري قضية بسبب فيلمه “طيور الظلام” مدعياً أنه هو المقصود بشخصية المحامي الاخواني الذي جسده الفنان رياض الخولي، ووصل الأمر إلى تنظيم عرض خاص للفيلم لهئية المحكمة في مدينة السينما للفصل في الدعوى المرفوعة من البدري عليه.

وحيد حامد قال كلمته وعبر عن هموم الناس ودافع عن وطنه وفضح تجار الدين والسياسة من خلال أعمال فنية ومقالات صحفية، وأصحاب المصالح اختصموه وهاجموه وحاولوا النيل منه، ولكن كل ذلك لم يثنه عن مواصلة طريقه وظلت كلمته السلاح الذي يواجه به كل باطل، ولعل كون الجزء الثالث من مسلسل “الجماعة” آخر ما كتبه المبدع، تأكيد على أنه بقي مقاتلاً بالكلمة الكاشفة الصادقة حتى آخر لحظة في حياته، أما أهل الباطل الذين لم يحترموا وفاة الرجل ولَم يحترموا جلال الموت وشمتوا فيه، فإن كلماتهم التي تشبه أفعالهم على مواقع التواصل الاجتماعي لن تنال من مكانته العظيمة شيئاً، ولعلها تفضح ادعائهم الفضيلة أمام من لا يزالون يسلمونهم عقولهم ويستسلمون لخداعهم. 

وحيد حامد سيذكره التاريخ بأنه من أهم المبدعين ولن ينسى أنه لم يخش في الحق لومة لائم، وأنه يكاد أن يكون الكاتب الذي وصلت أعماله إلى القمة ونالت نجاحاً وتقديراً في كل مجالات الكلمة الدرامية، إذاعياً ومسرحياً وسينمائياً وتليفزيونياً، وهو ماحقق له تفرداً لم يتحقق لغيره، فلترقد روحه في سلام، وستظل أعماله تنبئ الأجيال المقبلة وتخبرهم عنه.

[email protected]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.