يحيي العلمي .. أبكاه (طه حسين) ووجد (رأفت الهجان) على السطوح (1/2)
* سر رفض عميد الأدب العربي طه حسين التسجيل مع العلمي.
* كيف وجد العلمي رأفت الهجان على السطوح؟!
* (أيام تليفزيونية) كتاب به العديد من الذكريات والمفارقات السينمائية
* البواب النوبي العجوز كشف له عن (ياكوف بنيامين حنانيا) الذي سكن نفس غرفته عام 1954
كتب : أحمد السماحي
كان اسم (يحيي العلمي) على أي مسلسل تليفزيوني كافيا بشدة لتتوقع عملا يحترم عقلك وروحك، ويقدم لك فنا ومعرفة ورؤية تنتقل بك من إطار التلقي إلى مرحلة بناء الوعي، ويدفعك بقوة إلى التفكير أوعلى الأقل الإحساس بالجمال والرومانسية، حصل (العلمي) على ليسانس الحقوق ودبلوم معهد التليفزيون العربي، ودبلوم معهد (سيتوند لما وراء البحار عام 1965)، ودبلوم فى الإخراج الدرامي من معهد (بي بي سي عام 1970)، وقدم على مدى مشواره حوالي ثلاثين فيلما سينمائيا منها (المرأة التى غلبت الشيطان، خائفة من شيئ ما، طائر الليل الحزين، شلة الأنس، مدام شلاطة، خليل بعد التعديل)، ومن أشهر مسلسلاته (العنكبوت، برج الحظ، الأيام، العملاق، زينب والعرش، دموع في عيون وقحة، أديب، هو وهي، رأفت الهجان، اليقين، دموع صاحبة الجلالة،لا،الزيني بركات، نصف ربيع الآخر، الحاوي، خيال الظل).
اليوم لن نتحدث عن هذا المبدع كمخرج شديد التميز، وواحد من نجوم الإخراج السينمائي والتليفزيوني، لكننا سنتحدث عن الوجه الآخر له، وهو الكاتب (يحيي العلمي) الذي قدم فى نهاية التسعينات واحدا من أهم كتب الذكريات السينمائية والتليفزيونية وهو كتاب (أيام تليفزيونية)، ورغم أن الكتاب بهذا الاسم إلا أنه به العديد من الذكريات السينمائية، وفى هذه الحلقة نتوقف عند بعض الحكايات، ونكمل بعض الحكايات الآخرى في الأسبوع القادم.
إهداء إلى والده
يبدأ (العلمي) كتابه بالإهداء إلى والده قائلا: إلى أبي الذي أعطاني اسمه فحاولت دائما أن أنقشه ذكرى فوق صفحة الأيام، بعد ذلك يكتب مقدمة عن علاقته القديمة والوطيدة بالكتابة، فيقول في جزء من المقدمة: لقد مرت بي أيام كثيرة نأيت بها بعيدا عن التعبير بالكلمة حين وضعتني الأقدار في مجال التعبير بالصورة من خلال عملي كمخرج يتحدث بلغة الصورة ويستعمل الكاميرا بديلا عن القلم، لكنني كنت دائما خلال هذه الفترة من أيام العمر أشعر أنني افتقد ذلك الشيئ اللصيق بالنفس فى تجربة التعبير من خلال الصورة، فلم تكن الكاميرا في كثير من الأحيان قادرة على أن تسعفني بأكثر من الإحساس الذي استعيره من إبداع الآخرين أو أنقله عبر إبداعات لمواهب أخرى كثيرة.
بعد هذه المقدمة الجميلة التى كتبها مخرجنا الكبير (يحيي العلمي) يتنقل بين واحة أيامه ويحكي لنا كثير من حكاياته الفنية والإنسانية)، فيحكي لنا تحت عنوان (طه حسين والنوايا الطيبة) عن مقابلته في منتصف الستينات للدكتور (طه حسين) للتسجيل في برنامج (كاتب وقصة) تقديم الإعلامية (سميرة الكيلاني) بعد أن سجلوا مع خمسة وستون كاتبا للقصة المصرية حيث كانت المذيعة تصنع لهم (فيش وتشبيه) هى بسؤال وجواب، ثم يأخذ (العلمي) البصمة، والبصمة قصة مختارة من إبداع كل كاتب منهم يحولها لتمثيلية.
طه حسين يبكي العلمي
فى الحلقة الأخيرة قرروا أن يكون الختام مسكا كما يقولون وأن يكون الموعد واللقاء مع (طه حسين) في فيلا رامتان، ويعقب اللقاء دراما تمثيلية لقصتين من رائعته الخالدة (المعذبون في الأرض)، لكن سيادة العميد بعد تدخل الأصدقاء وافق، لكنه وضع مجموعة شروط أهمها أن يحضر إلى فيلته مجموعة صغيرة جدا من العاملين في البرنامج لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة، وألا تزيد مدة البرنامج عن عشر دقائق!.
ووافق العلمي على مضض،خاصة أنه من مريديه وعشاقه، لكن يوم التسجيل شعر (عميد الأدب العربي) أن عدد الحاضرين أكثر مما اتفق عليه فغضب ورفض التسجيل، وقال لـ (العلمي) : لقد خدعتني أنا لا أتصورك تكذب علي، وانعقد لساني (العلمي) وقال له: أنا يا سيدي، قال له : نعم أنت وأنا أكره الكذب وأرفضه، وأنت نقضت كل الشروط، فقال له: كلا يا سيدي أقسم لك هذا فقط مصباحان للإضاءة، هما أدنى ما يمكن لكي تطبع صورتك على شريط الفيلم، وأنا وهذه (سميرة الكيلاني)، ومصور خلف الكاميرا، ومهندس للصوت، وبعض المساعدين من الفنيين، وهذا أقل عدد ممكن لهذه الحرفية اللعينة لهذه المهنة.
وأصر (العميد) على عدم التسجيل وعندما أعطى (العلمي) أوامره للجميع أن ينصرفوا، واتجه هو نحو باب الخروج، وترك زملائه يجمعون أشياءهم، وعلى عتبة الباب أوقفه صوت (طه حسين) وقال له: يا علمي انتظر، وتجمد لحظات، كانت (سميرة الكيلاني) تتحدث معه، وقال لهم: إذن سلطوا الإضاءة نحوي لأحكم بنفسي، ونظر المصور (للعلمي) فلابد أن يصدر الأمر منه كمخرج، فأعطى الإشارة، وسطع مصابيح الإضاءة، ونادى عليه (طه حسين) وقال له يا علمي: اجلس هنا بجواري، وسأله في حنان لم يذق طعمه من قبل: غاضب أنت؟ ونهض (العلمي) من مقعده باكيا من شدة تأثره بصوت وحنان العميد، وانحنى طابعا قبلة فوق جبين (طه حسين) الذي لاحت على وجهه ابتسامة كانفراجة ضوء الفجر، ويومها سجل طه حسين شريطا سينمائيا يقترب وقته من ساعة كاملة.
وفى النهاية يتسأل (العلمي) ترى إلا يزال هذا الشريط السينمائي قابعا فى مكانه بمكتبة التليفزيون؟ أتمنى!!!.
رأفت الهجان فوق السطوح
كان لابد أن تكون فى كتاب العلمي (أيام تليفزيونية) محطة أو وقفة لمسلسله الشهير (رأفت الهجان) الذي يعتبر أحد أيقونات دراما المخابرات المصرية، فيحكي قصة أغرب من الخيال، عندما وقع اختياره على إحدى العمارات القديمة في وسط البلد، وذهب للتصوير فيها، حيث قرأ في الأوراق أن الغرفة التى كان يسكنها (رأفت الهجان) عندما كانت منتحلا لشخصية (ياكوف بنيامين حنانيا) هى فوق السطوح، لكن الأوراق ليس بها عنوان وليس بها وصف دقيق للغرفة أو السطح المحيط بها.
ووقع اختياره على غرفة فوق أحد السطوح من بين عدة غرف على السطح، دارت الكاميرا تصور (محمود عبدالعزيز) وقد صفف شعره على طريقة (ياكوف بنيامين حنانيا)، وارتدى ملابسه القديمة وأحاط رقبته بالكوفيه الكاروهات المميزة وقد أقبل من مدخل السطح متجها ناحية غرفته، وكان البواب النوبي العجوز نائما على دكته الخشبية بجوار المدخل فلم يشأ أن يوقظه، خاصة وأنه لم يشعر بالحركة والضجة من حوله، ولكن ما أن مر بجواره (محمود عبدالعزيز) حتى انتبه الرجل بحكم العادة، فاعتدل في جلسته وتغلبت فطنة نجمنا الكبير للمفاجأة فأسرع يلقي عليه السلام وكانت المفاجأة أن رد عليه الرجل قائلا: أهلا يا خواجه.
وصلت عبارة (يا خواجه) إلى أذن العلمي فأثارت دهشته وسأل نفسه لماذا أطلق البواب على نجمنا الكبير هذا الوصف، لكنها كانت دهشة لحظة سرعان ما توارت خلف الاندماج في تصوير بقية اللقطات، خاصة وقد عاد البواب العجوز يواصل نومه تحت أشعة الشمس، وبينما العلمي وفريقه يواصلون التحضير للتصوير داخل الغرفة.
ويومها اقترب من العلمي النجم محمود عبدالعزيز وقال له : لقد وفقنا الله إلى اختيار هذا المكان، أنني أكاد أشعر أن هذا السطح مألوف لدي وأنني بالفعل أسكن فى هذه الغرفة، وأكثر من ذلك فإن شعوري بتقمصي شخصية (ياكوف) يتعاظم داخلي حتى كأنني أعرف هذا البواب العجوز ويعرفني منذ أمد طويل.
بدأ الجميع يألفوا المكان، وأصبح للمكان ملامح الزمان القديم، وحلقت فوقهم حالة الإيهام الفني مغلفة بالمصداقية فأصبحوا يعيشون واقع (رأفت الهجان) في شبابه وهو على أعتاب أسطورة البطولة، وطال بهم الوقت حتى كادت الشمس أن تغرب وراء الأفق، فاشتدت برودة الهواء وخفتت أشعة الشمس الدافئة فوق الركن الهادئ بجوار مدخل السطح فاستيقظ البواب النوبي العجوز، وسمعوا سعاله المتقطع ثم سمعوه يصفق بيده مناديا على ابنه الشاب الذي انشغل عنه، فلم يستجب لندائه فإذا به يقترب مستندا على عصاه التى طرق بها باب الغرفة في غضب، ثم اندفع داخلا ليجد أمامه مصابيح الإضاءة والكاميرا ومجموعة العاملين المنشغلين بالتصوير فصاح في غضب موجها حديثه إلى ابنه قائلا: إيه ده : إيه اللي بيحصل هنا؟ مين الناس دي يا إسماعيل، أجاب إسماعيل باعتذار وتوقير: ده التليفزيون يا والدي والناس الطيبين دول بيصوروا تمثيلية.
ثار الرجل ثورة عارمة حتى خاف (العلمي) أن يضرب ابنه بعصاه وهو يصيح: ما شاء الله ناقص الطبل والزمر وغازية تهز وسطها، ثم توجه بحديثه إلي فريق العمل: كفاية مسخرة واتفضل منك له بره الأوضة، أشار لنا إسماعيل بألا يتدخلوا واقترب من والده يشرح له الأمر فقال له: الجماعة استأذنوا يا والدي وكمان دافعين أجرة، ازداد غضب الأب وهو ينهر ابنه الشاب، قائلا : ومين قالك اني بأجر فرشتي.
فى هذا الوقت لم يجد العلمي مناصا من التدخل لتهدئة الرجل فاقترب منه وعرفه بنفسه وطلب منه أن يحدثه على انفراد، وبعد محاولات للإقناع وافق وأخذه البواب إلى حيث مجلسه بجوار مدخل السطح، فشرع (العلمي) يثير فيه نخوة الكرم قائلا: اعتبرنا ضيوفك يا عم الحاج، فقال له : أهلا وسهلا بس أفهم إيه الحكاية!
وشرح له الأمر بكل الصدق والوضوح وختمه قائلا: وهكذا فنحن تخيرنا غرفتك الخاصة لتكون الغرفة التى يسكنها بطل التمثيلية أيام شبابه فى الخمسينات، سكت الرجل فجأة وطال سكوته ورأيته ينظر بعينيه إلى بعيد وكأنه يسترجع ذكرياته ثم همس بصوت هادئ قائلا: أنت بتقول ان خواجه يهودي كان ساكن في الأوضة دي؟ أجابه المخرج الشهير: نعم، وكانت دهشته بالغة حين سمع البواب يقول : طب أنا حقولك حاجة مش حتصدقها.
سكت العلمي وانتظر مزيدا من المفاجآت بينما أكمل الرجل قائلا: سنة 1954 كان فيه فعلا خواجه يهودي ساكن في الأوضة دي، فصرخ العلمي قائلا: ياالله سنة 1954 إنها بالفعل نفس السنة التى كان يسكن فيها (رأفت الهجان) أو (ياكوف بنيامين حنانيا) بغرفة فوق السطوح؟، سألني الرجل: هل يمكنك أن تذكر لي اسم هذا الخواجة؟ الهم الله (العلمي) ألا يجيبه وكأنما شعر أن الاجابة سوف تأتي على لسانه هو فسأله العلمي: هل يمكنك أن تذكر لي اسم هذا الخواجة الشاب الذي كان يسكن غرفتك سنة 1954؟ مد الرجل كفه المعروق يتحسس جبينه كأنه يحث ذاكرته لكي تسعفه بالإجابة، ثم ألقى بمفاجأته الكبرى حين قال: أيوه افتكرت كان اسمه الخواجة (يا كوف).
زغردت الفرحة في صدر العلمي وقال للرجل: فاكر بقية اسمه؟ فقال البواب طبعا : (ياكوف بنيامين حنانيا) أصل البوليس جه في يوم قبض عليه، وعرفنا بعد كده أنه هاجر لإسرائيل، قال (العلمي) فى نفسه: يا بركة دعاء الوالدين، أن مشهد القبض على (ياكوف) هو نفس المشهد الذي نوشك أن نصوره فى هذه اللحظة، أطلق الرجل صاعقته الأخيرة حين قال: وكان بيجي يزوره دائما راجل أمير وكريم، الظاهر انه كان بيساعده على (المعايش).
وقبل أن يسأل (العلمي) لوح البواب بعصاه في فرحة حقيقية ربما لأنه تذكر اسم الرجل فصاح كالطفل: افتكرته كان اسمه (محسن بيه)!، هنا اكتملت عناصر الأسطورة، تلاقت الخيوط وانفتح الكنز، وانهمرت على (العلمي، ومحمود عبد العزيز، ويوسف شعبان) براهين الحقيقة ووصل إليهم من البطولة شعاع من البركة.. أي سر فى هذا البطل الذي شأوا أن يخلدوه وشاءت الأقدار لصدق وطنيته أن يتحول الإيهام إلى واقع حقيقي، وأن تؤكد الوطنية صدق الحدس.
…………………………………………………………………………………………..الأسبوع القادم:
ليلة رفض حسين فهمي للإعدام
سر غضب يوسف إدريس عليه