رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(أوبنهايمر) .. فيلم يجمع الدهشة بالكارثة في شريط مبهر!

كتب: محمد حبوشة

ربما يلاحظ من شاهد فيلم (أوبنهايمر) للمخرج كرستوفر نولان، أن هذا الفيلم تمخض عن انفجارين، الأول: أحدث ضجة في كل دول العالم عن: انفجار سينمائي للقنبلة الذرية الأميركية، والثاني انفجار لإبداع طاقم العمل جميعا. ولا شك أن أهمية موضوع (أوبنهايمر) تزداد في هذه الأيام التي تشهد تهديدات نووية من جانب كوريا الجنوبية وغيرها من دول العالم، ولابد هنا أن أسجل إعجابي الشديد بصناعة هذا الفيلم.

رغم اعتراضي الشديد على فكرة تبرئة اليهود من الإقدام على بث سموم الشر في كل أنحاء العالم، وفي القلب من كل ذلك (فلسطين المحتلة) التي تعد بقعة سوداء في تاريخهم المزيف.

اهتمت وسائل الإعلام الإسرائيلية بتغطية أخبار فيلم (أوبنهايمر) في كل دول العالم، وروجت لأنه يحكي السيرة الشخصية التي تشهد تحولات كبرى وتأثيرات عظمى، حيث يحكي قصة اليهودي الذي تفخر به الدولة الصهيونية أبي القنبلة الذرية الأميركية التي حسمت الحرب العالمية الثانية لصالح الولايات المتحدة وحلفائها.

بعد أن ألقيت اثنتين منها على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في 6 و 9 أغسطس 1945م، إنه جوليوس روبرت أوبنهايمر (1904 – 1967م)، عالم الفيزياء النظرية الأميركي، المسؤول أو المتسبب في تدشين الأسلحة النووية وكل ما أعقبها من نتائج كارثية على مستوى الإبادة الجماعية والهيمنة السياسية للدول العظمى وسباق التسلح العالمي والأضرار البيئية المستدامة وغيرها.

والحقيقة – دعنا نعترف – أن شخصية (أوبنهايمر) جديرة بالبحث والاستقصاء، وقد ظهر أخيرا هذا الفيلم ليقدم لنا ضمن إطار سياسي وفكري ملائم، مسايرا للسياق التاريخي وقت الحرب العالمية الثانية وسباق التسلح ضد ألمانيا النازية، والحرب الباردة، والمكارثية.

ولهذا فقد بنى المخرج والسيناريست (كرستوفر نولان) نصه السينمائي على كتاب بيوغرافي مهم يؤرخ لأوبنهايمر صدر عام 2005 – بعد مسيرة تأليف امتدت إلى خمس وعشرين سنة، بعنوان (بروميثيوس الأمريكي جي. روبرت أوبنهايمر: إنجازه ومأساته)، من تأليف (كاي بيرد ومارتن شيروين) اللذين حصلا بسببه على جائزة البوليتزر الشهيرة عام 2006م، وهو كتاب ضخم يقع في 721 صفحة.

أوبنهايمر.. 3 ساعات من المتعة مع كيليان مورفي

أوبنهايمر.. 3 ساعات متعة

ي أثناء مشاهدتي لهذا الفيلم الذي يمتد إلى ثلاث ساعات من المتعة مرت بسرعة غير معتادة، ورغم الخلط بين (الفلاش باك) وبين واقع أحداث سيرة (أوبنهايمر)، التي جسد شخصيته الأيرلندي (كيليان مورفي)، خاصة في عدة مراحل: مرحلة طلب العلم في جامعات هارفرد ثم كيمبردج ثم غوتنغن التي تعلم فيها علم ميكانيكا الكم، وبتفصيل لايبعث على الملل بقدر ما يجنح نحو الإثارة والتشويق نطلع على ميوله السياسية ومخالطته للجماعات اليسارية الشيوعية، ثم لمعان نجمه بعد نشره لكثير من الأبحاث المهمة وإدخاله علم ميكانيكا الكم إلى الجامعات الأمريكية، وتحديدا في كالتك وهارفرد وبيركلي.

وتبلغ قمة الإثارة مداها في (أوبنهايمر) عندما نشاهده قلقا من احتمالية وصول ألمانيا النازية إلى تقنية صناعة القنبلة المدمرة قبل أن تصل إليها أميركا، مما يعني انتصارا مؤكدا لدول المحور.

فيكلف أوبنهايمر بطلب منه – رغم كل الشكوك حول ميوله الشيوعية – بتدشين (مشروع مانهاتن) الذي يهدف إلى اختراع تقنية القنبلة ذات التدمير الشامل، لتكون سلاحا فتاكا يحسم الحرب لصالح أميركا وليكون رادعا للعدو.

إقرأ أيضا : بهاء الدين يوسف يكتب: أوبنهايمر .. سم اليهود وعسل الإنسانية

ثم نراه في مرحلة ما بعد تفجير القنبلتين يعاني الآلام النفسية والشعور بالذنب والقلق من المستقبل والخوف من إطلاق سباق تسلح، ومن استخدام دولته للسلاح النووي في قضايا غير إنسانية.

فيمسي (أوبنهايمر) ناشطا مناهضا لسياسات التوسع في بناء أسلحة الدمار الشامل، ومؤثرا في السياسة الذرية والدفاعية الأميركية، الأمر الذي سيعرضه لحملات تشويه سمعة واتهامات بالعمالة للسوفييت، يقودها بعض من كانوا معه في نفس المشروع، وخاصة شقيقه الذي صنف أنه شيوعي.

الجميل في فيلم (أوبنهايمر) أن (كرستوفر نولان) انتهج أسلوب السرد غير الخطي، موظفا تقنية الاسترجاع الخلفي للمشاهد (فلاش باك) والاستحضار المستقبلي لها بطريقة قد تبدو لأول وهلة عشوائية وتشعر المشاهد بالضياع في أثناء المشاهدة.

اوبنهايمر وسيروس .. نهاية منطقية للفيلم

أوبنهايمر.. نهاية منطقية مفهومة

ولكنها ستغدو في نهاية الفيلم منطقية مفهومة، ويبدو لي أن هذه التقنية السردية معقدة ولكنها كانت مدروسة طوال الأحداث، ولا شك أنها تتطلب عقلا هندسيا قادرا على تحويل مشاهد مبعثرة تسلسليا إلى قصة مفهومة إلى حد كبير في نهاية المطاف.

فضلا عن هذا وذاك، فإن (نولان) عمد إلى تكرار عرض بعض مشاهد الاسترجاع الخلفي ومشاهد الاستحضار المستقبلي بحيث يضيف عند كل إعادة جزءا صغيرا من التفاصيل، وكأنه يعطي دواء بالقطارة.

وعند وصولنا إلى الجزء الأخير من الفيلم تكتمل تلك المشاهد فتتضح الفكرة وتزيد احتمالية حصول الدهشة والانبهار الممتع لدى المشاهد، ويمكننا ملاحظة الخطوط العامة للنص:

جلسة استماع الكونجرس ضد الوزير (ستروس) جلسة استجواب (أوبنهايمر) من أجل نيل تجديد لتصريحه الأمني، ويقطع (نولان) هذين الخطين ليظهر منها مقاطع استرجاع واستحضار تقتحم الخط الأساسي للقصة التي تعرض سيرة (أوبنهايمر) الواقعية والمتخيلة.

وأهم معالمها تأسيسه لمختبر سري في وسط الصحراء في أراضي الهنود الحمر تسمى (لوس ألاموس)، وتجنيده لعلماء الفيزياء والرياضيات من عدة أماكن داخل وخارج الولايات المتحدة وإسكانهم في البلدة التي بنيت على عجل.

ويقتبس نولان السيناريو من السيرة الذاتية  American Prometheus، ويقدم العديد من الروائع الإخراجية إلى جانب زملائه الذين تعاون معهم في فيلم Tenet.

بداية من المصور السينمائي (هويت فان هوتيما)، إلى الملحن (لودفيغ غورانسون)، ووصولا إلى المحررة (جينيفر لام)، حيث  يتم استخدام إطار IMAX  العملاق الذي يبلغ ارتفاعه تقريبا مثل عرضه لإحداث تأثير هائل. ليس فقط لالتقاط المشهد، ولكن للتركيز بشكل درامي على اللقطات المقربة، ولتصوير المناظر الطبيعية الهائلة لنيو مكسيكو حيث يحتل (روبرت) مكانة الرجل الأصغر والأكثر وحدة في التاريخ.

ومن ناحية أخرى، يؤلف (غورانسون) موسيقى حماسية ومثيرة للأعصاب من الأصوات المحيطة، مثل أقدام الجماهير الغاضبة، والتي تتصاعد بوتيرة ثابتة حتى النهاية.

اوبنهايمر .. كيليان مورفي فلورنس بيو في مشهد يتأثيرات صوتية مدوية

أوبنهايمر.. تأثيرت صوتية مدوية

هذا فضلا عن أن (نولان) عمل جنبا إلى جنب مع مصمم الصوت (راندي توريس)، يعرف نولان وغورانسون بالضبط متى يتخليان عن التأثيرات الصوتية المدوية وترك الصمت يتحكم بالكامل، حتى همسات التنفس البشرية.

سواء عند الارتياح أو الرعب المدقع، تصبح سيمفونية خاصة بها عندما يصبح عقل (روبرت) أكثر تركيزا على الكارثة بعد فترة وجيزة من اختبار (ترينيتي).

وهنا يصل الإخراج إلى أوجه، فيلف الشخصية في أعمق مخاوفها وقلقها بجعله حقيقي بشكل مرعب، حتى أنه يمكننا القول أنه أفضل مشهد قام (نولان) بإخراجه على الإطلاق ستعرفونه عندما يحدث.

وظني أن من أهم نقاط القوة التي تحلى بها (نولان)، والتي كفلت له النجاح في أعماله السينمائية هى قدرته على اختيار الممثلين المناسبين للأدوار، فقد اختار لتجسيد شخصية (أوبنهايمر) أحد أهم الممثلين على الساحة الفنية في الوقت الحالي.

إنه الأيرلندي (كيليان مورفي) الذي سبق وأن أدى دور البطولة في مسلسل (بيكي بلايندرز)، وتكمن قوة (مورفي) هنا في قدرته على التحكم بأدائه الوجهي والتعبير بعينيه عن جميع حالات الإنسان ومشاعره.

وهو ما قد بدا على وجهه في صورة قلق حزين مشتت يبحث عن طريقه حين يجسد مرحلة شبابه، ثم يتحول بشكل مقنع فيجسد (أوبنايهمر) في فترة النجاحات، فيكتسب ملامح واثقة متطلعة تضج بالرغبة في الإنجاز بل وينجح في رسم ملامح الغرور والثقة الزائدة والشخصية المسيطرة على بقية العلماء.

ثم نشاهده وهو ينكمش قلقا ورعبا من هول المفاجأة حين تنجح تجربة تفجير القنبلة في الصحراء الأميركية، ثم يعبر بوجهه وحركاته عن شعوره بالندم والخوف ورعبه من المستقبل وما إلى ذلك من مواقف.

أوبنهايمر .. تحفة فنية على كل المتسويات الفنية

أوبنهايمر.. تحفة فنية

فيلم (أوبنهايمر) عبارة عن تحفة فنية بكل المقاييس، كل لقطة، كل سطر من الحوار، كل التفاعلات التي تبدو غير منطقية، الأحداث المتضاربة المتباينة، النتيجة.

إنه فيلم سيرة ذاتية مدته ثلاث ساعات يقدم عناصر فيلم تشويق مثير نادرا ما يتباطأ باستثناء لحظات ليتأمل بها أسئلة الذنب الهائل.

حيث يصور حالة نفسية نابضة بالحياة تتربص في العقل الواعي للبطل، والمبتلى برؤى الدمار الشامل التي تعمل بمثابة تحذير واتهام للجنس البشري في آن واحد.

إنه فيلم يشعرنا بالشلل، ويجعل القلب يخفق، ويخطف الأنفاس، اجتمع كل ذلك في فيلم استغرق تصويره 57 يوما (وفقا لمقال نشرته (الواشنطن بوست).

يتعمق (نولان) في غرور كلا الشخصيتين الرئيستين بطريقة تؤدي في النهاية إلى خاتمة درامية مذهلة تكشف عن التيار الخفي المستمر للندم الذي يحركه (نولان) ويستخرج أداء متفجرا ومتعدد الطبقات من داوني لم نشهده في أي من أفلامه في العشرين عاما الماضية.

تتكشف القصة وصولا إلى تلك الخاتمة كما لو كانت في سقوط حر، وتندفع بشكل هادف بين العديد من المشاهد التي تحدث فيها اكتشافات علمية هامة، مما يجعل (روبرت أوبنهايمر) وفريقه من العلماء المختارين بعناية أقرب خطوة إلى أشخاص بقوى من خارج عالمنا.

لقد أظهر الفيلم تأرجحا حيال (روبرت أوبنهايمر) الفيزيائي اللامع الذي أشرف على مشروع (لوس ألاموس)، حيث ولدت القنبلة النووية الأميركية التي أُلقيت في الأخير على مدينتي هيروشيما وناغازاكي.

فتارة يظهر الرجل بوصفه متحررا وخارجا على النص يريد تقييد استخدام السلاح النووي، ويتعاطف مع الشيوعيين الأميركيين قبل حملة مطاردتهم في العصر المكارثي الذي كان هو نفسه إحدى ضحاياه كما يبين الفيلم.

وتارة يظهر بوصفه المواطن الأميركي الوفي الملتزم بسياسة بلاده والحريص على عودة جنودها إلى وطنهم بأسرع ما يمكن، والمحتفي بإلقاء القنبلتين على اليابان والمتجاهل لآراء أنصار السلام الذين رفضوا من البداية المشاركة في المشروع.

لاشك أنه قد تعددت الآراء حول الفيلم بين من رآه تبييضا لجريمة واضحة لا لبس فيها، ومن رآه عرضا موضوعيا لرجل تصدر لمهمة وطنية لن يتردد عالم نابغ في أي بلد عن تقديمها لبلاده إن واتته الفرصة في ظل حرب بحجم الحرب العالمية الثانية.

ولكن على أيه يمكن اعتباره توثيقا حقيقيا لموقف (أوبنهايمر) في تلك اللحظة بوصفه مواطنا أميركيا وعالم فيزياء ومسؤولا سابقا في البرنامج الذري، بعيدا عن إدانته أو تبرئته على المستوى الأخلاقي في أحداث الفيلم.

ومع ذلك فقد أصابنا الفيلم بمتعة حقيقية، على مستوى الصناعة من سيناريو وإخراج وأداء، واستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي التي كانت واضحة للغاية وموظفة بشكل جيد يزيد الفيلم رونقا وجمالا أكثر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.