رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد شمروخ يكتب: وراء كل محجوب.. سالم الإخشيدى.. ؟!

بقلم: محمد شمروخ

لا أظن أنك تتذكر هذا الاسم وحتى عندما أذكرك به فلن تعبأ كثيرا بتلك الشخصية، هذا مع أن الشخص الذي سيكون سببا لتذكرك، لم يكن ليوجد لولا هذا السالم.

أما محجوب عبد الدايم، فها أنت تضحك مع ذكر الاسم وتستدعى ذكرياتك مع فيلم (القاهرة 30) وكيف كنت تحتقر هذا المحجوب، لكن لولا ذاك السالم لما ظهر هذا المحجوب!

فسالم يا سيدى هو نفسه الشخص الذي مهد لظهور محجوب.

لكن عجبا من تركيز الناس؛ كانوا قراءً للرواية أو مشاهدين للفيلم؛ على شخصية محجوب!

محجوب يسلم إحسان بيديه لعشيقها الجديد

فى حواراته الشهيرة مع رجاء النقاش التى أجراها معه عقب حصوله على جائزة نوبل وأصدره بمناسبة مرور عشر سنوات على الفوز بالجائزة، تحدث نجيب محفوظ عن شخصية (محجوب) بعد حوالى نصف قرن من صدورها، وكانت تبدو الحسرة في كلماته عندما قرر بصراحة أن نموذج محجوب عبد الدايم كان غريبا في فترة الرواية حيث الأحداث في ثلاثينيات القاهرة وظل هذا النموذج محدودا حتى وقت صدور الرواية سنة 1945 مع العلم أن الرواية صدرت في طبعتها الأولى تحمل عنوان (فضيحة في القاهرة)، بل تقبل الناس شذوذ هذا النموذج الذي فقد كل معنى وانتماء للرجولة عند عرض الفيلم سنة 1966.

لكن نموذج (محجوب) كان منتشرا في كل مكان وخاصة في الأعماق القاهرية في تلك الفترات، لكنه طفا على السطح وصار مثالا للنجاح عند البعض بعد إدخال تعديلات عليه ليتناسب مع كل عهد، حتى أنه لم يعد شخصية مثيرة ولعلك تلاحظ أن السينما لم تعرف إلا محجوبا واحدا جسده الفنان الراحل (حمدى أحمد)، في أداء تمثيلى عبقرى تفوق فيه على كل أقرانه في الفيلم.

غير أن الشخص الأسوأ والذي هو أكثر سفالة وانحطاطا من محجوب، هو نفسه (سالم) الذي بدأت به حديثى هنا، فكلما عاودت مشاهدة الفيلم أو قراءة الرواية، أتساءل عن سر تجاهل الناس للنموذج الأسوأ وتركيزهم على النموذج السيء.

والأسوأ هو (الإخشيدي) لأنه هو أس الفساد في المنظومة كلها بصفته الصانع لنموذج محجوب وربما يكون الإخشيدى هذا سبق أن مارس المحجوبية من قبل، بل ويتجلى السوء هذا في انقلاب (سالم) ابن (بهانة العجانة) من طالب ثورى اشتهر بأنه خطيب مفوه يشعل حماس طلبة الجامعة في المظاهرات، لكن بعد مقابلة مع (الوزير) انقلب محجوب من ثورى إلى وصولى. ومن داعية حرب على الفساد – شأن أى ثورى – إلى واحد من أعمدة المفسدين!

 وفساده مستندا إلى الدولة نفسها التى كان يسعى لإصلاحها ثائرا ومتظاهرا، ولكن الحكومة نقلت (سالم) من ساحات الثوار إلى مكاتب المسئولين ليتبوأ مكانته الجديدة كسكرتير لقاسم بك فهمى وكيل الوزارة بأمر من الوزير نفسه والذي لم يحدده محفوظ في الرواية ولا صلاح أبوسيف مخرج الفيلم في الفيلم، لا في شخص الوزير ولا في طبيعة الوزارة، في دلالة واضحة لا تحتاج إلى شروح اختصارها أن التعمية قد تعنى العمومية!

الأب شحاتة يقنع ابنته إحسان بممارسة الرزيلة

وكلا من الوزير والوكيل ولسكرتير العام جميعهم لا يقلون فسادا عن محجوب، بل هم الذين سعوا إليه مثلما سعى إليهم، فلا هم يستغنون عنه ولا هو يستغنى عنهم وتكتمل الصورة بالهدف الأسمى من الفساد، بإيجاد العاهرة والقواد، فلا معنى لفساد تلك المنظومة إداريا وماليا وأخلاقيا بدون هذين وحتى يوجد هذان لإكمال العناصر المطلوبة، فلابد من وجود مثل سالم الإخشيدى.

وفي الرواية المطبوعة، أعطى محفوظ لكل شخصية حقها، وكانت خلفيته كخريج في كلية الآداب ومتخصص في قسم الفلسفة وكمزمع لاستكمال طريقها قبل أن تشغله الوظيفة وتجذبه الرواية، واضحة جدا في أثناء سرد الأحداث وورود أسماء فلاسفة كبار أثروا في ذلك الجيل، مثل أفلاطون وديكارت وبسكال وبرجسون وهيجل وماركس وكونت!.

………………………………

(جاءت الشخصيات في الرواية مشبعة مع أن الرواية ليست بالطويلة وكانت جوانب شخصياتها أكثر ثراءً من الفيلم الذي تحكمه مده محدودة وتكنيك مختلف ولكن الفيلم عبر عن الرواية تعبير جيدا، لاسيما في إتقان تمثيل الشخصيات، خاصة المباراة التى خاضها كلا من سالم الإخشيدى في أداء الممثل الرائع أحمد توفيق، أو محجوب عبد الدايم في شخصية محجوب، التى أداها باقتدار نجم عالمي مع أن كلا الممثلين لم يكونا من النجوم اللامعين في الصف الأول حينئذ).

………………………………

قاسم بك فهمي يقبل عشيقته الجديدة (إحسان) في أول لقاء بينهما

وكان جانب الفساد في الرواية والفيلم يقف فيه كثيرون منهم من هو أسوأ من محجوب، فماذا تقول في السيد (شحاتة ترك) الذي يساوم على ابنته ويحاول مع والدتها دفعها دفعا إلى سلوك طريق الرذيلة للخروج من  حال الفقر المدقع؟!

وماذا تقول في (قاسم بك فهمى) الذي يتفرغ لملذاته ويسخر كل إمكانات منصبه لقضاء شهواته وسط طغمة من الموظفين الفاسدين؟!

وماذا تقول في الوزير (المبهم في الرواية والفيلم معا) الذى سلك أقصر طريق مع سالم الإخشيدى وأغراه بالوظيفة والمركز وراح يرعاه بنفسه بعد التحاقه بمكتب قاسم بك فهمى على الدرجة الخامسة!.

إن المنظومة جميعا منظومة فساد تحملها محجوب عبد الدايم وحده، فهمزة الوصل ما بين محجوب وزوجته (إحسان) وبين قاسم بك هو أس الفساد الحقيقي ولكنه لعبها بذكاء منقطع النظير من البداية للنهاية، فهو الذي بحث عن محجوب بلدياته والصورة المصغرة منه، حتى وجده الزوج المناسب لعشيقة قاسم بك وبخبرته في فرز الفاسدين، وجد محجوب على أتم الاستعداد للعب هذا الدور وعندما تجاهله محجوب أبلغ والده ودله على عنوانه لتقع الفضيحة.

سالم ومحجوب وجهان لعملة واحدة فاسدة

إنه (سالم الإخشيدى) الذي يمارس محفوظ من خلال اسمه، هوايته في توسيع أعيننا إبهارا بما يكتب، فكما أن اسم البطلة الجميلة الفقيرة هى (إحسان شحاتة تركى)، هو وصف مواز لحالتها الإنسانية والاجتماعية من حيث إحسان القدر عليها بالحسن مع انتسابها لأب متهتك وأم ذات ماض غير مشرف، كذلك اسم أبيها (شحاتة) وجدها (تركى)، فهى ليست أسماء بل أحوال ومقامات.

ألم تر إلى اسم (محجوب عبد الدايم)، ذلك الذي لا نراه مع أنه يعيش باستمرار في كل العهود.

وتعال إلى (سالم الإخشيدى)، ذلك الطالب المثقف الثائر الذي يلهب حماس المتظاهرين ضد حكومة إسماعيل صدقى باشا، التى ألغت دستور 1923 وأحلت محله دستور 1930 بقوة البطش في تحالف ضد حزب الوفد ممثل الأغلبية الكاسحة الذي اتخذ منه صدقى عدوا وجاء إلى كرسي الوزارة غير مرة لتشتيت الوفد لإعلاء كلمة الملك الحريص أن تظل كلمته هى العليا.

فما كان الشاب الثائر طالب السنة النهائية في الكلية إلا أن أسلم نفسه للتيار الكاسح، فصار سالم مسالما للتيار الذي يندر أن يقاومه أحد، لأن سالم عشق السلطة وذاق حلاوة القرب منها، فصار عبد لها تماما كما كان كافور عبدا للإخشيد سلطان مصر في العصور الوسط ومنفذا لتعليماته حتى لو كانت التعليمات إعداد (إحسان) بأى وسيلة ولتأتى من وراء محجوب وتتوالى الأحداث وينكشف الأمر.

فيسقط محجوب عبد الدايم.

وتسقط إحسان شحاتة.

ويسقط قاسم بك.

وبينما بقى (سالم  الإخشيدى) في مأمن من كل الشرور، لأنه هو بذات نفسه، صار مصدرا لكل هذه الشرور.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.