رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عصام السيد يكتب : قصتى مع عزيز عيد

بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد

قررت إدارة المهرجان القومى للمسرح برئاسة الفنان (يوسف إسماعيل) أن تخصص دورتها الخامسة عشر للاحتفاء بالمخرج المسرحى – بعد أن احتفت الدورة الماضية بالمؤلف – و أهدت هذه الدورة لروح الفنان (عزيز عيد) أول من أرسى قواعد فن الاخراج المسرحى فى مصر فى أوائل القرن الماضى ، و قد أحسنت الإدارة بهذا الاختيار ، فالرجل – بشهادة معاصريه – أسس لهذا الفن و أبدع فيه بموهبة نادرة وكان سابقا لعصره فكرا و فنا . و لكن تاريخ الرجل يكاد أن يكون مجهولا بالكامل وجهوده التى بذلها لم يتم تسجيلها أو دراستها بما يليق ، برغم ريادته و تأثيره الكبير على الحركة المسرحية المصرية ، فيكفيه أنه الاب الروحى و المعلم لأغلب نجوم ذلك الزمن.

و لأن لى قصة طويلة مع (عزيز عيد) يعلمها الصديق الناقد و الشاعر (جرجس شكرى) عضو اللجنة العليا للمهرجان فقد رشحنى لإخراج حفل الافتتاح ، و قبلت الإدارة ترشيحه ، و اتصل بى ، و معه الصديق (يوسف إسماعيل) لترتيب وقائع الحفل الذى يضم عادة فى بدايته عملا فنيا قصيرا ، فكان اقتراحى بتقديم افتتاح مختلف عما يتم عادة فى المهرجانات يتلخص فى تقديم عرض مسرحى قصير عن (عزيز عيد) ، فوافق الاثنان و تحمسا للفكرة . و من هنا انطلقت إلى عالم ذلك الرجل مرة أخرى بعد أن استغرقنى لسنوات ثم انصرفت عنه.

المخرج المبدع (عزيز عيد)

و تبدأ قصتى مع (عزيز) فى تسعينيات القرن الماضى عندما قرأت كتاب ( من أجل أبى سيد درويش ) للأستاذ (حسن درويش) و الذى روى فيه الوقائع التى صاحبت خروج أوبريت (العشرة الطيبة) للنور فى نسخته الأولى التى أخرجها (عزيز عيد) ، و ما أثاره هذا العرض من معارك سجل وقائعها فى كتابه ، و عندما رُشحت لإخراج عمل لفرقة (الأسكندرية القومية) التابعة للثقافة الجماهيرية و التى كانت تتميز فى ذلك الوقت بقدرتها على تقديم الأعمال الغنائية، ففكرت فى تقديم الأوبريت مختلطا بالأحداث التى صاحبته و أدت إلى إيقافه برغم نجاحه ، و صارحت الكاتب و السيناريست الأستاذ (محمد السيد عيد) بتلك الرغبة بصفته المسئول عن الفرق القومية فى ذلك الوقت ، و لكن المشروع لم يظهر للنور.

و تتلخص تلك الوقائع فى أن (عزيز عيد) تعمد فى مشهد انعقاد مجلس الوالى التركى أن يدخل ذلك الوالى و هو يدوس على ظهور أتباعه الذين كانوا يغنون قبل دخوله (لجل ما نعلا و نعلا و نعلا ، لازم نطاطى نطاطى نطاطى)، و برغم أن المسرحية تدور فى عصر المماليك و تفترض أحداثا لم تقع بالفعل ، إلا أن المشاهدين فهموا المغزى الحقيقى وراء الأوبريت و الذى حاول المؤلف إخفاءه خلف قناع من الرمزية. و يقول الأستاذ (بديع خيرى) مؤلف أغاني الأوبريت في مجلة (أهل الفن) عام 1923: (يصل النقد اللاذع في الرواية قمته في مشهد اجتماع الوالي بمجلس الوزراء فقد أصيب رئيس الوزراء بمغص داخلي في الأمعاء، وأصيب الوكيل بصداع داخلي بالمخ ويجيب رئيس الوزراء عند سؤاله عن الوزارة بقوله: أصيبت بخلل داخلى في جميع أجزائها. و يقدم كل وزير تقرير عجيب عن سير العمل كان أروعها تقرير وزير (العدل) حيث يقول: (أخبار العدلية يامولاى كثيرة جدا أولها إصدار قرار بحبس المتهمين قبل محاكمتهم ، وثانيا إلغاء لفظ محامى من جدول القضاء ، وثالثا أن يكون القاضى أخرس أطرش مكسح أعمى). و خلال الأوبريت تعددت أوجه النقد للمجتمع المصرى ، و اعتمدت على المواجهة غير المباشرة بين الحكام و (الفلاحين) . فأحد الخطوط الرئيسية فى الأوبريت يعتمد بشكل أساسى على قيام اثنين من أتباع الوالى بعدم تنفيذ أوامره بقتل 5 رجال و خمسة زوجات سابقات له ، و يظهر (العشرة) فى نهاية الأوبريت ليتزوجوا مما جعل بعض النقاد يفسرون أن هؤلاء (العشرة) يرمز بهم إلى الشعب المصرى المغلوب على أمره ، و أن الزواج الجماعي الذي اختتمت به الرواية بين هؤلاء العشرة أقوى رمز على الحياة والانتصار الذي يتنبأ به المؤلف للشعب ، إلا أن مشهد دخول الوالى أثار حفيظة البعض و اعتبروا أن المقصود منه الإساءة للخلافة العثمانية !!

رواية (العشرة الطيبة)

كانت هناك معركة كبرى تدور فى مصر منذ سنوات للمطالبة بالعودة إلى حضن الخلافة العثمانية ، و يعتبرون ذلك مقاومة للاحتلال الإنجليزى الذى استقر فى مصر منذ 1882 ، و تبنى هذا الاتجاه الزعيم مصطفى كامل و حزبه الوطنى ، و لم يدرك أنه يقاوم الاحتلال بالعودة إلى احتلال آخر استقر منذ قرون ، و لكن كانت تلك مفاهيم العصر ، و بالطبع لم تعدم مصر من كانت لديهم بذور رؤية أخرى مفادها: أن مصر للمصريين ، بعيدا عن الاحتلال سواء التركى أو الإنجليزى ، و لكنها لم تكن رؤية مكتملة.

وسط تلك المعركة ظهر الأوبريت و بالتحديد بعد هزيمة تركيا فى الحرب العالمية الأولى على يد إنجلترا و حلفائها ، و لهذا رأى البعض أن هجوم الأوبريت على الوالى التركى هو هجوم على الخلافة العثمانية كما كتب بعض الصحفيين . و على الفور تم اتهام (عزيز عيد) و (بديع خيرى) بممالأة الاحتلال الإنجليزى، و لأن كاتب المسرحية (محمد تيمور) تركى الأصل أخرجوه من المعادلة و ادعى البعض أنه قد تم التغرير به وإلباس روايته معان لم يكن يقصدها . أما (نجيب الريحانى) – منتج الأوبريت والذى لم يمثل فيها – فقد نال من الاتهامات ما هو أكثر ، فلم يتوقف اتهامه عند حدود العمالة للاحتلال البريطانى ، و إنما تعدتها لاتهامه أنه ضد الخلافة الإسلامية بسبب ديانته المسيحية ، حتى تجرأ بعض الأوباش على إثارة الشغب داخل المسرح أثناء عرض الأوبريت.

نجيب الريحاني

لم تكن تلك الوقائع السياسية هو الوحيدة التى كشف عنها الأوبريت ، بل كانت تمثل سياقا فنيا مختلفا عما هو سائد فى ذلك الوقت ، فهى تعتبر أول (أوبرا كوميك) فى مصر (بتعبيرات ذلك العصر)، أى أنها كانت سابقة فنية و نوعا جديدا من المسرح يقدم لأول مرة ، كما تكشف عن أسلوب الإنتاج المسرحى فى ذلك العصر و طريقة تعامل الفنانين مع بعضهم البعض ، وأسرارا لا يعلمها الجمهور عن هؤلاء الأساطين. و ظل مشروع تقديم (العشرة الطيبة) بما حولها من معارك و ظروف سياسية وتناقضات اجتماعية و شخصيات ثرية يداعب مخيلتى.

و مرت سنوات قلائل توليت بعدها إدارة المسرح الكوميدى التابع لوزارة الثقافة، بترشيح من الكاتب و المفكر الكبير الراحل (الاستاذ سامى خشبة) رئيس البيت الفنى للمسرح ، و الذى اتفقت معه على تحويل هذا المسرح إلى (مركز ثقافى) و ليس دارا لعرض المسرحيات فقط ، فوافقنى على وجود نشاط ثقافى و فنى إلى جانب العروض، و بالفعل عقدت ندوات تخص الكوميديا منها ندوة عن كتاب النكتة السياسية للكاتب الكبير (عادل حمودة)، و أقمنا امسيات شعرية لكبار شعراء العامية (صلاح جاهين، عبد الرحمن الأبنودي، محمد بغدادى، بهاء جاهين، أمين حداد، محمد بهجت) واستضفنا معارض كاركاتير، و طبعنا كتبا لم يطبعها غيرنا.

و ذات يوم اتصلت بى الصديقة الفنانة القديرة (صفاء الطوخي)، ليبدأ فصل جديد من علاقتى بـ (عزيز عيد).

و للحديث بقية..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.