رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

مخرج يصنع من “الفسيخ شربات” !

بقلم : سامي فريد

“برجل حمار” – كما يقولون – قدم شيخ مخرجي مصر محمد كريم فيلم “زينب” الصامت.. كان إصراره على عمل الفيلم رغم أنه لم يكن يملك من أدوات تصويره أي شيء.. فلا ديكور ولا بلاتو ولا كرين ولا شاريو ولا عاكسات ضوء النهار ولا أرض يعمل عليها الممثلون أدوارهم، والمفروض أن تكون أرضا زراعية ماشي عليها زينب الإمام، بطلة الفيلم الحقيقة.. إبراهيم حبيبها وهو سائق أسرة الدكتور هيكل مؤلف الرواية.

في هذا الفيلم ومن بدايته إلى نهايته تلعب الصدفة كل شيء. يقول محمد كريم عن فيلمه أو عن عذاب جهنم على الأرض التي عاشها المخرج لا يملك من أدوات تصوير فيلم سوى الكاميرا فقط.. حتى الممثلين لم يكتملوا لدرجة أن الفلاحين في كفر الغنام مسرح أحداث القصة لعبوا أدوارا في الفيلم.. حتى والد إبراهيم البطل لعب دوره شيخ البلد.

يقول محمد كريم: رغم كل هذا أن فيلم زينب الصامت هذا هو الصفحة الأولى في كتاب السينما المصرية، وكانت الصدفة كما سبق أن قلنا هى بداية كل شيء.. فقد ساقت الصدفة القصة المطبوعة إلى حقيبة سفر المخرج إلى الخارج ليقرأها في الطائرة، ثم لتعيش معه بعد ذلك 6 سنوات وكان سبب تفكيره في إخراجها هو نفس السبب الذي دفع الدكتور هيكل إلى كتابتها وهو “الغربة والحنين إلى الأرض”.

وكان يوسف وهبي يبحث عن قصة لتصويرها في السينما فحدثه محمد كريم عن قصة زينب فاهتم يوسف وهبي وقرر إنتاجها وبقيت موافقة المؤلف الذي رفض في البداية أن تتحول إلى شريط سينمائي، لأنها كان يخشى منها كعمل أدبي أن تؤثر على عمله كمحام مشهور، وقال أنه لم يكتب اسمه على الرواية خوفا من ذلك واكتفى بأن يوقعها في النهاية بقلمه (مصري فلاح)، لكنه اقتنع في النهاية وكتب لمحمد كريم تصريحاً كتابيا بإخراجها دون أي مقابل.

ثم بقى أمام كريم تشكيل فريق التمثيل كانت المرشحة الأولى لبطولة الفيلم أمينة رزق لاعتدال قوامها وقدرتها التمثيلية، لكن كريم استبعدها بسبب عملها في المصرح ماتينيه وسواريه، وهو ما يتعارض مع ظروف السينما خصوصا جريهم في البلاد بحثا عن أماكن أو مواقع تصلح للتصوير فذهبوا من أجل المناظر الطبيعية حقول القطن إلى أنشاص وشبرا وقليوب وبلبيس والمرج وبني سويف، هذا إضافة إلى أنهم كانوا “فرجة” لكل أهل الريف الذين كانوا يلتقون حولهم بشكل يعوقهم عن العمل.

وكانت كفر الغنام بذرة زينب الإمام الشخصية الحقيقية في الفيلم كلها مازالت تذكر زينب رغم مرور 25 عاما على وفاتها، كان الجميع يشهدون بجمالها ورقتها وأخلاقها وتواضعها وابتسامتها، فذهب المخرج إلى زيارة أملاك بيتها وبيت إبراهيم حبيبها وبيت حسن الثري صاحب السطوة الذي تنزوج زينب وقهر حبها، والذي وافقت عليه الأسرة لثروته فكان سببا في وفاة زينب التي أصابها الاكتئاب ورفض الحياة حتى ماتت.

وراح المخرج يبحث عن شجرة الجميز التي شهدت “غرام” زينب وإبراهيم الموجودة في المرج..

حكايات كثيرة يحكيها كريم عن عذابه في انتظار سطوع الشمس ليبدأ التصوير.. عذابه لأنه لا يجد حقل قطن لتصوير بعض مشاهد الفيلم.. ورفض الفلاحين الابتعاد عن فريق التمثيل لانشغالهم بالفرجة عليهم..

حتى بطل الفيلم كان بشكله.. فقد أرشد حسن مراد صديق محمد كريم إلى شاب يدرس في كلية الطب اسمه محمود رشوان وجد فيه المخرج شخصية البطل لوسامته وطوله وعرضه وصوته غير أنه لا يصلح للتمثيل بسبب خجله الشديد، فكان يخجل أن يلمس البطلة بهيجة حافظ، وفي أحد المشاهد كان عليه أن يحملها ليعبر بها مساحة من الأرض ممتلئة بالطين فوقف صامتا لا يسمع ارشادات المخرج الذي اختار أحد الفلاحين ليحمل بهيجة حافظ ويعبر هو بها الطين لكن الفلاح رفض وأشار إلى محمود رشوان قائلا: مايشيلها الفحل ده.. مش هو اللي حيتجوزها.. يبقى أنا مالي بيها!!

ولم يكن أمام محمد كريم إلا أن يرسل برقية سريعة إلى سراج منير الذي كان يدرس الطب في ألمانيا للعودة إلى القاهرة وترك أفلام الإعلانات التي يمثلها هناك لشركة “أوفا” الألمانية.. وفرح سراج منير وعاد إلى مصر ليبدأ المخرج إعادة كل المشاهد التي صورها مع محمود رشوان..

حتى البطلة كانت مشكلة لولا أنه تعرف عليها في إحدى الحفلات.. كان بارع في عزف الموسيقى وقد وضعت الموسيقى التصويرية للفيلم، لكن محمد كريم استاء منها بسبب أنها دلوعة تجيد الفرنسية والحمد لله أن الفيلم كان صامتا!

أما في الفيلم الناطق فقد تغيرات الأحداث واستكمل المخرج أدواته… وفي فبراير 1951 بدأ التفكير في إعادة تصوير فيلم زينب الناطق باقتراح من زوجة محمد كريم فوافق على الفور، لكن جبرائيل نحاس لم يوافق خوفا من ألا يوافق الجمهور على صورة الريف المصري في السينما لكن كريم أقنع نحاس بأن الفيلم الجديد سيقوم الدكتور هيكل بتعديل بعض أحداثه وستكون مناظره أكثر جمالا من الفيلم الصامت، وقد حدث.. لكن رأي الجمهور كان مختلفا بعد أن عرف أن راقية إبراهيم هى التي ستقوم ببطولة الفيلم الناطق فاطلعوا عليه اسم “مدام زينب” باعتبار أن راقية إبراهيم لا تعرف اللهجة الفلاحي لكن راقية أحضرت إلى بيتها فلاحة اسمها أم محمد لتعيش معها وتعلمها الحركات الريفية ولهجة الفلاحين.

ونظرا لصعوبة نقل ماكينات تسجيل الصوت إلى الحقول فقد أحضر محمد كريم اكداسا هائلة من فروع الشجر وشجيرات القطن إلى الاستوديو، وتغيرت شخصيات الممثلين، فقد لعبت راقية إبراهيم دور بهيجة حافظ ولعب يحيي شاهين دور سراج منير وفريد شوقي دور (حسن) زوج زينب ودخل الفيلم أيضا سليمان نجيب وعبدالوارث عسر وسيد بدير، وأدى كلام المؤلف الدكتور هيكل محمد الطوخي بصوته الفخم ولعب الموسيقى التصويرية إبراهيم حجاج بدلا من موسيقى بهيجة حافظ ،وانتج الفيلم بشكله الجديد كي يلحق بثائي مهرجان دولي للسينما سوف يعقد في برلين في 12 يونيو، لتبدأ بشائر النجاح والترحيب بالفيلم فكانت كلمة هيكل باشا لمحمد كريم التي قال منها: أهنئك يا أستاذ كريم على هذا المجهود الفني العظيم.. إننا نريد أن يكون عندنا في مصر ريف مثل هذا الريف الذي خلقته لنا في الفيلم.

وسافرت راقية إبراهيم وولي الدين سامح مع الفيلم وغاب محمد كريم لمرض زوجته الألمانية.. رحبت الصحافة الألمانية بالفيلم وأشادت به وبصناعه وكانت منهم جريدة (نوي ترايتنخ) وجريدة (دي نوي شابتونج)، كانت مصر هيىالأولى بلا جدال في هذا المهرجان، لقد اندهشنا كيف تصل مصر إلى هذه المرتبة من الثقافة والاتقان في صناعة السينما وهي حديثة عهد بها.

وكتبت جريدة (ديرتا جر شبيجيل) وترجمتها (مرأة اليوم)، إن هذا الفيلم ثقافي ممتاز يعطي صورة واضحة عن مصر وكل التفصيلات فيه جميلة والتمثيل رائع، لقد رأينا في هذا الفيلم عالما حقيقيا طالما شوهته لدينا الدعايات، رأيناه في صورة سينمائية فوق المستوي.

وكانت فرحة الجميع بالفيلم عظيمة تحدث عنها بكل فخر محمد كريم في كتابه الكبير (مذكرات محمد كريم)، وهو بحق يسجل له وهو الذي صنع كل هذا المجد من معانقة العذاب سنوات!.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.