رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

راجعين يا هوى .. مسلسل مبهج وسط غيامات النكد الرمضاني !

أفيش المسلسل

كتب : محمد حبوشة

تستهدف الدراما عواطف الجماهير وتقديم حقائق واقعية في شكل حوار مبسط يجسده فنانين لهم القدرة على جذب انتباه الجماهير والتأثير على عواطفهم، فضلا عن كونها تسعى لتحقيق البهجة والفرحة من خلال الدراما الكوميدية، وأيضا تحقيق الرفاهية وهدوء الأعصاب، كما أنها تهدف إلى ترسيخ فكرة ما في عقول الجماهير من خلال مناقشتها في شكل درامي مميز مثل التعاطف مع الشارع في قضاياه المختلفة بحيث تعكس الواقع بشكل كبير، وتؤثر على المفاهيم العقلية وتوضح العيوب الخاصة بالبعض، كما أن لها دور كبير في التربية من خلال ما تقدمه من فن راقي .

ومن بين تلك الأنواع من الدراما مسلسل (راجعين ياهوى) الذي استطاع أن يحجز لنفسه مكانة مميزة بين المسلسلات الناجحة في الموسم الرمضاني المزدحم بعشرات الأعمال الدرامية المتنوعة، وربما يكمن السبب في المراهنة على مؤلفه (عراب الدراما) المبدع الراحل أسامة أنور عكاشة، صاحب الروائع الدرامية التي لا تحصى، وأبرزها: (ليالي الحلمية، رحلة أبو العلا البشري، الشهد والدموع، الراية البيضا، أرابيسك، الحب وأشياء أخرى، كناريا وشركاه، المصراوية، زيزينيا، عفاريت السيالة)،  وغيرها الكثير من الأعمال الدرامية التي ارتبطت بالذاكرة الرمضانية، ولا يزال الجمهور يذكرها بكثير من الحنين والشغف.

محمد سليمان عبد المالك

وفي مثل هذا المناخ من التحفز، انتظر الجمهور عرض المسلسل، الذي سبق أن قدم في العام 2004 كمسلسل إذاعي، ثم جاء بعد معالجة الحوار والسيناريو وكتابتهما على يد (محمد سليمان عبد المالك)، الذي استطاع ببراعة أن يحول النص المكتوب قبل عصر (السوشيال ميديا) إلى نص يواكب هذا العصر بمتغيراته، مع المحافظة على روح أسامة أنور عكاشة الحاضرة في العمل، والذي اشتهر بكثرة شخصياته الدرامية وغزارتها وعمقها، إذ لا توجد في أعمال عكاشة شخصية هامشية، في إطار دراما صراع العائلات،  التي تعتبر ميزة أعمال عكاشة.

طارق عبد العزيز
إسلام إبراهيم
شريف حافظ

تعامل (محمد سليمان عبد المالك) مع المسلسل الإذاعي كمادة خام وتمكن من تطوير الشخصيات والأحداث والخطوط فيها في شكل دراما تلفزيونية من 30 حلقة، لذلك وضع في اعتباره إضافات وتعديلات، وأهم التعديلات كانت شخصية الدكتورة (ماجي) التي أدتها الفنانة نور، فهي أساسا كانت شخصية دكتور اسمه (فضل) وزوجته اسمها ماجي، وفضل كان من سيقابله (بليغ) في الطائرة في رحلة عودته إلى القاهرة، لكنه أضاف ماجي وجعلها تقابل بليغ ويحدث بينهما خط رومانسي، كذلك أضاف شخصيات أخرى مثل أصدقاء بليغ، كشخصية (عبدالله مختار/ طارق عبد العزير، والمحامي رؤوف/ إسلام إبراهيم) أما شخصيتا ابني شقيقي بليغ، (مدحت إسلام جمال)، و(عمرو/ شريف حافظ)، كانا موجودين بالنص الأصلي لكنه قام بتطويرهما وأنشأ لهما مسارات درامية واجتماعية، وكذلك  شخصية الحلاق كانت سطرا واحدا في النص فطورها بشكل أكبر، وراعى (عبد المالك) في تطوير الأحداث والشخصيات أن يكون ذلك من دون الإخلال بعالم أسامة أنور عكاشة.

ومنذ بداية مشروع (راجعين يا هوى) نجح (عبد المالك) أن يخرج المشروع وهو يحمل روح أسامة أنور عكاشة، فيقول: أنا والممثلون والمخرج والجميع استطعنا أن نضع بصمتنا وروحنا أيضا، ليكون العمل جسرا بين الأصول والمنابع، وهذا واضح جدا في المسلسل، ولقد أحببت تلك الفرصة الجميلة، وقد يكون الجمهور الذي كان يبحث عن (راجعين يا هوى) بروح الثمانينيات قد أحبط ولم يجد ما يبحث عنه، لكننا في العموم قدمنا المسلسل مع الحفاظ على الخطوط العريضة والجذور وقدمناها بروح 2022 وكنت أحاول أن أحقق المعادلة الصعبة، وهو ما تحقق بالفعل في صناعة مسلسل استطاع أن يستقطب قكاعا كبيرا من الجمهور وسط منافسة شرسة مع أعمال وطنية واجتماعية أخرى، خاصة أنه أضفى عليه روح (اللايت كوميدي).

عرض مسلسل (راجعين يا هوى) في قالب اجتماعي بسيط في زحام الماراثون الرمضاني وهو ما يعد (مغامرة مرعبة)، تحدث عنها عبد المالك قائلا: (كنت مرعوبا لأسباب عدة، فمن ناحية مسؤولية اسم أسامة أنور عكاشة، وفي المقابل الأساطير التي بنيناها عن الأعمال التي تنجح في رمضان، على الرغم من إيماني أنه ليس معقولا أن نقدم كل سنة نفس الموضوعات التي أعجبت الناس من قبل، ولا بد من التغيير والمحاولة، ومع كل ذلك توقعت ألا يلقى المسلسل نجاحا في العرض الأولي وسط زحام رمضان، وقلت ربما سيشاهده الناس في الفترة بعد رمضان، أو قد يتابعونه في منتصف رمضان بعد هدوء نهم المشاهدة ومنافسة الأعمال الصاخبة من حيث النجوم والموضوع، ولكننا فوجئنا بنجاحه منذ الحلقة الأولى وأنه يتصدر الترند، ومواقع التواصل الاجتماعي، وتفاعلت الناس وارتبطت بالشخصيات وعالم أسامة أنور عكاشة، وأسعدنا أكثر أن المتابعة جاءت من أعمار مختلفة، لكن المفاجأة أن الأجيال الجديدة والتي تعرفه كاسم فقط ارتبطت بالمسلسل وتفاعلت معه).

خالد النبوي .. شخصية خفيفة الظل

ظني أن بطولة خالد النبوي للمسلسل ولعبه شخصية (بليغ أبو الهنا)، كانت إحدى نقاط القوة بالعمل، وعلى الرغم من أن خالد قد لا يكون موفور الحظ في النجاح اللحظي لأعماله، لكنه حقق معادلة صعبة ونجح منذ الحلقات الأولى، وقد ساهم في ذلك كون (خالد) هو ممثل ونجم يملك قدرات تمثيلية عظيمة وحقق نجاحات عالمية، ولكن نتيجة الارتباك الذي عايشناه لسنوات، لم يأخذ حقه كما يجب على الرغم من نجاحه الساحق في أعمال ملحمية مثل (ممالك النار)، قد أحبت شخصية (بليغ أبو الهنا) بفضل موهبة واجتهاد (النبوي) المعروف عنه دأبه الشديد في التركيز على التفاصيل، ومن ناحية أخرى نجح المخرج محمد سلامة في تقديم العمل كما تصوره كاتب العمل وبما يتناسب معه، حيث لديه موهبة طاغية في ترجمة النص وتحويله إلى عمل جيد بشكل بسيط ومن دون تعقيد.

أعجبني جدا خالد النبوي بأدائه العفوي خاصة أنه بدا لي من أولئك الذين لديهم ميزة استقبال المزاح بصدر رحب: وامتاز بحس الدعابة والروح المرحة ليؤكد على شخصية (بليغ أبو الهنا) بأنه من المتصالحين مع أنفسهم ويتقبلون أخطاءهم ومنفتحين عليها، ولا يوجد لديهم مشكلة في أن تكون دعاباتهم ومزاحهم على أنفسهم وعلى تصرفات ومواقف هم من قاموا بها، هذا دليل على تقبل الذات والثقة بالنفس، وتعد هذه الصفات نادرة قل ما تجد أحد يتمتع بها، فهي مفتاح للراحة وللحياة السعيدة البسيطة الخالية من التعقيد، و(النبوي) في هذا يعتمد على الذكاء وسرعة البديهة: إن رسم الابتسامة على وجوه الآخرين بشكل سريع وعفوي أمر في غاية الصعوبة ويحتاج إلى مجهود عقلي كبير وذكاء عالي، فالشخص المرح يحتاج إلى فهم الموقف بشكل سليم وإدراك شخصية الأشخاص الآخرين، واختيار التوقيت المناسب واستخدام الكلمات اللينة غير الجارحة.

كل هذه عوامل أخذها (خالد النبوي) بعين الاعتبار قبل التفوه بأي كلمة حتى يصل كلامه إلى الجميع، لذا يتقبلونه بصدر رحب، لهذا بدا لي من الأشخاص المرحين الذين يرسمون الابتسامة على مشاعر الآخرين بالدعابة والفكاهة وخفة الظل والروح الجميلة، دون أن تكون هذه الدعابة على حساب شخص آخر ودون إيذاء مشاعر الآخرين أو ذكر صفة معينة بشخص ما، والذي يمكن اعتباره نوعا من أنواع التنمر، حيث إن هناك فارق بسيط بين رسم الابتسامة على وجوه الآخرين بالدعابة الإيجابية التي يتقبلها ويضحك لها الجميع وبين رسم الابتسامة على وجوه الآخرين بالتنمر والإساءة، الأمر الذي لا يتقبله أحد وينبذه الجميع، لذا كان ديدن (النبوي) التفاؤل والنظر للأحداث بإيجابية.

أحمد بدير
وفاء عامر
نور
أنوشكا

وبجانب بطل القصة النجم والفنان المميز صاحب الكاريزما الهادئة (خالد النبوي)، والذي قدم شخصية (بليغ أبو الهنا) بآداء سهل ومتعايش مع الشخصية باقتدار وسلاسة وبشكل استطاع جذب المشاهد، تأتي زهرة لبنان الجميلة النجمة (نور) ذات الملامح و الطباع الرقيقة والإطلالة الناعمة الرشيقة لتضيف أجواء من البهجة للمسلسل، بالإضافة للنجمة الشابة (هنا شيحة) المقلة في أعمالها ويعد هذا العمل ظهور جديد لها على الشاشة بعد غياب، ويضم المسلسل باقة متنوعة من كبار النجوم من أجيال مختلفة منهم  أنوشكا التي تجسد  دور (شريفة) زوجة أخ (بليغ أبو الهنا) وتجيد (أنوشكا) تلك أدوار بطبيعتها الأرستقراطية والتي تجعلنا أمام نموذج أرستقراطي حقيقي، بجانب النجمة (وفاء عامر) والتي قدمت دورها ببراعة ومهارة وفي غاية الإتقان والجمال والخفة، فتظهر صورة المرأة الشعبية على طبيعتها وفطرتها من حيث الاهتمام بالإكسسوارات  المبالغ فيها، والمفاجأة كانت في أداء (نور خالد النبوي) في شقاوة الشباب وحضور بالغ الأثر في شخصية (طارق) التي لعبها بعذوبة أطلقت مواهبه في الأداء التمثيلي.

إضافة إلى كل من سبق، كان للتصوير والإخراج دور كبير في شعبية المسلسل؛ فالمخرج محمد سلامة استطاع أن يأسر الجمهور بصورة جمالية عبر التصوير في الأماكن الأثرية كـ (حي الجمالية) وشارع المعزّ والحسين، وأن يروّج للسياحة في مصر بطريقة راقية وجميلة، وبالطبع لا يمكن تجاهل بصمة أسامة أنور عكاشة على مسلسل (راجعين يا هوى)، فالحبكة التي تعتمد على التضاد بين أساليب العيش المختلفة هي واحدة من لزماته المتكررة في أعماله السابقة، فلدينا الجانب الشعبي مقابل الجانب الأرستقراطي، المتمثلان هنا في عائلة يسرية مقابل عائلة شريفة، بالإضافة إلى شخصية العجوز الحكيم المتمسك بتراث العائلة والعيش في أحضان حي الجمالية العتيق، رافضا التخلي عن ماضيه الذي نراه هنا في شخصية عم بليغ (جابر أبو الهنا/ أحمد بدير)، بالإضافة إلى الحي نفسه الذي يمثل جزءا من تاريخ القاهرة القديمة.

سلمى أبو ظيف
نور النبوي

هذا بالطبع بالإضافة إلى قصة الحب المستحيلة بين ابني العم (طارق/ نور خالد النبوي) و (ولاء/ سلمى أبو ضيف) اللذين تحمل عائلتيهما المشاعر السلبية تجاه بعضهما البعض، مما يثقل العلاقة بالأعباء منذ بدايتها، ألا يذكرنا ذلك بقصة (علي) ابن سليم باشا، و(زهرة) بنت سليمان باشا في مسلسل ليالي الحلمية؟، ناهيك عن (بليغ أبو الهنا) بشخصيته الباحثة عن المتاعب، والتي تميل للفشل، وترك العلاقات العاطفية دون حسم هي مثال متكرر على شخصيات أخرى قديمة لأسامة أنور عكاشة أشهرها (حسن) في مسلسل أرابيسك، الرجل في منتصف العمر الذي يتمسك بأفكار ومبادئ مجردة فيفشل بكل طريقة ممكنة في حياته الواقعية، وحياته العاطفية عبارة عن فوضى من المشاعر والنساء المتهافتات على حبه ولا يدري كيف يختار بينهن وبين العزوبية.

وأخير حقق مسلسل (راجعين ياهوى) المعادلة الصعبة في الدراما الرمضانية مؤكد أن الحنين للماضي لا يفسد جماله بقدر ما يزيد من المتعة في ثوب عصري، كل ما سبق مع تتر هادئ وجميل بصوت (مدحت صالح) المميز وكلمات أغنية تأخذك لماضي جميل ولمشاعر مليئة بالحب والدفئ العائلي، كانت كلها أسباب موضوعية لنجاح مسلسل (راجعين ياهوى) .. فتحية تقدير واحترام لصناعه الذين جلبوا لنا المتعة في موسم رمضان 2022.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.