رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

ماجد كامل يكتب: يحى الطاهرعبدالله.. سحر (القصة القصيدة)

بقلم: ماجد كامل

رغم مرور أكثر من 42 عاما على رحيله، يحفر (يحى الطاهر عبد الله)، صاحب (الطوق والإسورة) كل يوم مزيدا من التالق والتفرد فى وجداننا الأدبى العربى، فلايزال يحى حتى هذه اللحظه أديبا ثائرا على القهر و(التابوهات) المسكوت عنها من أسرار حياتنا اليومية، كما يظل يحى قادرا على إبهارنا بعالمه الجنوبى الساحر الذى لايزال حكرا عليه بما يضمه من مفرداته الخاصه التى جعلت عدد من النقاد يطلقون على أدبه مصطلحا نقديا جديدا وهو (القصه القصيده) وهى الكتابة القصصيه فى أروع مراحلها بما يشبه سحر القصيدة الشعرية.

صدمة

فارق (يحيي) الحياة عن 43 عاما إثر حادث سيارة علي طريق القاهرة ـ الواحات (أبريل1981) ليحدث رحيله المفاجئ صدمة حقيقية في الأوساط الثقافية والأدبية العربية لما كان يحمله أدبه من طابع متفرد وضعه في منزلة خاصة بين كتاب القصة العرب، وهى المنزلة التي تتعمق بمرور السنوات وتوالي ترجمات أعماله القصصية للإنجليزية أولا لتتبعها ترجمات أخري إلي اللغات الإيطالية والألمانية والبولندية، كما توالت طبعات أعماله فى مصر والعالم العربى.

كان يعنى بهموم البسطاء الذين يقابلهم في رحلة الحياة

التمرد على القوالب

ورغم قصر تجربته الأدبية نسبيا والتي تصل إلي نحو عشرين عاما فقط، إلا أن أدب يحيي الطاهر قد جاء متمردا للغاية على القوالب الثابتة في القصة، حيث أوجد يحيي لغة خاصة به امتزج فيها الحكي أو السرد بلغة شاعرية وايقاعات منغمة ليطلق عليه عدد من النقاد اسم (شاعر القصة) في الوقت الذي أطلق البعض الآخر علي أدبه اسم (القصة القصيدة).

فقد لعب يحيي الطاهر في مناطق غير مأهولة أدبيا، فحلق ببراعة فائقة في عوالم جديدة من الكتابة وكشف لنا عن قري مجهولة ومسكوت عنها في الحياة اليومية في قري الجنوب التي يعرف كل دقائقها، ويخلط يحيي الطاهر في حكاياته عبر أعماله القصصية والروائية بين الحكي والأسرار والتابوهات علي خلفية من التراث وحضور قوي لعالم الأسطورة والخرافة، ويستخدم يحيي الطاهر الرمز ببراعة شديدة في أعماله ليعبر من خلاله عن انسحاق المواطن تحت وطأة آلات القهر والظلم كما تجسد في السينما.

وفي مقدمته للأعمال الكاملة يقول الدكتور جابر عصفور: كانت قصة (جبل الشاي الأخضر) أول ما لفت انتباهي إلي كتابة يحيي الطاهر عبد الله، حفرت حضورها في ذاكرتي بوصفها مثالا دالا علي عالم يحيي الذي تجسد أول ما تجسد بقرية كالكرنك، وجسدها بوصفها نموذجا لأشباهها من القري الغارقة في الفقر والخرافة

الأعمال الكاملة ليحيى الطاهر عبد الله

المثلث الأدبى

ويبدا أول مشاهد رحلة يحيي الطاهر مع ميلاده في30 أبريل1938 بقرية الكرنك بمحافظة قنا، حيث ماتت أمه وهو صغير فربته خالته، وتلقي تعليمه بالكرنك حتي حصل علي دبلوم الزراعة المتوسطة، وعمل بوزارة الزراعة فترة قصيرة حتى انتقل إلي مدينة قنا عام1959 وهناك التقي بالشاعرين عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل ليشكلوا عند انتقالهم للقاهرة مثلثا أدبيا متميزا عبر رحلة صداقة طويلة.

وفي عام1961 كتب يحيي الطاهر أولي قصصه القصيرة (محبوب الشمس) وأعقبها (جبل الشاي الأخضر)، وفي نهاية شتاء عام1962 انتقل عبد الرحمن الأبنودي إلي القاهرة بينما انتقل أمل دنقل إلي الأسكندرية وظل يحيي الطاهر مقيما في قنا لمدة عامين ليلحق في عام 64  بالأبنودي في القاهرة، حيث أقام معه في شقة بحي بولاق أبو العلا، وكتب فيها بقية قصص مجموعته الأولي (ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا).

وبطبيعة الحال فقد جاء انتقال يحيي الطاهر إلي القاهرة بمثابة شرارة انطلاقه وميلاده الأدبي، فقد تحمس كبار الكتاب له لتبدأ شهرته كواحد من أهم وأبرز القصاصين والروائيين المصريين الذين شكلوا ما عرف بعد ذلك بجيل أدباء الستينيات.

وأخذ (الطاهر) في خطوته الأولي بالقاهرة يتردد علي المقاهي والمنتديات الثقافية ليعرف خلالها كظاهرة فنية متميزة، فقد كان يلقي قصصه التي كان يحفظها بذاكرة قوية إلي حد الغرابة منشدا إياها كأنها قصائد، ودونما اعتماد علي أي أوراق، وكان يري في ذلك محاولة لتقريب المسافة بين كاتب القصة والرواة الشعبيين.

وخلال إلقائه لإحدي قصصه في مقهي ريش الشهير بوسط القاهرة والذي ظل لسنوات بمثابة الملتقي الأدبي والثقافي لكتاب الستينيات، استمع إليه الأديب الكبير الراحل يوسف إدريس فقدمه في مجلة الكاتب، كما قدمه عبد الفتاح الجمل في الملحق الأدبي لجريدة (المساء) ليبزغ بعدها نجمه، وتلتفت إليه الأوساط الثقافية والأدبية.

مشهد من فيلم (الطوق والإسورة)

تقنيات جديده

والكتابة عند (يحيى الطاهر) بحسب دراسة (سماح عادل) على موقع (كتابات)، هى انحياز لقضايا بعينها، وهى فهم كيف يعيش البشر البسطاء في ربوع مصر ولا سيما في جنوب وادي النيل، وكيف يرتبط الناس بالمكان وما يحويه من حياة وأسطورة، وكيف يكون الحكي والقص إعادة بناء لعلاقة البشر بالحياة والمكان بناء على تراكم الخبرات والثقافة الحية بما يساعد على إضاءة تجربة الوجود الإنساني، ولذلك فإن أعمال أي كاتب تفصح عن رؤيته في الحياة لأن كل كتابة تقدم فلسفة خاصة في الكتابة وفهماً لدورها في الحياة وتعكس مسؤولية الكاتب تجاه القارئ.

وتجربة يحيى الطاهر فريدة في عالم الكتابة، لأنه كان شديد الحرص على أن تعكس الكتابة تجربته الشخصية، ليس بمعنى الحديث عن الأحداث التي يمر بها في حياته، ولكن بمعنى أن تعكس فهمه لأحداث الحياة.

ومن بين أهم الأعمال المتميزة ليحيي الطاهر عبد الله، قصته الطويلة أو روايتة القصيرة (تصاوير من التراب والماء والشمس) التي صدرت طبعتها الأولي في يوليو 1981 عن دار الفكر المعاصر، وأيضا (الطوق والإسورة) وعقب وفاته قرر المخرج خيري بشارة أن يصنع فيلم مأخوذ عن رواية له، وكان فيلم (الطوق والأسورة)، والذي يعتبر واحدا من أهم أفلام السينما المصرية المأخوذة عن عمل أدبي، وشارك في كتابة السيناريو مع خيري بشارة صديقه عبد الرحمن الأبنودي، وأصبح الفيلم واحد من كلاسيكيات السينما، رغم أنه لم يجد قبولا أو انتشارا على المستوى الجماهيري.

ويأتى التميز في قدرة المبدع علي تصوير الواقع والشخصيات: الواقع بعموميته والشخصيات بتفردها لنصل إلي حالة (واقع الشخصيات) وذلك بلغة الفن، تلك اللغة القادرة علي امتصاص الواقع بحيث يصعب الفصل بين الاثنين، ويكون الواقع مجسدا بلغة الفن، ولكن لا يكون الفن نقلا للواقع.

أسماء يحيى الطاهر عبد الله

ويبدو التميز (ثانيا) أن يحيي قداختار أشخاصا وواقعا يصعب تصويرهما، إلا إذا اندمج الكاتب فيهما وتعايش معهما، إذ إن القصة تتناول الواقع المسكوت عنه للمجتمع، الواقع المعتم، الواقع الـ (تحت تحتي) إن جاز التعبير، ليس واقع المهمشين، كما هو التعبير الشائع ولكنه واقع الخارجين عليه، واقع المشوهين في ظل حقيقة تؤكد جدلية العلاقة بين كونهم إفرازاً لهذا الواقع وكونهم من صانعيه ففي هذا الواقع الذي تنعدم فيه أدني وسائل المعيشة الإنسانية، فلا سكن ولا وظيفة ولا أسرة.

في هذا الواقع يتعرف القارئ علي شخصياته: (قاسم) الذي بدأ حياته في القاهرة شيالا في سوق الخضار، وانتهي بالانخراط في حياة الصعاليك بعد وفاة ابنه وأم ابنه، ثم شخصية رجب الذي تخصص في سرقة الطيور من البيوت، وشخصية (فتح الله) اللص المحترف المتخصص في سرقة الأشياء الثمينة من منقولات وبيعها للمتخصصين، ثم شخصية (إسكافي المودة) الذي ترك مهنته وأسرته وأدمن شراب الخمر الذى لا يستطيع التوقف عنه ، كما أنه لا يستطيع التوقف عن الاحتيال من أجل الحصول علي هذا الخمر ، فنتج عن ذلك علاقة عضوية بين أساليب الاحتيال والحصول علي هذه الخمرة. وكان الكاتب موفقا إذ جرده من اسم مميز كأي إنسان يحمل اسما، واكتفي بمهنته التي لا يزاولها (إسكافي المودة) وإن كانت كل تصرفاته وأقواله تشير إلي شخصية خالدة في الأدب المصري، شخصية تظل حية في عقل ووجدان القارئ، يتذكرها كلما تذكر يحيي الطاهر عبد الله، إنها شخصية المحتال الأعظم، صاحب فلسفة في الصعلكة والاحتيال والموت والحياة

إن يحيي الطاهر يتمتع بوعى قوي بمفردات الشخصية المصرية وقدرة علي صياغة هذه المفردات بلغة الفن، اللغة التي تعيد تشكيل الواقع والشخصيات، ولكن انطلاقاً من هذا الواقع، لغة الفن التي تحوي وتعبر عن أهم خصائص الإبداع، أي الصدق الفني، ذلك الصدق الذي يتوج بتعاطف القارئ مع الصعاليك المشوهين المتمردين علي واقعهم، رغم رفضه لسلوكياتهم

لقد اختار يحيي الطاهر عبد الله لقصته عنوان (تصاوير من التراب والماء والشمس) وهو عنوان دال يرمز للعلاقة بين مكونات الطبيعة (التراب والماء والشمس) وبين الحياة .. ومن خلط التراب بالماء يتكون الطين.. والطين بعد أن يتشكل ولكي يجف وقبل اكتشاف النار، فإن الشمس هى العنصر المكمل لقصة الخلق في الأساطير التي أبدعتها الشعوب في العصور القديمة ففي الأساطير المصرية القديمة، فإن الإله قد خلق الإنسان علي آلة الفخار، وفي ثقافات الشعوب المختلفة أن الانسان خلق من تراب وإلي التراب يعود، وهكذا هى مسيرة الحياة من لحظة الميلاد إلي لحظة الموت، وهي المسيرة التي أكدها المحتال الأعظم – الإسكافي – فيلسوف المودة والتسامح والحب والتمرد والغضب منه وعليه وعلي الواقع الذي أفرزه.

رغم الرحيل

ويبدو أن قصيدة الجنوبي للشاعر الراحل أمل دنقل والتي خاطب فيها (أسماء) ابنة يحيي الطاهر، قائلا: (ليت أسماء تعرف أن أباها صعد، لم يمت)، قد تماست مع أوتار الواقع الذي نحياه، فرغم ذكري رحيل ذلك الجنوبي المبدع التي جاوزت عامها الـ 42) فإن أدبه لايزال يحيا بل ويزداد رفعة وسطوعا وتألقا بمرور الأيام والأعوام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.