لو تحدثت فيروز
بقلم: محمود حسونة
كيف لها أن تنتظر الأوسمة، وهى الوسام الأعلى الذي يعلّق على صدر كل من يلتقيها أو يتحدث معها، وهى الوسام الذي يتباهى به كل اللبنانيين بلا استثناء؟ هى التي لم تستثن أحداً، ولم تنحز لأحد، وتخطت كل حواجز التمييز والطائفية والحسابات الضيقة والصراعات التي خنقت لبنان، فتمددت بجذورها إلى عمق الأرض وعلى مدى اتساع رقعة لبنان الجغرافية، لتصير هي الوطن وهي الرمز.
إنها فيروز، أرزة لبنان الشامخة أبداً والصامتة دائماً والشاهدة على التاريخ والحاضر. ليس غريباً أن يختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يبدأ زيارته إلى لبنان بزيارتها في بيتها وتكريمها بأعلى وسام فرنسي ليلة الاحتفال بمئوية (لبنان الكبير)، فهى أفضل وأجمل صورة عن هذا اللبنان الكبير، الجامع لكل أبنائه بمختلف طوائفهم، وإذا كان بعض الكبار من أهل الفن قد تم تكريمهم من قبل رؤساء وزعماء، إلا أن تكريم فيروز ليس له شبيه عبر التاريخ، حيث لم يذهب رئيس، بل ورئيس دولة كبرى إلى فنان أو فنانة لتكريمه في بيته من قبل، وهو تكريم مستحق لصوت الحرية والحب والتضحية والفداء، صوت الإنسانية الملائكي فيروز، التي ستظل حلماً جميلاً لجميع أبناء لبنان الكبير بدوره والذي أصبح صغيراً ليس بمساحته ولكن بأفعال وأطماع وأحقاد سياسييه من زعماء الطوائف ورعاة الفتن.
نعرف ما قاله الرئيس الفرنسي لجارة القمر، وكيف أخبرها عن مدى إعجابه بها وأنها جزء من الطفولة والحب والذكريات.. ونعرف أنه بدا أمامها كالطفل السعيد المبهور بتحقيقه أحد أحلامه، مبتسماً وقد وصل الى نجمة وسفيرة النجوم لينعم ببريقها وبهائها! لكن، ماذا قالت فيروز لإيمانويل ماكرون؟
كلنا تمنينا أن نشاهد اللقاء، بل أكثر ما تمنيناه، أن نسمع صوت فيروز لأنه صوت الحق والضمير. حرة هى في ابتعادها عن الأضواء واللقاءات والحوارات الصحفية، فلتلك السيدة قانونها الخاص في التعامل مع الجمهور والإعلام، وهذا جزء من سحرها وهيبتها. نحترم صمتها الطويل واعتكافها في صومعتها في الرابية، لكن ماذا لو كسرت تلك الحلقة من الصمت وخرجت لتقول كلمة واحدة؟ كلمة من فيروز تكفي كل اللبنانيين الحاملين لأوجاعهم منذ سنوات طويلة، الخائفين على الغد الذي لم يعد له أي ملامح. صوتها يؤثر في كل الناس، وله وقعه وثقله في كل وقت.
كلمة من فيروز تكفي لإحياء الأمل لدى كل الحالمين بعودة لبنان الذي كان، ولا أحد ينتظر منها أن تأخذ موقفاً مع طرف ضد طرف، أو أن تدخل في دهاليز السياسة؛ كلمة فيروز وأغنياتها ومسرحياتها كانت دائماً الحبال التي يتعلق بها الناس فيطول بهم الأمل ويتمسكون بلبنانهم أكثر، وما أحوجهم اليوم إلى هذا الأمل وسط كل هذه السوداوية والضباب والقهر.
اللبنانيون يحتاجون لكلمة صدق من فنانة لم تكن أبداً مزيفة، كلمة من قلب لم يعرف سوى أن يوزع الحب وينشر الأمل ويجدد الحلم، كلمة من حروف معدودة وأهم ما فيها أنها من فيروز الصفاء والنقاء في زمن اللاصفاء واللانقاء.
صورة فيروز الصامتة بابتسامتها الهادئة للقائها مع ماكرون أحيت الأمل ورسمت الفرح لدى الكثيرين، فما بالكم بكلمة حتى ولو كانت مقطع أو مطلع أو اسم أغنية من أغنياتها المتجددة داخل الروح اللبنانية والمجددة لها.
فيروز مسؤولة كما الأخوين رحباني (عاصي ومنصور رحمهما الله) عن نشأة أجيال في قلب الوطن الذي فصّلوه على مقاس الحلم الوردي الجميل، و”الضيعة اللبنانية” المستكينة، والرومانسية والنقاء والخجل والعنفوان والكرامة والدفاع عن الحق؛ هي وهما زرعوا في الناس الكثير من الحكايات والصور والقيم، وحكاياتهم كلها رسائل وطنية مغمسة بعطور الإبداع والفن، سواء في “هالة والملك” أو “يعيش يعيش” و”ناس من ورق”… وغيرها الكثير من المسرحيات، بجانب قائمة من الأغاني التي تصلح لكل وقت وزمن.
حرام أن يتم تغييب الصوت الفيروزي تماماً، وكأنها غير معنية بما يحصل لأهلها وبلدها، ونحن نعلم جيداً أنها تتوجع لأوجاعهم وتبكي لآلامهم. حرام ألا يتم تسخير كل وسائل التواصل الاجتماعي لتكون في خدمة السيدة فيروز وتحمل صوتها ولو بعبارات مستقاة من أغانيها، تعبر فيها عن حضورها بجانب كل محبيها. لم تكن يوماً مجرد مطربة وكفى، إنما كانت ومازالت حاملة رسائل وطنية وإنسانية نبيلة، تنثرها على العالم بصوتها المخملي الفريد، لذا لا يجوز أن يسكت الصوت وتتوقف الرسالة في أصعب الأوقات التي يمر بها لبنان.
فيروز ستظل هى الأمل وهى الحلم وهى الصدق الفني الذي نبحث عنه ونحتاجه في زمن طغى عليه الزيف وانتشر فيه اليأس وتمكن من ناسه الإحباط.