رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

د. ثروت الخرباوي يكتب: الكدواني وعائلته عين أعيان الفن


بقلم المفكر الكبير الدكتور: ثروت الخرباوي

إذا فرض جدلا أيها الناس أنني تعرضت لحالة نسيان مثل الحالة التي كان عليها الفنان (ماجد الكدواني) في مسلسل (موضوع عائلي) بالجزء الثاني منه، فإنني لا يمكن أبدا أن أنسى  ذلك الأداء الراقي والمبدع لهذا الفنان الكبير في المسلسل سالف الذكر، وحينما كنت أظن أن الفنان يحي الفخراني هو الأول بين الفنانين المصريين والعرب في عصرنا الحالي، إذا بي أكتشف أن (الفخراني) هو الأول بين متساويين، أولهما ماجد الكدواني ثم عبد العزيز مخيون، مع إعطاء الصديق العزيز توفيق عبد الحميد إبن كليتي ودفعتي في حقوق عين شمس تعظيم سلام عن عبقريته في التمثيل، وقد كان أول مشاهداتي له أيام الجامعة عندما أدى مسرحية (الفتى مهران) وفاز فيها بالمركز الأول.

 ومع ذلك ورغم ترتيب الأوائل من الفنانين إلا أننا يجب أن نُخرج عادل إمام من هذا التصنيف، فهو بدءً من فيلم (زهايمر) عام 2010 وصولا إلى سلسلة المسلسلات التي قام ببطولتها بعد ذلك وأبرزها مسلسل (العراف)، قد وصل إلى أعلى ما يمكن الوصول إليه من تفرد وتميز، ففي الحقبة الأخيرة لعادل إمام ظهرت موهبته الحقيقية مكتملة ومبهرة ومؤثرة بحيث لا يمكن أن ينكرها إلا جاحد.

سيذكر التاريخ اسمه بجوار المليجي وزكي رستم ويوسف وهبي وأحمد ذكي وآخرين

وإذا تركنا عادل إمام في حاله ونحن نتمنى له الصحة وراحة البال وطول العمر، وذهبنا إلى (ماجد الكدواني) سنجده ومنذ بداية مسيرته وهو يمثل حالة فنية خاصة، بحيث ينبغي أن نفتخر به وننتبه إلى أننا نعيش حاليا مع واحد سيكون داخلا في التريب العام لأعلى ممثلين في تاريخ الفن المصري كله، نعم أيها الناس، سيذكر التاريخ اسمه بجوار المليجي وزكي رستم ويوسف وهبي وأحمد ذكي وآخرين، وإذا كان الله قد أعطاه موهبة فذة فقد أعطاه أيضا قبولا وكاريزما، هذا الرجل ينجح دائما في إشاعة حالة من البهجة بين من يشاهدونه في أعماله، وأحسب أنني تابعته منذ فيلم (لا تراجع ولا استسلام) عام 2010 الذي قام فيه بدور ضابط المباحث، وشارك في البطولة فيه مع الفنان الراقي الجميل أحمد مكي، وقد كان هذا الفيلم دافعا لي لكي أشاهد بعض أعماله السابقة مثل حرامية في تايلاند وعسكر في المعسكر لأكتشف أنني أمام ممثل تلقائي يقدم السهل الممتنع بنعومة وجمال، لم أر فيه ممثلا يمثل، ولكنني رأيت فيه إنسانا يعيش الحالة التي يمثلها بكل حب، ومن خلاله عرفت معنى التلقائية في الأداء، وعدم الافتعال، وعدم التصنع، والصدق، والتحكم في نبرات صوته بحيث أنه عندما ينفعل فإن هناك مستوى صوتي له لا يرتفع فيه إلى درجة الإزعاج، ولا ينخفض به إلى درجة البرود، أي أنه بلغة المطربين فإن القرار عنده قريب من الجواب.

وإذا كان هذا لا يميز المطرب ولكنه بلا شك يميز الممثل، بل إن عدم تحكم المطرب في القرار عنده ـ أي الصوت المرتفع ـ فإن هذا يعد عيبا في المطرب، ولكي أضرب لكم مثلا على هذا فإنه علينا أن نستمع للمطربة وردة الجزائرية في بعض أغانيها وهي ترتفع بالقرار إلى أعلى مستوى صوتي، عندها ستظن أنها (تشخط) في الجمهور، لدرجة أنها في أحد ألحان الموسيقار عبد الوهاب لها انفعل عليها عبد الوهاب وقال لها غاضبا بعد أن أدت الأغنية: (إنتي بتزعقي ليه؟!).

الهادئ في طبقة صوته التي لا يرتفع بها حد الإزعاج والصريخ

وقد أردت من هذا المثل أن أقترب بكم من أداء (الكدواني)، وأظن أنني قلت في نهاية المقال السابق أن الكدواني هو (مارلون براندو الشرق)، ورغم أنني لا أميل إلى هذه التسميات إلا أنني وجدت أن الكدواني ينتمي إلى تلك المدرسة (المارلونية) والتي سار على أثرها آل باتشينو وروبرت دي نيرو، هو الهادىء حتى في انفعاله، ولكنه الهادئ في طبقة صوته التي لا يرتفع بها حد الإزعاج والصريخ، ولكن طبقة صوت الكدواني هى طبقة مريحة ومحببة وتحمل كل الانفعالات التي يريد أن يصل بها إلى المُشاهد، إذ أنه في كل الحالات يطوعها كما يشاء بلا اصطناع أو افتعال، ولكنه مع ذلك يؤدي بخلجات وجهه كل مشاعر الانفعال والدهشة والغضب والسعادة بتمكن كبير، وفي لحظات ما في مسلسل (موضوع عائلي) على سبيل المثال من الممكن أن تجد علامات الغباء ترتسم على وجهه فتظن أن أمامك شخص غبي فعلا، ولكنه يتغابي بذكاء شديد، وتشعر بوجهه يُعبِّر عن الشعور بالخوف بحيث تظن أنك أمام شخص جبان بالفعل.

ولكن أبرز ما في (الكدواني) هو أنه خفيف الظل بشكل طبيعي، لا يفتعل الكوميديا، ولا يستجدي الإضحاك، بل هو كوميديان طبيعي مائة بالمائة، إذ هو يماثل في الكوميديا مدرسة نجيب الريحاني، وإمكانات الكدواني ساعدته على أن يبتعد عن كوميديا (الفارس) التي تعتمد على المبالغة والكاريكاتيرية في الأداء والتي وقع فيها كبار الكوميديانات في مصر مثل عبد المنعم مدبولي ومحمد عوض، وفي الغرب يسير عليها جيم كاري.

هل تظن أنني أبالغ؟ أو أن الشغف بأداء الكدواني أخرجني من الموضوعية؟! لا والله، ولكنني أسعى معه إلى الإنصاف، فلم أكن في يوم من الأيام مادحا يسير مع المادحين، أو مبالغا من زمرة المبالغين، ولكن إعطاء كل ذي حق حقه هو ما يجعلني أكتب قناعاتي مهما كانت، مدحا أو ذما، ولذلك سألمس جانبا من شخصية الكدواني في الجزء الثاني، كان مع العائلة في بلغاريا، وكان الفنان محمد شاهين الذي قام بدور (خالد) قد أخذ الكدواني (إبراهيم) في نزهة بالسيارة بزعم مقابلة صديق، وهو في الحقيقة سيقابل العميل الذي سيشتري منه عقدا أثريا، وحينما ترك محمد شاهين الكدواني لينتظره في السيارة، إذا بالكدواني يُجري بعض المكالمات التليفونية، ولأنه مريض بمرض النسيان بسبب ورم في المخ فما كان منه إلا أن نسي أن شاهين ذهب ليقابل صديقه وسيعود، فأخذ السيارة وانصرف ليُحضر البيتزا لعائلته، هذا النسيان السريع جدا لا يتناسب مع طبيعة المرض المصاب به إبراهيم، بل أن المؤلف والمخرج جعلاه مثل المرض الذي أصيب به كريم عبد العزيز (عربي) في فيلم (فاصل ونعود)، ذلك الشاب الذي كان ينسى بسرعة كبيرة كل مشهد يمر به، في حين أن مرض إبراهيم في المسلسل ليس كذلك، وهذا أمر نستطيع به انتقاد فريق التأليف والإخراج فقط، وإن كان يجب على وهو يقوم بالدور أن يقترح طريقة أخرى ليتم بها هذا المشهد، وقد حدثت بعض المواقف الشبيهة في هذا المسلسل مثل ذهابه لطلب عصير لابنته وابن شقيقته، فإذا به لمجرد الوقوف عن الكشك ينسى ما جاء من أجله، هذا النسيان السريع جدا لا يتناسب قطعا مع مرضه.

صولا عمر.. كانت في منتهى خفة الدم واللذاذة

وحتى لا نجور على حق باقي الفريق أدخل إلى شخصية أدت دورا لم يتعد مشاهد قليلة جدا ولكنها كانت في منتهى خفة الدم واللذاذة، لها حضور قوي، وبمجرد مشاهدتها ترتسم البسمة على وجهك، فإذا تكلمت أثارت ضحكاتك، هى الفنانة (صولا عمر) التي لم يسبق لي أن رأيت لها أي عمل من قبل، وإن كان أبنائي قالوا لي إنها تغني ولها نمط معين في الغناء، وأنا أنصحها أن تقوم بأدوار الكوميديا، فهى إن فعلت كانت أعلى كوميديانة في زمننا هذا بعد أن أجدبت الساحة الفنية فلم تُخرج لنا بعد نبيلة السيد وشويكار وسهير الباروني كوميديانة على مستواهم.

لبنى محمود .. خفيفة الظل وطبيعية في الأداء

وقد أعجبني أيضا أداء الفنانة (لبنى محمود) التي قامت بدور (أم إبراهيم)، فهي خفيفة الظل وطبيعية في الأداء، أدت دور الأم العجوز التي أصيبت بالزهايمر بما يجعلها تنسى معظم الأشياء وتخلط بين الشخصيات، وإن كنت أعيب على فريق التأليف والإخراج أنهم في الجزء الثاني جعلوها في مشهد من المشاهد وهى المصابة بالزهايمر تتحول إلى الأم الحكيمة الواعية العارفة بكل ما يدور حولها، والعارفة لكل الشخصيات بلا خلط، وكأنها فردوس عبد الحميد في طيبتها ووقارها وحنانها، فتقوم بإسداء النصيحة لابنها (إبراهيم) كي يتصالح مع إبنته (سارة) رنا رئيس، كيف هذا يا سيادة المخرج ويا حضرة السيناريست، هذا يتعارض مع طبيعة الشخصية التي شاهدناها عبر الجزأين.

نور .. أدت دورا دل على تطور نضوجها

أما الفنانة اللبنانية نور فقد أدت دورا دل على تطور نضوجها، واستطاعت أن تتحكم في الشخصية التي تؤديها ببراعة، سواء في انفعالاتها أو في هدوئها، واقترب أداؤها في بعض الأحيان من الكوميديا التي تعتمد على المواقف، بحيث أستطيع القول إنها أصبحت الآن فنانة كبيرة تستطيع أن تؤدي كل الأنماط ببراعة كبيرة.

محمد القس.. الرهيب المخيف اللذيذ، صاحب الدم الخفيف

ويا للفن الذي ينجب كل يوم فنانا كبيرا، إنه (محمد القس) أو (غازي) الرهيب المخيف اللذيذ، صاحب الدم الخفيف، هذا هو المجرم الذي يقوم بأدوار الإجرام بطريقة مضحكة، وهو صاحب إفيه (حبيبي) الذي ينطقه بطريقة جميلة أثناء تعديه على أحد الشخصيات، أو أثناء تعبيره عن حبه لأحد الشخصيات، سيان عنده،  وهذا هو أول (إفيه) يشتهر بين المشاهدين من شخص شرير خفيف الظل يظهر في عالم الفن بعد إفيهات توفيق الدقن، آآآآلو يا أمم، وهمبكة، والعلبة دي فيها إيه، حبيبي يا أستاذ محمد القس، أعطيك الأستاذية على أداءك في هذا المسلسل.

ياسمين وافي (أم ليث) .. مفاجأة كبيرة لي

وقد كانت ياسمين وافي (أم ليث) مفاجأة كبيرة لي، فقد كنت أظن أنها ممثلة لبنانية ثم عرفت أنها إبنة الفنان الراحل ممدوح وافي، أتقنت ياسمين دورها ووصلت به إلى حد الإجادة، والحقيقة أنا أتعجب من هذا المسلسل الذي كان أداء الجميع فيه طبيعيا وتلقائيا، وأظن أن المخرج هو الذي تحكم في هذا الأداء الراقي، وأظنه ببراعة استطاع أن يجعل من (أم ليث) قنبلة من الضحك، والغريب أنها أضحكتنا وهى تؤدي دورها بجدية شديدة وصرامة وجه، وهذا لو تعرفون أمر عظيم.

وكان مسك الختام أغنية (بنت أبوها) التي غنتها الموهوبة (هنا يسري) ابنة الفنان الراحل إبراهيم يسري، فقد كان أداؤها متدفق بالمشاعر والأحاسيس، ويقينا أحسب أنني ظلمت بعض الشخصيات التي لم يتسع لها المقام، فأرجو أن يسامحوني ولكن كلهم كانوا في منتهى الروعة.

هنا يسري ..أداؤها متدفق بالمشاعر والأحاسيس

ولا يبقى إلا أن أطالب المخرج بجزء ثالث، لا محيص ولا مناص عن هذا وأيم الله، فمن واقع مقالي الأول عن هذا المسلسل خاطبني أحد القراء وقال لي: إن الله وهبه بنتين هما الآن في سن الشباب الأول، وكانت كل واحدة منهما منشغلة عنه بدروسها واهتماماتها، وهو أيضا كان منشغلا عنهما بتحصيل لقمة العيش آناء النهار مع بعض أطراف من الليل، ولكنه فوجئ  بهما بعد أن شاهدتا المسلسل يقتربان منه جدا!، لدرجة أنه بكى وهو يكلمني وختم المكاملة بقوله: لقد أصبحت حياتي مع بناتي أفضل وأقرب بعد هذا المسلسل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.