كتب: محمد حبوشة
بداية أنا ضد نظام الكفالة العنصري، كما هو متبع كنظام قانوني في الغالب في الدول الخليجية والأردن والعراق ولبنان، يحدد العلاقة بين صاحب العمل والعامل الأجنبي الذي تحدث عنه الفيلم الهندي (حياة الماعز)، وذلك على الرغم من أنني عملت بالشركة السعودية للأبحاث والنشر في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي، ولقيت معاملة كريمة من أبناء كفيلي – آنذاك – خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وقت أن كان أميرا للرياض.
ولعل منظمة العفو الدولية انتقدت هذا النظام رغم مبادرة تحسين العلاقة التعاقدية، وهى إحدى مبادرات رؤية السعودية 2030، وقد ألغت هذه المبادرة سلطة صاحب العمل (الكفيل) فيما يتعلق بالتنقل الوظيفي وسفر العامل.
لكنى في نفس الوقت لست مع فكرة أن يتم التشهير ببلد كالمملكة العربية السعودية لمجرد تصرفات فردية لا تحسب على دولة، كما صورها فيلم (حياة الماعز)، في نفس الوقت لا يسعني أن أتخيل قوة الروح الإنسانية وقدرتها على تحمل الحجم الهائل لمدى تقلب حياتنا وطموحاتنا أمام هذا الألم والعذاب كما جاءت أحداث الفيلم.
لاشك أن (حياة الماعز) على المستوى الفني يعد تجربة سينمائية بالغة الأثر على مستوى الأداء والتصوير، وغيرها من عناصر الديكور، فلقد قام (بريثفيراج/ نجيب محمد) بعمل ممتاز بالطريقة التي تحمل بها معاناة هذه الشخصية التي لاهوادة فيها.
ربما يرى البعض أن المخرج (سيلفيريو بلاسي) ابتكر تحفة فنية مطلقة مع (حياة الماعز – The Goat Life)، وذلك بالتعاون مع فريق بأكمله أبدى مثابرة كبيرة في صنع هذا الفيلم الذي استغرق 16 عاما، وهو بالمناسبة لا شيء مقارنة بالسنوات التي عانى منها (نجيب محمد) في الصحراء والسجون التي تخاصم البيئة السعودية.
الرسالة الوحيدة التي أخذتها – إلى حد ما – من الثلاث ساعات (زمن الفيلم)، كانت خمس كلمات فقط يمكن أن تلخص ما أشعر أنه أقوى رسالة للجميع (عليك أن تمشي حتى تموت)، إنه أمر لا بد منه لكل هندي، وكل مغترب، وكل فرد لا يزال يشعر بأنه جزء مما شعر به (نجيب) كإنسان عاجز، لكنه مفعم بالأمل على الرغم من كل الصعاب.
تم تصوير التصوير السينمائي والمشاهد الانتقالية والصحراء وأجزاء من ولاية (كيرالا) الهندية بشكل جيد، وقد تصرف بطل (حياة الماعز) الممثل الهندي (بريثفيراج سوكوماران) بشكل جيد في الواقع،حيث كنت أجده دائما ممثلا ميكانيكيا يسلم سطوره بشكل بسيط للغاية، ويقوم بدوره على نحو احترافي يظهر براعته.
مشكلة الفيلم أنه قصة عاطفية
لكن في النصف الثاني من فيلم (حياة الماعز)، يصبح (نجيب) مع طاقم الممثلين أكثر جودة في الأداء، وخاصة الممثلين العربيين( طالب البلوشي، وعاكف نجم)، ومع ذلك، فإن مشكلة الفيلم هى أنه على الرغم من أنها قصة عاطفية، إلا أن مخرجه (بلاسي) يفشل تماما في إثبات تلك المشاعر الإنسانية التي تميل إلى لون التراجيديا الإنسانية على نجو مؤثر.
ولقد لعب الممثل العماني (طالب البلوشي) دور الراعي السعودي القاسي، إلى جانب الممثل الأردني (عاكف نجم)، وعلى الرغم من حنو الأخير على (نجيب) وانتشاله من الصحراء إلا كلاهما أثار غضب الجمهور السعودي على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب مشاركتهما في الفيلم، ربما جراء تصرفهم بصلف البدوي في بعض المواقف.
ولعلي هنا أعني أن اسم الفيلم هو (حياة الماعز) ربما يشير إلى رمزية معينة، ولكن على الرغم من أن (نجيب) يعيش هناك في الصحراء القاحلة لمدة ثلاث سنوات عجاف مفعمة بالمآسي الإنسانية، إلا أن المشهد الذي يودع فيه (الماعز) لا يثير أي مشاعر، بل يتم الاندفاع بشكل هوجائي نحو نهاية غير منطقية.
أيضا، الكثير من مشاهد (الفلاش باك)، على الرغم من جمالها، تفشل في التسجيل لاحقا وتصبح العلاقة بين (ساينو/ أمالا بول)، زوجة البطل (نجيب) مجرد فكرة لاحقة، كان من الممكن أن يستغل (بلاسي) ذلك الوقت لإظهار علاقة (نجيب) بالحيوانات التي يرعاها في الصحراء، بدلا من أن يعمد إثبات الماعز أكثر إنسانية من الإنسان ذاته
على عكس ما يرى كثير من النقاد الذين تناولوا الفيلم بالتحليل أرى أن الموسيقى كانت مخيبة للآمال بشكل كبير، إنها لم تفعل شيئا لرفع مستوى المشاهد في مواقف كانت تحتاج إلى تضافر الموسيقى مع الميلودراما، ما انعكس ذلك على الكثير من المشاهد التب بدت مسطحة، عدا بعض المشاهد التي احتوت على ترانيم وأغاني تبرز المشاعر الإنسانية.
سواء في مشاهد نجيب مع زوجته في مقاطعة (كارلا) أو مشاهد رحلة المعاناة في الصحراء، ومنها ترنيمة (قطرات المطر تهطل على الرمال، عزف على الزجاجة، يا مصدر الخير).
كان من الممكن استكشاف الفيلم من وجهة نظر فلسفية، لكن المخرج (بلاسي) يتجاهل ذلك ويقدم فيلما سطحيا مع اتصال عاطفي محدود وبدون طبقات أو أهمية، كان من الممكن أن يكون (حياة الماعز) فيلما رائعا، لكنه يظل محاولة جيدة، ولهذا أشعر بخيبة أمل بعض الشيء كمشاهد، فقد كنت أتوقع تحفة فنية مكتملة الأركان في ظل الضجة والدعاية المكثفة التي أثيرت حوله.
طالت رحلة هروب (نجيب)
من أكثر سلبيات هذا الفيلم أنه طالت رحلة هروب (نجيب) في الصحراء كثيرا، ووقع تحت وطأة الملل والمبالغة التي أفسدت جوهر فكرة أن فيلم (حياة الماعز) علاج لتصوير سينمائي، كل مشهد في الفيلم محدد ويتطلب الاهتمام بالتفاصيل التي تبرز المشاعر الإنسانية.
ونظرا لأن الفيلم كان به الحد الأدنى من الشخصية الجوهرية، ولم يكن الجزء التمثيلي أقل من ذلك على الإطلاق، رغم أداء (بريثفيراج سوكوماران) كان واقعيا، أما فيما يتعلق باللعب على الشاشة، فالأمر بسيط وأنيق ولا شيء معقد، لكنه لا يعكس جوهر الفكرة الأساسية.
ربما بدا أن الممثل الهوليوودي (جيمي جان لويس) يضفي العمق والكاريزما على شخصية (إبراهيم قادري)، زميل نجيب الأسير في الصحراء، ويضيف أدائه ديناميكية مثيرة للاهتمام إلى السرد ويعزز الكيمياء بين الشخصيات، لكن الأمر خرج عن مساره الطبيعي بفعل استهداف المخرج الإسقاط الفج على السعودية.
لقد أذهلني التصوير السينمائي، لكن الحوار كان بمثابة خيبة أمل كبيرة جدا، لأنه اعتمد على المبالغة التي تخالف الواقع في كثير من الأحداث، خاصة المبالغة في تصوير الكفيل بأنه شيطان يمشي على قدمين، وكما قلت سابقا: لقد انزعجت من أن الموسيقى لم تكن مناسبة في كثير من الأحيان.
لقد بدا الأمر وكأنهم وضعوا مجموعة من عناصر (بوليوود) النموذجية على ما يمكن أن يكون قصة بقاء مثيرة للاهتمام، لكن لم أتمكن من التواصل مع هذه الشخصيات عاطفياً على الإطلاق بشكل دائم مع سير الأحداث في تصاعدها الدرامي نحو الميلودرما وسوداوية التراجيديا الإنسانية.
قال بعض النقاد – خاصة أولئك العرب الذين صبوا جم غضبهم على السعودية – بأن (حياة الماعز)، تحفة سينمائية تتجاوز الحدود، وتترك بصمة لا تمحى في النفس، على الرغم من أن هذا الفيلم، هو اقتباس مثير لرواية (بنيامين) الشهيرة، حيث ينسج قصة البقاء والمرونة والروح الإنسانية.
ويبدو التألق الفني فقط هو ما يميز فيلم (حياة الماعز)؛ إنه استكشاف عميق للحالة الإنسانية، من خلال كفاح (نجيب)، يتم تذكيرنا بمرونة الروح الإنسانية، والقدرة على البقاء رغم كل الصعاب، إنها قصة يتردد صداها بعمق، وتتناول موضوعات عالمية مثل المثابرة والإيمان والبحث عن المعنى في مواجهة الشدائد.
ومن ثم أوافقهم بأن ما هو جيد: يحتوي فيلم (حياة الماعز) على بعض النقاط البارزة الجادة حيث يتقن (بريثفيراج سوكوماران) دور (نجيب محمد)، متقنا التقلبات العاطفية والمرونة الاستبدادية التي تتمتع بها الشخصية.
القصة تبدو جذابة ولكن؟!
يعيد التصوير السينمائي الحياة إلى التضاريس الصحراوية القاسية وصراعات (نجيب)، مما يجذب الجمهور إلى مكانه، بالإضافة إلى ذلك، فإن القصة تبدو لأول وهلة أنها جذابة، والسيناريو محكم، مما يبقيك مدمنا طوال الرحلة التي تستغرق ثلاث ساعات.
خلاصة القول: يقدم فيلم (حياة الماعز) تجربة سينمائية لا ينبغي تفويتها، بكل عيوبها على كافة المستويات الفنية، فلاشك هناك مشاهد بالغة التأثير بفضل أداء (بريثفيراج سوكوماران) المذهل في كثير من الأحيان، واتقان تقمصة لشخصية (نجيب).
لكن ما هو سيء في فيلم (حياة الماعز): أن هناك بعض العيوب غير المحتملة، إحدى القضايا هى استبعاد عناصر معينة من الرواية الأصلية، مما قد يؤثر على الصدى العاطفي لدى المشاهدين، وخاصة المطلعين على الرواية الأصلية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التصوير المحدود لعائلة (نجيب)، وخاصة زوجته (ساينو)، في مشهدين فقط من مشاهد (الفلاش باك) قد يخيب آمال بعض أفراد الجمهور الذين يتوقعون المزيد من العمق في علاقتهم.
علاوة على ذلك، فإن الشعور بالنقص في النهاية، خاصة فيما يتعلق بغياب (نجيب) عن عائلته، قد يترك بعض المشاهدين غير راضين، على الرغم من هذه العيوب المحتملة، فإن التمثيل الاستثنائي والتصوير السينمائي الآسر والقصة الجذابة – على قدر عيوب السيناريو والحوار – تجعل من فيلم (حياة الماعز) تجربة سينمائية جديرة بالاهتمام.
خلاصة القول: أن اللافت للنظر في فيلم (حياة الماعز) أن هنالك حالة حقد واستهداف كبيرين للسعودية، فرغم أن (نجيب) تمكن من العودة إلى وطنه بعد ثلاث سنوات من الرعب، إلا أنه كافح لتجاوز هذه التجربة، حتى بعد مرور عقود، وخضع للعديد من العلاجات الجسدية والنفسية لاستعادة ما يشبه الحياة الطبيعية.
وهو ماظهر حين تولت عدة منظمات هندية قضية (نجيب)، وبعد عرض الفيلم، انطلقت حملات لرصد الانتهاكات ضد العمال الهنود في جميع أنحاء العالم، ووضع قوانين لحماية هؤلاء العمال ماليا وعقليا.
وأصبح (نجيب) ضيفا متكررا على مختلف البرامج التلفزيونية، ونشرت الصحف والمواقع الإلكترونية مقابلات مفصلة حول محنته لضمان عدم تعرض أي شخص آخر لمصير مماثل.
رد الفعل السعودي العنيف
على الرغم من أن الفيلم كان متاحا على Netflix لمدة خمسة شهور تقريبا، إلا أن رد الفعل السعودي العنيف بدأ قبل أيام قليلة فقط، بعد إضافة الترجمة العربية مؤخرا، مما لفت انتباه الجمهور إلى خبث نوايا الفيلم الهندي بإنتاج إماراتي!
كما أدى النجاح الكبير الذي حققه الفيلم والجدل العالمي الذي أثاره إلى تحويل انتباه العالم العربي، وخاصة المملكة العربية السعودية، نحو الفيلم، وانتقد بعض السعوديين الفيلم حتى قبل مشاهدته.
وهو الشعور الذي ظهر جليا على منصة التواصل الاجتماعي (إكس – تويتر سابقا)، حيث شن مستخدمون سعوديون هجمات شرسة على الفيلم وصانعيه، وتداولوا العديد من الادعاءات الكاذبة حول إنتاجه.
على سبيل المثال، زعمت العديد من المنشورات والتغريدات كذبا أن الفيلم تم تصويره في الإمارات العربية المتحدة، مما أدى إلى انتقادات لكل من الإمارات العربية المتحدة وعمان، موطن الممثل الرئيسي الثاني للفيلم.
وفي الواقع، تم تصوير الفيلم في صحاري الأردن والجزائر، وكذلك في ولاية (كيرالا) بالهند، كما أن مشاركة الممثلين العرب من مختلف الجنسيات لا تمثل الموقف الرسمي لدولهم أو حتى وجهات نظرهم الشخصية.
القصة مبنية على أحداث فعلية وحقائق موثقة تشكل جرائم ضد الإنسانية بشكل عام، دون الانحياز لأي جنسية معينة، إلا أن هذا المنطق البسيط لم يمنع مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من مهاجمة الدول المذكورة.
ووسع النقاد السعوديون وأنصار (نظرية المؤامرة هذه ضد السعودية) هجومهم على صانعي الفيلم، واتهموهم بـ (فبركة اتهامات جاهزة)، واستهداف (أرض الحرمين الشريفين)، على حد تعبيرهم.
ولم يتم تقديم أي سبب منطقي وراء سعي هؤلاء المخرجين إلى تشويه سمعة دولة كبيرة مثل المملكة العربية السعودية، والتي لا تزال تستضيف واحدة من أكبر الجاليات الهندية على أراضيها.
والجدير بالذكر أن رد الفعل السعودي العنيف لم يتناول قصة (نجيب) أو المعاناة التي تحملها، بل بدلا من ذلك، ركز فقط على نية صانعي الفيلم المزعومة لتشويه صورة السعودية، وتشويه سمعة نظام الكفالة.
واتهام بعض الدول العربية بالتواطؤ مع الهند، مع التشكيك أيضا في دوافع Netflix، وهو ما يبدو واضحا بالطبع، ولكن في سياقات لاعلاقة لها بفيلم (حياة الماعز) بل حتى في غيرها من أفلام تسيئ للمجتمعات العربية، وتصورها على أنها معادية للإنسانية.