إبراهيم رضوان يكتب: أسرار (عباس المغربى)

بقلم: الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان

هامش:

إسمى.. ما زال على..خروعتك..

وحروفي في نبض كتابك

غنيت قصايدى.. وسمعتك..

ووجعني في القلب ضبابك

فى المعتقل.. ياما كتبتك..

والبرش علم على ضهري..

عمرى فى ثانية ما كدبتك..

مهما عطش في الليل مهري..

وما زلت عايش فى خرابتك..

يا مجففه أمواج نهري

دي جاكتتي فوق شماعتك..

وما زلت باتحدي ديابك..

كنت مازلت دائخا تحت أثر الصدمة، كيف استطاع مثل هذا الرجل (عباس المغربى) أن يخدع جميع من في السجن؟، أن تنطلى على عقولنا سذاجته المفتعلة وطيبته المزيفة؟، مسكنته وضعفه المثير لشفقة الجميع!

معظمنا كتاب وشعراء وسياسيون وأصحاب فكر.. كيف استطاع هذا الثعبان (عباس المغربى) في جلبابه القديم و سحنته الغارقة في الشقاء أن يغافل كل هذه العقول، أن يدعى الجهل والسطحية بينما في الخفاء يلتهم الكتب قراءة و تحليلا.

لابد من هتك سره، انتظرته في زاوية تحت السور، لمحته خارجا من زنزانته الانفرادية دون أن يتلفت، ماضيا بخطواته المنكسرة نحو الزاوية البعيدة من السور، برأسه الملفوفة في منديل محلاوى كأنها حبة قلقاس ضخمة يعلوها عقد طينية كونها انتزعت لتوها من أرض السبخة.

كانت القلقاسة في المنديل المحلاوى كأنها محمولة في جراب في طريقها إلى وابور جاز يشتعل شوقا لطهيها.

من بين طيات ملابسه أخرج (عباس المغربى) بعض الكتب مشرئبا بعنقه الى البعيد تلفت يمينا و يسارا، اتكأ جالسا يتصفح الكتاب الأول، رغم الشمس الحارقة كان منهمكا في القراءة.

يقلب (عباس المغربى) الصفحات في تأن وتفكر عميق، انتهى من تصفح الكتاب الأول متناولا الثانى، متأملا عنوانه في تدبر ليبدا في فتح الغلاف وكأنه موغل في مغارة يسبر أغوارها.

تأكدت من استنتاجي هو رجل أمن محترف، استطاعوا زرعه بيننا ليرسل لهم بالتقارير عنا ما لم يصلوا اليه منا في التحقيقات يسربها إليهم وأكثر هذا المخادع ببساطته و ادعاء جهله وضعفه.

المشكلة أن (عباس المغربى) يكرهنى إلى حد كاف لأن يملأ تقاريره عنى بكل الضغائن، شعرت أن البئر قد ازداد قاعه عمقا، وازدادت جدرانه التى أحاول تسلقها ملاسة و نعومة.

أتابع (عباس المغربى) في دهشة

كنت أتابع (عباس المغربى) في دهشة انغماسه الشديد فيما يقرأ، لم ألمح بين أصابعه قلما منذ ولوجه عنابر طره، لا أنكر إعجابي في هذه اللحظة بقدراته كرجل شرطه على المداهنة والخداع وكسر طوق الحرص والحذر الذى نجمع فيما يشبه اللغة السرية بيننا على فرضه حولنا.

حاولت تذكر أي علامات لأى مميزات نالها (عباس المغربى) في الفترة الماضية تفضح تعاونه وإدارة السجن، انبثقت في الذاكرة صورتى وأنا في انتظار زيارة والدى ووالدتي بالسجن.

كنت استعد لوصولهم بتجهيز بعض الساندويتشات كتحية لهم بعد عناء شديد في القطارات والتشتت بين أرقام الأوتوبيسات المزدحمة  ما يعقبه من سير على الأقدام المسنة المتعبة حتى الوصول إلى البوابات لتبدأ معاناة الانتظار الطويل الذى يتعمد عبد العال سلومة إذلالهم خلاله بمختلف أنواع الصفاقات و التجاهل.

لاحظت هذا النهار وجود عم (عباس المغربى) في انتظار زيارة زوجته في مكان مجاور، يجلس معها مرتديا جلبابه الذى لم يغسله من طبقات التراب والبقع منذ قدومه.

فقد رفض بشكل هيستيرى ارتداء بدلة السجن لأنه لم يعرف من قبل ارتداء البيجامات، لاحظت أنه لم يقدم لزوجته المتعبة أي تحية، حملت بعض الساندويتشات ووضعتها في صمت مجامل على الترابيزة بينهم.

قبل أن ألتفت مغادرا كان (عباس المغربى) قد أطاح بالساندويتشات بعيدا في عنف غاضب رافضا التحية.. في نهاية الزيارة التي انخرط خلالها في البكاء طويلا جاءه الضابط بأوراق الإفادة بإتمام الزيارة ليوقع عليها فيصرخ من بين نحيبه :

هو البعيد أعمى؟.. أنا لاعمرى قريت كلمة ولا كتبت حرف يبقى أمضى.. إزاى يعنى.. هاتلى بصامه يا جدع انت .

كنت أتذكر أصابعه التي يدفعها في حبر البصامة وأنا مازلت  في مخبئى تحت السور أراقب نهمه في القراءة.. تذكرت ضحكة الضابط وهو يدفع أمامه بالبصامة.. بالتأكيد هى ضحكة إعجاب بإتقان زميله للدور.

لم يستطع إخفائها فانفلتت منه لتفضح لى الآن جانبا من التمثيلية المتقنة، أو قد يكون ضحكه على السذاجة المفتعلة، وقد انطلت علىه هو الآخر بينما (عباس المغربى) قد تم دسه علينا وعلى كل الرتب بإدارة المعتقل أيضا.

صدى صوت (عباس المغربى)

تردد في ذاكرتى صدى صوت (عباس المغربى) وهو يصرخ في صالة الزيارة الواسعة مرددا بين نحيبه :

 دا أنا واحده شافتنى ع الطريق وهما ساحبنى زى البهايم والحديد في إيدى، وهى بتقول للى جنبها: (و دا واخدينه ليه هو راخر.. دا تور الله في برسيمه.. والله العظيم أنا تور الله في برسيمه يا وليه.. أنا تور الله في برسيمه يا سعادة البيه.. أنا تور الله في برسيمه يا جدعاااان .

لا بد أن أحذر الجميع من هذا المندس.. أن نفكر جميعا كيف سنتعامل مع هذه المصيبة.. كان لابد لى أن أراقبه كظله.

في إحدى جولات المراقبة كانت المفاجأة (عباس المغربى) يتردد بشكل منتظم على عنبر اليهود.. يتعامل معهم بأريحية غريبة.. يسأل بشغف من يطمئن على الأحوال عن من عليه الدور في الإفراج عنه والخروج من هؤلاء اليهود.

فقد قدم لهم عبد الناصر عرضا أن كل من يتنازل منهم عن أملاكه في مصر سيتم الإفراج عنه فورا بشرط أن يخرج من المعتقل إلى مطار القاهرة ومنه إلى الدولة التي ترغب في استقباله.

أسرعت بالخبر إلى بعض عساكر النبطشية.. داهمتهم ظنونى بأشد قسوة.. فهم أيضا كانوا تحت أنظاره أثناء النبطشيات.. بالتأكيد قد سجل عليهم بعض الإهمال مثل التدخين وسماع الأغانى.

إقرأ أيضا : إبراهيم رضوان يكتب: رائحة (الخبيزة).. (1)

أحكموا هم الآخرين مراقبته ليخبرنى بعضهم بالمفاجأة.. الكتب التي كان يتصفحها (عباس المغربى) هي كتب جنسية مصورة.. أطلت ظنون جديدة في رأسى.. فقد يكون  المغربى قد كشف مراقبة جنود الحراسة لهم، فأطلعهم على مهمته واتفق معهم على تسريب السر المفتعل.

لابد من التأكد بنفسى.. توجهت إلى عنبر اليهود أسألهم عن سر تردد هذا الضابط السرى لديهم.. أغرقوا جميعا ف الضحك ..

ضابط سرى؟ .. ههههه.. دا جدع غلبان .

طب ايه اللى بيجيبه عندكم كل يوم؟

بيشوف مين فينا عليه الدور في الخروج وهيسيب حاجته فبياخد منها اللى هوه عاوزه

بيشحت الهدوم وكده يعنى؟

بيرفض ياخد أى حاجه غير المجلات اللى فيها صور ستات عريانة.. وأوضاع من إياها.. دا بقى مدمن مجلات .

خرجت من عنبر اليهود أفكر.. كيف تحول هذا الرجل المتدين إلى مدمن للمجلات الجنسية.. هل مات فيه الإنسان وما بقى منه هو حيوانه؟.. هل هو انفصام حاد في الشخصية؟.

أتذكر أنى تركت طرة بعد الإفراج عنى تاركا عم (عباس المغربى) خلف أسواره العالية.. تتردد بداخلى كلماته عن سبب اقتياده للسجن – والله يا إبراهيم أفندى كل اللى حصل انى استلفت  من جدع نقدية.

كم ملطوش.. ولما اتأخرت في تسديدهم شتمنى.. ضربته.. وعشان حظى الأغبر طلع شغال في منظمة الشباب.. هبدنى تقرير انى بشتم ليبيا وروسيا .

و انت شتمت ليبيا يا عم (عباس المغربى)؟

أنا أصلا ما اعرفش حد اسمه ليبيا.. و القطر لفيت به كل ناحيه ما شفتش حته اسمها ليبيا.

طب وروسيا ؟

هو أنا اتجنتت علشان اشتم روسيا اللى بتجيب لنا السمك الروسى الرخيص ؟!.

و..

حارس على الأسوار

فى الكُشك.. فوق السور هناك..

فلاح.. ولابس عسكرى

وجهُه بيشبه للملاك..

دا بعكس تانى مفترى

……………………………

داخل فناء المعتقل..

بصيت عليه.. ورفعت إيد..

بيرد لما بيتسأل..

من (بحرى)..لأ.. م(الصعيد)

……………………………

والله يا محمد.. أنا ..

عايز أشوفك كل يوم..

فى المعتقل.. أنا من سنة..

علشان كده.. مليان هموم

……………………………

يا عسكرى على سور عتيق..

يا معتقل زيى تمام

حاسس بدمعك يا صديق..

ساعة ما اجيلك بالسلام

……………………………

البدله ميرى.. معاها ناى..

والخوف لا ظابط يلمحك

إنزل معايا اشرب فى شاى..

أو آجى ليك.. باستسمحك

……………………………

سلملى ع الأهل العُزاز..

سلملى ع اللى بتعرفُه

مَشْيك يا صاحبى ع القزاز..

جاب قرش.. يا اللا إصرفُه

……………………………

بتبص لىّ بحزن بان..

جوه العيون الطيبة

إوعى تفارق فى المكان..

يا دمعه طاهرة قُريبة

……………………………

بكره أجازة قصيرة..

برضه هاجيلك فى المكان

نورت كل سجون طُره..

يا سيسبان.. جواه ريحان

……………………………

مصحف حضنته بين إيديك..

وفرحت لما شوفتنى

يا عسكرى.. الله عليك..

بكلام رقيق.. شرفتنى

……………………………

صفارة بانت من بعيد..

أنا رايح أدخل عنبرى

جانا النهارده (عقيد) جديد..

جايب معاه الجنبرى

……………………………

يا عسكرى.. يا سوسنة..

يا حبيبى.. يا إبن الأصول

كُل يا حبيبى بالهنا..

ويايا نص رغيف بفول

……………………………

جوه ملامحك أُسرتى..

جوه عنيك الذكريات

يكفيك عذابى وحسرتى..

وضياعى جوه الزنزانات

……………………………

الطيبه جوه عنيك دموع..

على ناس (سجينه) بدون سبب

واقف بتحلم بالرجوع..

للأم.. يا قصر الأدب

……………………………

يا نن عين مصر العمار..

إزى حالك فى البلد..

غول الخراب.. جوه الديار..

ومفيش لأيامك سند

……………………………

النكسه واضحه ف نظرتك..

يا عسكرى على ألف سور

النكسه هى نكستك..

من بعد ما صابنا الساطور

……………………………

من كتاب (مدد.. مدد..)

سيرة ذاتية لبلد